يمكن القول بأنّ السبب
المباشر في الخلافات التي تعصف بمجلس الحرب
الإسرائيلي هي المقاومة الفلسطينية
وبالأخص حركة حماس، حيث استغلت حركات المقاومة هذه الخلافات وعملت على تعميقها من
خلال استراتيجيات عسكرية وإعلامية وسياسية، ويبدو أنّ هذا الاستثمار يتجه إلى أن
يُعطي أكله ولو بعد حين في صورة انقلاب عسكري محتمل وقادم في إسرائيل.
على الرغم من أن
الخلافات بين
نتنياهو والعسكريين تتجذر بشكل تاريخي، إلا أنّها بدأت تظهر إلى
العلن وبشكل جدي بعد محاولات إسرائيل الفاشلة في تحرير الرهائن بالقوة، وعلى الأخص
عندما قتلت إسرائيل ثلاثة من جنودها الأسرى وهم يحملون الراية البيضاء. وعلى إثر
احتمالية توثيق المقاومة للعملية ظهرت الخلافات الإسرائيلية إلى العلن، فقادة
الجيش يتهمون نتنياهو بأنه يسعى لاستغلال هذه الحرب للتغطية على الفشل الأمني
الذريع في أعقاب طوفان الأقصى وكذلك إطالة عمره السياسي والتخلص من قضايا الفساد
المطروحة أمام القضاء، ونتنياهو يتهم قادة الجيش بالتقاعس وعدم أداء المهام ويتهمهم
كذلك بأنهم وراء الهزائم المتلاحقة في قطاع
غزة.
لقد وصلت حدة الخلاف
بين نتنياهو وقادة الجيش وعلى الأخص وزير دفاعه "غالانت"؛ درجة أنه كان
من المقرر أن يعقد غالانت اجتماعا عاجلا مع رئيس أركان الجيش هرتسي هاليفي، ورئيسي
الموساد دافيد برنياع، وجهاز الأمن العام "الشاباك" رونين بار، بشأن
العمليات العسكرية والحرب مع حماس، حيث كان مقررا إرسال نتائجه إلى نتنياهو
للموافقة عليها، بيد أن رئيس الوزراء تدخل لمنع إتمام اللقاء، وذلك بحسب تقرير
للقناة 12 الإسرائيلية. ويبدو أنّ مساعي نتنياهو لعرقلة مثل هذه الاجتماعات تأتي
في سياق مستمر من تحميل الجيش هزيمة الحرب في غزة. ويرسل نتنياهو رسائله المستمرة
إلى قادة الجيش بأنهم لم يعد موثوقا بهم لتلقي معلومات استخباراتية وسرية عبر
الموساد أو الشاباك.
لم تقتصر فقدان الثقة
ومحاولات نتنياهو المستمرة في إذلال قادة الجيش على منع تلقي المعلومات السريّة،
بل امتدت إلى التفتيش الجسدي الذي نفذته حارسة بمكتب نتنياهو لرئيس الأركان
الإسرائيلي هرتسي هاليفي، حيث منعت الحارسة الأخير من الدخول إلى اجتماع أمني مع
رئيس الوزراء إلا بعد إجراء تفتيش بدني كامل للتأكد من عدم حمله أجهزة تسجيل.
منذ بداية الحرب على
قطاع غزة كان من الصعب تصور الحديث عن انقلاب عسكري في إسرائيل وذلك لأن مسؤوليها
حاولوا أن يظهروا أنفسهم متماسكين ضد أكبر حملة وهجمة تعرضت لها إسرائيل في
تاريخها، إلا أنّه وبعد الفشل العسكري الذريع في قطاع غزة وبعد الفشل في تحرير
الرهائن والمحتجزين الإسرائيليين بدأت معركة خفية بين نتنياهو والجيش وبدأت تظهر
بوادر وأحاديث عن انقلاب عسكري محتمل.
وفي التطبيق العملي
لهذا الصراع انضم نجل نتنياهو إلى فكرة أن الجيش الإسرائيلي والمخابرات علما بهجوم
حماس ولكنهما لم يفعلا شيئا لمنعه وذلك محاولة منهم لتنفيذ عملية انقلاب عسكري.
وعلى الطرف المقابل شهدنا تحولا مهما في المشهد الإسرائيلي خصوصا بعد التصريحات
التي أدلى بها رئيس الأركان السابق في الجيش الإسرائيلي، حالتوس، إذ تظهر هذه
التصريحات أن هناك تغييرا قادما في استراتيجية الإطاحة بنتنياهو من الجهود
السياسية إلى إمكانية نشوب حرب أهلية أو حتى انقلاب عسكري للإطاحة بالرجل الذي يتم
تحميله كامل المسؤولية عما جرى في مستوطنات الغلاف في السابع من تشرين الأول/
أكتوبر وما يجري حاليا من غرق في مستنقع غزة.
علينا القول إنّ هذه
التصريحات من أكثر التصريحات خطورة وواقعية في إسرائيل، إذ أنها تأتي عبر أكبر
مسؤول عسكري سابق، وذلك لأن عدم التواجد في الحكومة الإسرائيلية يوفر لهذا المسؤول
بعض الحرية للإدلاء بتصريحات قد تصدم المجتمع الإسرائيلي. ثم إن تصريح حالوتس مبني
على الوقائع والحقائق، إذ أنه أشار خلال مؤتمر حركة الاحتجاج الإسرائيلية في حيفا،
إلى أنه لن توجد صورة للنصر في الحرب بل هي صورة للخسارة فقط وذلك بسبب وجود أكثر
من 1300 قتيل (مع تزايد مستمر) و240 مختطفا و200 ألف نازح. ويضيف حالتوس بأن النصر
الوحيد هو الإطاحة بنتنياهو.
وانضم " نائب
رئيس الأركان السابق يائير غولان إلى حالتوس ليتهم نتنياهو باتباع نهج الكذب في
الحرب، ودعا إلى إبرام صفقة مع حماس لإنهاء الحرب بدلا من أكاذيب نتنياهو.
بعد كل هذه التفاصيل يبدو
بأن تكتلات عسكرية وسياسية بدأت تأخذ شكلا أكثر جدية للإطاحة بنتنياهو سواء عبر
التحركات السياسية أو حتى الانقلاب العسكري، حيث يبدو أنّ هناك تنسيقا بين الوزير
في مجلس الحرب الإسرائيلي بيني غانتس ووزير الدفاع غالانت، حيث رفضا المشاركة في
مؤتمر صحفي عقده نتنياهو. كما يبدو أن هناك احتمالات لعملية تنسيق مع الدول
الغربية كذلك.
وللتدليل على إمكانية
التنسيق مع الدول الحليفة، علينا ألا ننسى التقارير المتعددة التي أشارت إلى
العلاقة العسكرية الوثيقة بين بريطانيا وإسرائيل والتي أشار إليها مارك كورتيس في
موقع Declassified""
البريطاني، حيث أشار إلى أن التعاون العميق يرقى إلى درجة التحالف ويشمل التدريب
العسكري البريطاني للضباط الإسرائيليين والتدريبات المشتركة وصفقات الأسلحة.
وفي هذا السياق تظهر
نتائج مؤسسة "Action on Arm Violence" أن ثماني دول أرسلت ضباطها إلى بريطانيا لإجراء تدريبات؛
شهدت انقلابات عسكرية، حيث تم تدريب هؤلاء الضباط في الأكاديمية العسكرية الملكية
العريقة "ساندهيرست". وشملت هذه الدول كلا من مالي والنيجر ومصر
وتايلاند والسودان وبوروندي وتشاد والغابون. وارتفع عدد الضباط المرسلين إلى
الكليات العسكرية البريطانية من 96 في عام 2017 إلى 149 في 149 ضابطا. وتحتل
إسرائيل مراتب متقدمة على قائمة المشترين للأسلحة البريطانية بعد السعودية التي
اشترت ما يعادل 2.5 مليار جنيه إسترليني من الأسلحة البريطانية، بينما اشترت
إسرائيل أسلحة بريطانية بقيمة 400 مليون دولار. ويبدو أن هذه الأرقام ارتفعت للغاية
بعد عملية طوفان الأقصى، حيث دعمت بريطانيا إسرائيل بالسفن الملكية وطائرات التجسس
بالإضافة إلى تقديم العتاد والدعم اللوجستي المستمر.
ختاما، لقد كان لتصاعد
المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي وتوثيق العمليات العسكرية ضد جيش
الاحتلال الدور الأبرز في تعزيز الخلافات في الصفوف الداخلية الإسرائيلية، ونسف ما
سعت إسرائيل إلى إظهاره من تماسك ووحدة خلال ثلاثة أشهر من الحرب على قطاع غزة،
ويبدو أنّ عمق الخلافات بين الجيش ونتنياهو وصلت حدا بدأ فيه الحديث عن انقلاب
عسكري للإطاحة بنتنياهو الذي بدأ يُنظر إليه على أنه تهديد وجودي ولا يرغب بالاعتراف
بالهزيمة وإنهاء الحرب.