يستعمل خبراء العقارات في الغرب عبارتين لوصف حال السوق: "سوق البائع" و"سوق المشتري (الزبون)".
عبارة "سوق البائع" تُستعمل عندما تكون هناك ندرة في المعروض فتصبح الكلمة العليا للبائع يفرض السعر الذي يريد والشروط التي تناسبه، لأن الخيارات ضيّقة أمام المشتري. وتُطلق عبارة "سوق المشتري" عندما تكون هناك وفرة في المعروض فيُملي الزبون شروطه، لأن الخيارات ضيّقة أمام البائع إذا فقدَ الزبون المحتمل الذي بين يديه.
إذا جاز تطبيق هذه النظرية على واقع الصراعات في العالم، ستكون هناك عبارتا: زمن المعتدين وزمن المُعتدى عليهم. يمكن وصف الفترة الحالية بأنها فترة المُعتدى عليهم، يُملون شروطهم وينتهي بهم الأمر منتصرين رغم الخسائر الفادحة التي يتكبدونها عادة.
مع مرور الزمن تغيّر مفهوم النصر والهزيمة في المواجهات المسلحة مع تغيّر أشكال هذه المواجهات وطريقة خوضها وإنهائها. لهذا لم تنته أيُّ حرب من حروب الغرب الحديثة على ما يسميه الإرهاب (إسلامي أو غيره) بنصر ساحق لا غبار عليه.
لن ينسى التاريخ بسهولة أن الولايات المتحدة فعلت ببغداد أسوأ مما فعل المغول (فبراير 1258 م)
خلال الثلاثين سنة الأخيرة عاش العالم، وبالخصوص الشرق الأوسط وغرب آسيا، سلسلة من الصراعات الدموية انتهت فيها الغلبة للمُعتدى عليهم. كانت الخسائر البشرية والمادية فادحة ومؤلمة بين المُعتدى عليهم، لكن المعتدين ولَّوا غير منتصرين بعد زمن طال أم قصر.
لن ينسى التاريخ بسهولة أن الولايات المتحدة فعلت ببغداد أسوأ مما فعل المغول (فبراير 1258 م)، لكنها انسحبت من دون أيّ نوع من أنواع النصر. وفي أفغانستان تحالفت الولايات المتحدة ونصف الكرة الأرضية لتقاتل عشرين سنة سفكت خلالها أنهارا من الدماء، ثم انسحبت كأن شيئا لم يكن مُسَلِّمة أفغانستان للعدو ذاته الذي جيّشت الدنيا للقضاء عليه.
وقبل شهور معدودة من الآن اضطرت القوات الفرنسية إلى الانسحاب من إفريقيا معلنة عجزها عن السيطرة على الميدان وعن تدبير الأمور سياسيا. جاءت هذه القوات وذهبت بعد نحو عشر سنوات دون أن يعرف الكثير من جنودها لماذا جيء بهم إلى هناك. لا يمكن وصف الانسحاب الفرنسي بغير الهزيمة، حتى وإن لم ينتصر الأفارقة نصرا مبينا. نصرهم هو أن يختفي الجندي الفرنسي من مرأى أعينهم. أما مزاعم الفرنسيين وحلفائهم عن عودة الإرهاب بعد خروج الجيش الفرنسي، فالقصد منهم التعويض المعنوي وتعزية النفس في الهزيمة. فجزء كبير من الإرهاب سببه الوجود الفرنسي والعبث بمقدرات الشعوب الإفريقية بتواطؤ مع حكومات فاشلة وديكتاتورية.
حتى الصراعات الداخلية التي شهدتها بعض الدول لم يعد ممكنا أن تنتهي بنصر حاسم لطرف على الآخر. حكومات كثيرة في إفريقيا وآسيا مدجّجة بالأسلحة والدعم الغربي عجزت عن القضاء على حركات تمرد داخلي، فتضطر إلى التفاوض والإغراء والمساومة. بريطانيا ذاتها اضطرت للتفاوض مع حركات الاستقلال وأذرعها المسلحة في إيرلندا.
قطاع
غزة يعيش اليوم فصلا جديدا من هذه الحروب التي تشنها الولايات المتحدة والغرب على شعوب الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية. هو فصل، كسابقيه، لا نصر فيه للمعتدي مهما نشر من تقتيل وخراب، فقط لأن الزمن زمن المدافعين عن أنفسهم وحقوقهم حتى لو كانوا ضعفاء عتادا وعديدا.
هزيمة الغرب في هذه الحروب مختلفة الشكل والمذاق. قديما كان طرد المستعمِر من أرض المُستعمَر هو النصر، اليوم يكفي أن يعجز المعتدي عن القضاء عن الفكرة التي يقاتل من أجلها المعتدى عليه.
في أفغانستان خرجت أمريكا وقوات حلف شمال الأطلسي فرارا وبقيت البلاد كما هي، كما أرادتها حركة طالبان وقطاع واسع من الأفغان. في العراق انسحب الأمريكيون إلى بلادهم وإلى دول الجوار وبقي العراق كما أرادته الفصائل العراقية، على سوئها، وجزء من العراقيين. قبل ذلك دخلت أمريكا إلى فيتنام بزعم محاربة المد الشيوعي في، فغادرتها بعد قرابة عشرين سنة وقد تركتها شيوعية بجنوبها وشمالها، لكن بعد أن قتلت ملايين الفيتناميين وآلاف الأمريكيين وأحرقت الشجر والحجر وسمَّمت الهواء.
في جميع الحالات لم يكن الأمريكيون وشركاؤهم سيغيّرون العراق وأفغانستان وفيتنام إلى الأفضل. مَن يعجز طيلة عشرين سنة عن تحقيق التغيير المطلوب، سيبقى عاجزا عنه مئة وعشرين سنة.
لن يختلف الحال في قطاع غزة مهما حلم وخطط الإسرائيليون والأمريكيون وبعض القادة العرب. ستبقى روح التمرد والمقاومة متجذِّرة لأنها ليست إنسانا يأكل ويشرب ويخاف، ولا بناية إسمنتية يطيحها صاروخ، ولا نفقا تحت الأرض يكفي ردم فوهته لإنهاء الأمر. روح المقاومة شعور قوي وقديم يصعب وصفه خبرته كثير من الشعوب، بما فيها تلك التي تخوض حكوماتها اليوم حروبا على الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية كفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية.
على مر العقود الماضية قتلت إسرائيل قوافل من القادة
الفلسطينيين، من كل الفصائل والانتماءات، في الداخل والخارج. هل أطفأت كل هذه الاغتيالات شعلة المقاومة؟ من الوارد أن تنجح إسرائيل هذه المرة في قتل يحيى السنوار، لكن ذلك لن يغيّر شيئا على الأرض، بل سيكون له أثر عكس الذي تريده إسرائيل وأمريكا.
قد يستطيعون ادعاء أنهم نجحوا في «تطهير» غزة من حماس والفصائل الأخرى التي تقاتلهم، لكن لن يمتلك إسرائيلي أو أمريكي واحد شجاعة زيارة غزة لساعة واحدة مطمئنا أو حتى الاقتراب من السياج الحدودي من دون سلاح وذخيرة. هذا هو الفشل.
النصر في حروب المستضعفين يقاس بالمكاسب السياسية.
هنري كيسنجر عبّر عن ذلك ببراعة سنة 1969 وهو يندب حال أمريكا في فيتنام فقال «خضنا ضد الفيتناميين حربا عسكرية لكنهم حوّلوها إلى حرب سياسية. حاولنا استنزافهم ماديا فاستنزفونا سيكولوجيا. في الحروب تنتصر العصابات عندما لا تنهزم، وتنهزم الجيوش التقليدية عندما لا تنتصر».
صُنّاع السياسات في الغرب يعرفون هذه الحقائق، لكنهم يصرّون على إنكارها لأنهم يحتاجون إلى الحروب والصراعات. استقرار العالم لا يعنيهم ويضر بمصالحهم وبما يضمرون من شرور للشعوب الأخرى. لو اختفت الحروب سيفتعلونها من العدم كي تستمر مصالحهم.
المصدر: القدس العربي