هي الفتنة العمياء أوقد نارها ** مغيظٌ رأى أن الجهاد موفق
هذا مطلع قصيدة للشاعر
السوداني أحمد محمد صالح، صاغها في عام 1955
عندما انطلقت شرارة التمرد في جنوب السودان، وكان الرجل عضوا في أول مجلس للسيادة
(رئاسة الدولة)، بعد نيل السودان استقلاله عام 1965، وانتهى التمرد عام 2005، فبعد
أن فشل
الجيش على مر العقود على دحره، لم يكن من سبيل سوى تعيين قائده (جون قرنق)
نائبا لرئيس الدولة (عمر البشير)، ثم انفصل جنوب السودان في عام 2011 وصار دولة
مستقلة.
ومنذ منتصف نيسان/ أبريل المنصرم، وفتنة الحرب التي أشعلها من حسبوا أن
محو قوات الدعم السريع أمر سهل وميسور مستعرة، وهذه القوات كانت في الأصل مليشيا
قبلية قوامها أبناء قبيلة الرزيقات في جنوب إقليم دارفور، وقامت حكومة عمر البشير
التي سقطت جزئيا وشكليا في نيسان/ أبريل 2019 بتسليحها وتوسيع مواعينها، ومنحها
اسما فيه نكهة القداسة (ق. د. س= قوات الدعم السريع)، وأوكلوا إاليها أمر قمع
التمرد الذي بدأ عام 2003 في دارفور، فأبلت بلاء سيئا من الناحية الأخلاقية، وبلاء
حسنا من الناحية العسكرية، فقد تميز جنود الحركة بشراسة مفرطة بأن مارسوا عمليات
قتل المدنيين بالجملة ونهبوا الممتلكات وأحرقوا القرى، ولكنهم وفي سياق كل ذلك دحروا التمرد، وارتفعت أسهمهم لدى
الحكومة عندما دمروا قوات حركة العدل والمساواة الدارفورية في معركة قوز دنقو عام
2016، وبهذا النصر فاز قائد تلك القوات، محمد حمدان دقلو (حميدتي) برتبة لواء ثم
فريق.
ومن يتابع وقائع الحرب التي تدخل شهرها العاشر بعد أيام في السودان،
يعجب لكون الجيش الوطني يخسر الموقع تلو الموقع أمام قوات الدعم السريع، ولا مجال
للعجب والدهشة فلم يسبق للجيش السوداني أان حسم أو هزم حركات تمرد اقل عديدا
وعتادا من الدعم السريع، في بلد ظلت الجماعات المتمردة على السلطة المركزية تتناسل
وتتكاثر، لأن الحكومات المتعاقبة في السودان، لم تكن تفاوض أو تساوم إلا حاملي
السلاح.
ولكن عجز الجيش السوداني عن دحر الحركات المتمردة، ليس مرده بالضرورة
ضعف القدرات القتالية، بل أساسا لكون الحرب مع المتمردين وفي كل مكان، لا تكون حرب
مواقع وجبهات ثابتة، بل تقوم من جانب التمرد على تكتيك اضرب واهرب، ولهذا فشل
الجيش الأمريكي بكل جبروته العسكري في هزيمة "متمردي" فيتنام، وفشل في
دحر ثوار الساندينستا في نيكاراغوا، وفشل الجيش السوفييتي الأكبر عديدا وعتادا في
العالم على مر الزمان في هزيمة "المتمردين" على حكومة الأراجوزات في
أفغانستان، وفشل جيش بريطانيا العظمى في حسم مليشيا الحزب الجمهوري الإيرلندي، وها
هم حفنة من المقاتلين المزودين بأسلحة خفيفة في غزة يصمدون ببسالة وجسارة، في وجه
أحد أقوى جيوش العالم للشهر الثالث على التوالي، وهذا ما لم يحدث خلال المواجهات
بين الجيش الإسرائيلي والجيوش العربية النظامية.
ولكن مصاب أهل السودان في جيشهم الوطني مؤلم للغاية، فالحرب التي
تدور رحاها في مختلف أقاليم ومدن السودان، لم تشهد حتى الآن الكر من جانب الجيش،
بينما تتكرر عمليات الفر من جانبه، فتساقطت العديد من المواقع والمدن في قبضة قوات
الدعم السريع، فما كان من قادة الجيش إلا ان عكفوا على اصدار المناشدات للمواطنين
لحمل السلاح لقمع "التمرد"، وما حدث في مدينة ود مدني، آخر مغانم الدعم
السريع، يؤكد أن الجيش لا يملك من الموارد ما يجعله قادرا على تسليح المتطوعين،
فقد صرح قائد قوات "المُسْتَنفَرين" بأنه كان يجلس في غرفة العمليات
العسكرية في المدينة، عندما انتبه الى فرار الجنود، فما كان منه إلا أن فر بدوره،
وبرر ذلك بأنه كان مزودا ببندقية فيها طلق ناري واحد.
مصاب أهل السودان في جيشهم الوطني مؤلم للغاية، فالحرب التي تدور رحاها في مختلف أقاليم ومدن السودان، لم تشهد حتى الآن الكر من جانب الجيش، بينما تتكرر عمليات الفر من جانبه، فتساقطت العديد من المواقع والمدن في قبضة قوات الدعم السريع
وبينما تنشط قوات الدعم السريع على جبهة العمل الإعلامي، ويحرص
قائدها محمد حمدان دقلو حميدتي على إصدار بيانات رصينة محشوة بوعود تكريس الحرية
والديمقراطية والحكم المدني (وهي المبادئ التي ظل ينسفها خلال فترة شهر العسل بينه
وبني عبد الفتاح البرهان قائد الجيش) فإن الناطق الرسمي باسم الجيش ظل صامتا طوال
الأشهر الخمسة الأخيرة، بينما يواصل البرهان الطواف على الحاميات العسكرية البعيدة
عن
المعارك، ليحدثهم عن الهزيمة الوشيكة "لما تبقى من الدعم السريع"،
وبأنه لن يفاوض قيادة تلك القوات حتى تخرج من المواقع التي تحتلها، وكأنه يصدق أنه
في موقع قوة ويستطيع إملاء الشروط على الدعم السريع، وأن الأخيرة ستتنازل عن مكاسب حققتها بالنصر العسكري جبرا
لخاطره.
ولا تغيب عن فطنة أحد، أن البرهان وكعادته منذ أن جلس في القصر
الجمهوري في الخرطوم، رئيسا لمجلس السيادة وقائدا عاما للجيش، يمارس
"الاستهبال"، وهو أن تفترض أن الآخرين بلهاء، ومن ثم صارت تتعالى
النداءات بإزاحته من منصبه العسكري، حتى من غلاة المساندين للجيش في معركته ضد
الدعم السريع، فبينما حميدتي شبه الأمي يظهر هنا وهناك ويطوف بالعواصم الأفريقية
مرتديا مسوح رجل السلام وداعية الحرية والديمقراطية، يواصل البرهان إطلاق الرصاص
على قدمه بالكلام الأرعن والكذب الصراح فخسر بذلك أيضاً، حرب الأثير والإعلام.