في كل مرة، تُدهشنا
جماهير نادي "سلتيك" الإسكتلندي بتغطيتها لمدرجات قلعتها وحصنها
"سلتيك بارك". حتى في بعض الأوقات التي لا تكون فيها قضية
فلسطين تشغل
الرأي العام العربي يبدو أنها تشغل جماهير "سلتيك" هذا ما حدث مثلًا في
مباراة نادي سلتيك وريال مدريد بدوري أبطال أوروبا العام الماضي، حيث اختارت
الجماهير أن ترفع أعلام فلسطين في ملعبها للتعريف بعدالة قضية فلسطين أمام أكبر
عدد من المشاهدين حول العالم الذين يشجعون النادي صاحب الشعبية الأكبر في كرة
القدم "ريال مدريد".
في الواقع، لا تبدو
العلاقة بين جماهير "سلتيك" وفلسطين بسيطة أو إنسانية قشورية، بل هناك
جذور تمتد بين السلتيون وفلسطيننا، ومخاض طويل جمع بين هؤلاء ونحن ربما لا نعرفه
بقدر ما يعرفونه هم.
المُشتتون في الأرض
كأبناء فلسطين، كانت
جماهير "سلتيك" في فترة ما من المشُتتين في الأرض، فبسبب مجاعة البطاطس
في القرن التاسع عشر هاجر الكثير من الأيرلنديين إلى الجارة العدوة إسكتلندا، وكان
الأيرلنديون بمذهبهم الكاثوليكي ونزعتهم الانفصالية عن المملكة أعداءً منبوذين
داخل المجتمع الاسكتلندي بمذهبه البروتستانتي وميوله الاندماجية في مملكة
بريطانيا. ولجمع هذا الشتات، قرر الأخ "والفريد" القس عام 1887 أن يجمع
الأموال لإطعام وتلبية الاحتياجات المادية للمهاجرين الأيرلنديين الذين يعانون من
الفقر في غرب اسكتلندا، وكانت تلك النواة التي أثمرت نادي "سلتيك"
لأصحابه الأيرلنديين بأنشطته الموازية لأنشطة المجتمع الإسكتلندي الذين نُبذوا منه
مُسبقًا. من تلك التجربة، استمد "السلتيون" هوية ملموسة ومجموعة من
القيم التي احتضنتها أجيال من مشجعي سلتيك ودعمتها ومثلتها بكل فخر تماشيًا مع
المجتمع الجمهوري والقومي في شمال أيرلندا، ويعتبر السلتيون مشجعين مسيسين
ونخبويين أكثر من أي مشجعين آُخر. ولهذا كان "الجرين بريفادج-اللواء
الأخضر" ألتراس مشجعي نادي "سلتيك" الاسكتلندي أول من تصدى في
عوالم المستديرة إلى قضية اللاجئين السوريين الذين كانوا يتعرضون للعنصرية برفعهم
لافتة كُتب عليها: "مرحبًا باللاجئين، نادينا بالأساس ناد للمهاجرين"
وفتح النادي أبوابه لاستقبال بعض الأطفال السوريين الذين يحبون لعب كرة القدم.
لقد حمل
"السلتيون" على عاتقهم دومًا عبء مناصرة قضايا المُضطهدين والساعين
للاستقلال في كل مكان بالعالم، هكذا تبنت جماهيره قضية "إقليم الباسك"
في إسبانيا، وهكذا شجبت واعترضت في مبارياتها على نظام "الأبرتايد"
الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ولكن بينما كانت تُحل تلك المشاكل بشكل ودي في
الأمم المتحدة وتحصل تلك الشعوب على حقوقها كانت مأساة الفلسطينيين تسوء بشكل
متزايد. ولقد تقاطعت مأساة فلسطين في السبعينيات مع مأساة أيرلندا.
رغم نيل "جمهورية
إيرلندا" استقلالها عن المملكة البريطانية، ظلت مجموعة من جزر إيرلندا
الشمالية ولا زالت حتى اليوم تتبع للتاج البريطاني، وقبل اتفاقيات السلام ونزع
السلاح في تسعينيات القرن الماضي، كانت هناك الكثير من الحركات الإنفصالية التي
تسعى للإنفصال عن المملكة بقوة السلاح والتفجيرات التي راح أشهر ضحاياها
"اللورد ماونتباتن" في نهاية السبعينيات.
في ذلك الوقت اتُهم
الجيش الجمهوري الأيرلندي IRA في قتل اللورد
ماونتباتن في حادث إرهابي، وكانت الاتهامات تتوجه إلى "منظمة التحرير
الفلسطينية" كذلك والتي كانت تعاون الجيش الأيرلندي وتدربه طيلة سبع سنوات،
وبينما كان يرى العالم في منظمة IRA ومنظمة التحرير
جماعتين إرهابيتين، كانتا تريان أنفسهما كشركاء كفاح ونضال من أجل الإستقلال عن
المُحتل البريطاني، والمُحتل الذي رعته ودعمته بريطانيا.
السلتيون.. أعداء
السامية
بينما يظهر
"السلتيون" في نظرنا كأصدقاء داعمين جديرين بالاحتفاء دومًا، يظهرون في
أعين بني جلدتهم أعداءً للسامية دومًا. في عام 2014 كانت إسرائيل تقوم بعمليتها
الإرهابية تجاه قطاع غزة "الجرف الصامد" وقامت جماهير سلتيك بالهتاف في
مباراتها لفلسطين ورفع العلم الفلسطيني وقام الاتحاد الأوروبي لكرة القدم UEFA بتوقيع غرامة على الفريق قدرها 18 ألف جنيه استرليني لخلطه "السياسة
بالرياضة"! ورفع علم استفزازي من زمن الحرب. لكن ذلك الأمر كان مجرد بداية،
ففي العام 2016 حين تواجه فريقا سلتيك وهبوئيل بئر سبع الإسرائيلي في مسابقات دوري
الأبطال، جعلت جماهير "سلتيك" من المباراة عبارة عن تظاهرة كبيرة لنصرة
القضية الفلسطينية. وغُرمت غرامة قدرها عشرة آلاف يورو لاعتبار الاتحاد مرة أخرى
أن علم فلسطين هو لافتة غير مشروعة ترمز إلى معاداة السامية. وفي مقابل هذا، قامت
جماهير سلتيك بتدشين هاشتاج تحت عنوان "لندفع الغرامة لفلسطين" لجمع
أموال توازي قدر الغرامة وأضعافها، وهو ما حدث بالفعل حيث جمع أنصار السلتيك ما
يقارب 500 ألف جنيه استرليني من أجل دفع الغرامات التي ستوقع في كل مرة يُرفع فيها
علم فلسطين، وقد ذهب جزء من تلك الغرامات دعمًا إلى جمعيات الإغاثة في غزة والضفة
الغربية. وفي العام 2017، حين أعلن الرئيس "دونالد ترامب" القدس عاصمة
لإسرائيل، ردت جماهير سلتيك برفع لافتات تنتصر لحقيقة أن القدس دومًا وأبدًا هي
عاصمة فلسطين.
لم يتوقف دعم
"السلتيين" على مباريات كرة القدم ومدرجات "سلتيك بارك"،
وتبدو قصة "مخيم عايدة" جديرة بالذكر في هذا السياق، فبينما رعى
"الجرين بريفادج" الكثير من الأنشطة الخيرية التي جمع أموالها من
التبرعات التي يقدمها جمهور سلتيك باستمرار لأجل دعم برامج الإغاثة الطبية في
الضفة وغزة، كان أكثر مشاريع ألتراس السلتيين تجليًا هو مشروع "سلتيك
عايدة" والذي يأتي عبارة عن أكاديمية لممارسة كرة القدم في مخيم لاجئين
"عايدة" ببيت لحم والذي أسسته هي ومجموعة مشجعي سلتيك بهدف رعاية لاعبي كرة القدم الموهوبين في المخيم وتقديم الدعم لهم. وتعيش الأكاديمية بإلهام المبادئ
الذي تأسس من خلاله نادي سلتيك كناد للاجئين قام بالدعم الذاتي وأصبح أحد أعرق
أندية أوروبا في النهاية، ولا زالت تعيش "سلتيك عايدة" على هذا الأمل
وتتلقى الدعم من العديد من الشخصيات الشهيرة مثل اللاعب الفرنسي "إريك
كانتونا".
بسبب تلك المواقف وغيرها، يتعرض جماهير "سلتيك" في أسفارهم وراء فريقهم في مختلف ربوع
أوروبا إلى هجوم من جماهير اليمين المتطرف، بل من خصمهم التقليدي "جلاسجو
رينجرز" الذي يتخذ مباراته كتظاهرة سياسية أيضًا لرفع العلم الإسرائيلي في
ملعب "الإيبروكس" والوقوف حدادًا على أرواح النافقين من الجيش
الإسرائيلي، ولا يعتبر الاتحاد الإسكتلندي أو الأوروبي تلك الأعلام الإسرائيلية
كشيء يستوجب الغرامة، ولكن كل ذلك النفاق لا يمنع جماهير "سلتيك" من أن
يكونوا موجودين دائمًا حين تناديهم فلسطين.
في المباراة القادمة
في دوري أبطال أوروبا، والتي ستجمع فريق سلتيك بفريق أتليتكو مدريد الإسباني، تدعو
"الجرين بريفادج" جماهيرها من خلال بيان غاضب للتبرع لصناديق الإغاثة
لقطاع غزة ورفع العلم الفلسطيني في أنحاء الملعب وأدان البيان أيضًا تخلي السلطة
الفلسطينية في الضفة الغربية عن مسؤولياتها تجاه الشعب الفلسطيني في غزة، وقد جاء
في البيان كلمة تعبر جيدًا عن تلك المرارة التي يشعر بها السلتيون كما نشعر بها
نحن بينما يُجبر الاتحاد الأوروبي الجميع على إظهار التعاطف تجاه أوكرانيا في كل
مسابقاته، حيث قالت "الجرين بريفادج": "السؤال الذي يجب أن يُطرح
على أي عاقل يجب أن يكون لماذا؟ لماذا تُعتبر حياة الأوكرانيين أكثر قدسية من حياة
الفلسطينيين؟".