ولأن
مصر لا يصلح لها سوى عسكري، يضبط الأمن داخلها،
ويحمي حدودها، ويخيف أعداءها ويلقي في قلوبهم الرعب، فإن اقتراحي لحل أزمة
المفاوضات حول سد النهضة يتلخص في بدء جولة جديدة من المفاوضات بتشكيل عسكري، بدلا
من الخيبة الثقيلة التي بدا عليها الوفد المصري المدني على مدى السنوات الماضية،
فلا يفل الحديد إلا الحديد!
فما ذكره عضو الوفد المصري في المفاوضات علاء الظاهري
مفزع ومهين، ويكشف رعونة المدنيين وجبنهم، فمن الواضح أن الوفد الإثيوبي يحاسبهم
"حساب الملكين"، إلى حد أن يستنكر تشييد مصر للعاصمة الإدارية الجديدة
بشكل أحادي، وكأن المطلوب من مصر إذا همّت بفعل شيء أن تستأذن الجانب الإثيوبي.. صحيح
أن الاعتراض ربما يكون مبعثه أن العاصمة الإدارية تحتاج إلى
مياه كثيرة، لكن كان
على الجانب الإثيوبي أن يعلم أنه من يملك التحكم في المياه من خلال السد، ومصر لم
تطلب أكثر من حصتها التاريخية، سواء بنت هذه العاصمة أو لم تبنها، اللهم إلا إذا كان
النقاش يدور حول "الحاجة" لا حول "الحق"!
ما ذكره عضو الوفد المصري في المفاوضات علاء الظاهري مفزع ومهين، ويكشف رعونة المدنيين وجبنهم، فمن الواضح أن الوفد الإثيوبي يحاسبهم "حساب الملكين"، إلى حد أن يستنكر تشييد مصر للعاصمة الإدارية الجديدة بشكل أحادي، وكأن المطلوب من مصر إذا همّت بفعل شيء أن تستأذن الجانب الإثيوبي
المدني "خرع" بطبعه، وقديما قال حاكم مصر
العسكري البكباشي جمال عبد الناصر في خطاب جماهيري حاشد إنه ليس خرعا مثل مستر
إيدن، يقصد أنطوني إيدن رئيس وزراء بريطانيا (العظمى حينذاك)، ولا أعرف المبرر للحرص
على أن يسبق اسمه بـ "المستر" في سياق اتهامه بأنه خرع!.. ولولا شهادة
الشهود بأن إنجليزية عبد الناصر سليمة، لقلت إنه تصور أن "مستر" اسمه
و"إيدن" هو اسم الوالد، تماما عندما اعتقدنا في السنة الأولى لدراستنا
للغة الإنجليزية أن الرد على "صباح الخير" بجملة مكتملة هي "جود
مورننج آند سير"، فلما رددنا بها على معلمة في أول لقاء وقفت تتأمل تبديد
أنوثتها من أول طلعة لها، وبدا أنها تعتقد وهي ابنة البندر أن هؤلاء التلاميذ
الصعايدة يتعمدون إهانتها احتجاجا على عمل المرأة!
ما علينا، فعليه فلا بد من أن يُستبعد المدنيون من وفد
المفاوضات ويعاد تشكيل الوفد من العسكريين الكبار، فلا يفزعهم الإثيوبيون ولا
يتدخلون في عمل من أعمال السيادة في الداخل المصري مثل بناء العاصمة الإدارية، فلا
يصد الوفد ولا يرد!
قلة حيلة المدنيين:
لقد أعلن وزير الري المصري هاني سويلم فشل المفاوضات مع
الجانب الإثيوبي، وقال الرجل كلاما يسيء للكرامة الوطنية، ويكشف جبن المدنيين،
وقلة حيلتهم، بالإعلان أنه على مدى عشر سنوات من المفاوضات مع الجانب الإثيوبي حدث
الملء الأول، والثاني، والثالث، والرابع. واعتقدت في بداية الأمر أن ما أقرأه مزور
ومنسوب له ظلما، وحملقت في صورته وتصريحه، فقد يكون "محمد ناصر" مذيع
قناة "مكملين" وهو قريب الشبه منه، فإذا بي أكتشف أنه ليس ناصر ولكنه
هاني، وأن ما قاله لم يقله عبر برنامجه "مصر النهاردة" ولكن في برنامج على
إحدى القنوات المصرية، فهالني هذا الضعف والهوان!
مع كل جولة مفاوضات أعلن من مكاني هذا فشلها، ومع كل
إجراء يتحدون به الملل، مثل اللجوء للاتحاد الأفريقي، أو مجلس الأمن، أو للوسيط
الأمريكي، أُعلن الفشل بمجرد الإعلان، ولم يحدث في مرة واحدة أن خابت توقعاتي،
الأمر نفسه حدث قبل جولة المفاوضات التي انتهت قبل أيام، حتى والجنرال يهدد بأن
"العفي لا يأكل أحد لقمته". ومع كل فشل كان يوجد لدى القوم بديل، فيخرجون
من جولة فاشلة لجولة فاشلة، ومن جولة مفاوضات إلى مجلس الأمن، وبعد إقرار المجلس
بعدم اختصاصه يكون البديل هو الاتحاد الأفريقي، وعندما يتم الإعلان عن عدم قدرته على التوفيق، يكون اللجوء لمجلس الأمن مرة أخرى، أو لجولة أخرى من المفاوضات تنتهي
بالفشل أيضا.
تقريبا تم اللجوء للاتحاد الأفريقي مرتين وربما ثلاثا،
وتم اللجوء لمجلس الأمن مرتين وربما ثلاثا، لكن وبعد عشر سنوات يبدو لي من تصريحات
الوزير المختص أن الجانب المصري "استنفد مرات الرسوب" وليس أمامه من
خيار آخر، وقد كان دأبه معنا على مدى عشر سنوات من الفشل أن يتحدى الملل بخلق فرصة
جديدة، في مسار التفاوض والحل!
وقد أشفقت على أولي الأمر منهم بعد هذه النتيجة، وقد مرت
عدة أيام على إعلان الفشل، ولا يجوز أن يكون الحل هو أن يقفوا مكتوفي الأيدي، فإما
قصف السد في عملية عسكرية، وإما الإعلان عن إلغاء الاتفاق المقيد لحق مصر في
التصرف، وهو اتفاق المبادئ!
ولأن الحرب ليست مطروحة على جدول أعمال القوم، وكذلك
إلغاء الاتفاق المقيد، فقد كنت أنتظر ماذا هم فاعلون، لكن بعد تصريحات علاء
الظاهري، أيقنت أنه لا بد من جولة جديدة يمثل مصر فيها العسكريون بعد أن شاهدنا
الأداء المرتجف للمدنيين، إلى درجة أن يخضعوا بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض،
ويتدخل في شؤون مصر الداخلية، فيسأل الوفد الإثيوبي كيف أقدمت القيادة المصرية على
بناء العاصمة الإدارية الجديدة بقرار منفرد، ولم يبق إلا أن يطلبوا توثيق عقود
زواج المصريين في سفارة الباب العالي الإثيوبي في القاهرة، كشرط من شروط صحة
العقد، فلا يتم الزواج إلا بموافقة أولي الأمر في الآستانة.. أقصد إثيوبيا..
فبالقياس على الموقف من بناء العاصمة الإدارية الجديدة،
التي تحتاج لمياه كثيرة، فيجوز لإثيوبيا أن تتدخل في زواج المصريين، لأنه سيعقبه إنجاب،
ومع زيادة أعداد المصريين يكون الاحتياج لحصة أكبر من مياه نهر
النيل!
مفاوضات الحجرة المظلمة:
أكاد أتخيل مائدة المفاوضات، وتبدو لي أنها في حجرة أسفل
البناية، نسميها في مصر "البدروم"، وكيف أنها مظلمة، فكان الظلام مضاعفا
ومخيفا، إلى حد أن يتحدث الوفد الإثيوبي بهذه القوة، فلا يرد الجانب المصري، الذي
جاء ممثله "الظاهري" ليشكو لنا تعنت الإثيوبيين معهم ويقول إن الوفد
الإثيوبي يتعالى علينا.. وقالوا لنا: هذا كل ما عندنا.. لكم!
لا نعرف ماذا قدموا ليصفوه بأنه كل ما "عندنا لكم"، ومن المهم أن نعرف لأننا منذ أول جولة مفاوضات ونحن نسأل عمّ يطرحه الجانبان المصري والسوداني وما يعرضه الجانب الإثيوبي في هذه الجولات، لكن من الواضح أنها لم تكن أبدا جولات مقدرة، والوفد الإثيوبي يتعالى عليهم ويعاملهم بازدراء
لا نعرف ماذا قدموا ليصفوه بأنه كل ما "عندنا
لكم"، ومن المهم أن نعرف لأننا منذ أول جولة مفاوضات ونحن نسأل عمّ يطرحه
الجانبان المصري والسوداني وما يعرضه الجانب الإثيوبي في هذه الجولات، لكن من
الواضح أنها لم تكن أبدا جولات مقدرة، والوفد الإثيوبي يتعالى عليهم ويعاملهم
بازدراء. ففي أي مفاوضات عبر التاريخ يخرج وفد ما عن اللياقة ويزدري الجانب الآخر؟
ولم يقل العضو لنا هل هذا الازدراء يشمل الوفد السوداني أيضا، فلو كان الازدراء لا
يشمل السودانيين لعرفنا مربط الفرس، وطالبنا بتشكيل وفد التفاوض من أعيان النوبة
المصريين ليتولوا الجولة المقبلة!
قديما سئل حجا أين أذنك؟ ومعلوم أن إجابته بما تتسق مع
شخصيته. وعليه فليس من الحكمة أن نطلب من عضو وفد التفاوض الإجابة على سؤال النظرة
للوفد السوداني، فالوقت يداهمنا، والسلطة المصرية ستحجر على الرجل بعد ما أعلنه
وهو مهين، وليس أمامهم من سبيل سوى ما لا يرغبون في فعله؛ العمل العسكري أو إلغاء
الاتفاق المكبل. ومن هنا فلا بد من جولة مفاوضات جديدة، تكون جميعها من العسكريين،
الذين لا يخيفهم التفاوض في القاعات المظلمة، أو أن "يبرق" لهم إثيوبي بعينيه!
وبالمناسبة، فيوجد في علم المفاوضات مبحث عن استخدام
العينين في إرباك الطرف الآخر، بمجرد أن تبرق بها وتكون صالحة لذلك، كما حالة
أسامة الباز في التفاوض مع الإسرائيليين لإبرام اتفاقية كامب ديفيد. وقد اشتكى
الجانب الإسرائيلي للسادات من هذا الذي يظل ينظر إليهم دون أن يتكلم، وكأنه يرتاب
فيهم، أو يضمر في نفسه أمرا، وربما لم يكن بداخله شيء من هذا، ولكنها طبيعته!
والحال كذلك، فالحل في وفد تفاوض من العسكريين، لا يخيفه
أن "يبرق" له أحدهم أو يملك الجانب الإثيوبي أن يزدريه ويتعالى عليهم!
قلوبنا مع الوفد المصري المفاوض، وقد قاسى في صمت على
مدى عشر سنوات في جولات المفاوضات، من التعالي والتخويف والازدراء، إنهم يستحقون
أن يكرمهم الوطن، وفي الوقت ذاته يتم استبدالهم، للدخول في جولة جديدة من
المفاوضات يمثل الجانب المصري فيها العسكريون.
صدق من قال إن مصر لا يصلح لها إلا عسكري!
twitter.com/selimazouz1