بعد توقف المفاوضات بينهما عام 2016، فاجأت
تركيا رؤساء حلف شمال الأطلسي (الناتو) في قمة ليتوانيا، بطلبها إعادة إحياء مسار انضمام
أنقرة إلى
الاتحاد الأوروبي، سيما أن الرئيس رجب طيب
أردوغان ربط الأمر بموافقة بلاده على انضمام السويد إلى الناتو.
واصطدمت مساعي تركيا الممتدة منذ نحو نصف قرن لعبور بوابة التكتل الأوروبي، بتقرير الاتحاد عن "تركيا 2022"، والذي وجه انتقادات لاذعة إلى أنقرة على صعيد الحريات والديمقراطية واستقلال القضاء وملف المثليين ومزدوجي الميول الجنسية وغير ذلك.
وأقر البرلمان الأوروبي التقرير، الذي خلص من خلاله إلى نتيجة مفادها أنه "لا يمكن إحياء مسار مفاوضات عضوية تركيا للاتحاد الأوروبي في الظروف الموجودة"، بأغلبية 434 صوتا مقابل 18 فيما امتنع 152 نائبا عن التصويت.
وجاء التقرير الأوروبي في وقت تنشط فيه الدبلوماسية التركية بالمفاوضات بين كييف وموسكو لا سيما فيما يتعلق باتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود الذي توصل إليه الجانبان المتنازعان العام الماضي بعد وساطة تركية وأممية، قبل أن تعلن روسيا انسحابها منه لاتهامها أوكرانيا بعدم الوفاء بالتزاماتها تجاهها.
إلى ذلك، يرى الباحث في العلاقات الدولية والشأن التركي، مهند حافظ أوغلو، أن التقارب التركي الروسي وعدم انخراط تركيا في العقوبات الغربية ضد موسكو يجعل انضمام أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي أمرا بعيد المنال.
ويضيف أوغلو في حديثه لـ"عربي21": "مهما حاولت تركيا أن تكون وسيطا في ملف الحبوب وتقريب وجهات النظر بين الخصمين، بجانب سعيها لإجلاس كلا الرئيسين زيلينسكي وبوتين على طاولة المفاوضات المباشرة، كل هذا لا يشفع لتركيا بنظر الاتحاد الأوروبي لتكون دولة حائزة على رضا هذا النادي".
خيارات تركيا بعيدا عن أوروبا
وجاء رد أنقرة ساخطا على الاتهامات التي كالها التكتل الأوروبي، حيث اعتبر أردوغان في أول تعليق له على الأمر أن الاتحاد الأوروبي "يسعى لفصل الجمهورية التركية عن قارة أوروبا ويشن العديد من الحملات ضدها".
وقال أردوغان، السبت، في مؤتمر صحفي قبيل توجهه إلى نيويورك للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، إن "أنقرة تقيم التطورات الأخيرة مع الاتحاد الأوروبي، وإذا لزم الأمر يمكن أن نفصل طريقنا عن طريق الاتحاد الأوروبي في ضوء هذه التقييمات".
ووفقا لحافظ أوغلو، فإن الولايات المتحدة وسياسات الغرب عموما هي التي تدفع تركيا إلى التقارب مع روسيا ومن خلفها الصين.
كما لفت الباحث التركي خلال حديثه لـ "عربي21" إلى أن "العالم يتجه إلى نظام متعدد الأقطاب فيما يتعلق بإدارة وقيادة العالم سياسيا وعسكريا، وهذا يفرض على تركيا وضع خطط بديلة، ستتجه إليها فور معرفتها أن الغرب لن يكون مفيدا لها أو أنه سيضر بمصالحها. وذلك رغم تأكيدها خلال العام الأخير أنها ضمن المنظومة الغربية سواء مع المحيط الإقليمي أو حتى في العلاقات الدولية شرقا".
ومن جهته، يتفق الباحث في العلاقات الدولية، جاهد توز، مع طرح أوغلو حول توجه دول العالم إلى سياسات خارجية جديدة، موضحا أن ذلك جاء بعد جائحة كوفيد-19 والحرب الروسية الأوكرانية بسبب الضرر الاقتصادي والسياسي الكبيرين اللذين خلفهما الحدثان العالميان على دول عديدة حول العالم.
وأضاف توز في حديثه لـ"عربي21": "أنقرة بدأت بالفعل في التوجه نحو سياسات خارجية جديدة على ضوء التغيرات التي تطرأ على العالم في السنوات الأخيرة"، مشيرا إلى أن إعادة تركيا علاقاتها الدبلوماسية مع مصر والسعودية والإمارات إضافة إلى الاحتلال الإسرائيلي، عبارة عن انعكاس للسياسات التركية الجديدة.
وفي السياق، يقول الكاتب الصحفي محمد أوكور إنه "من الممكن تعريف فترة 2023 في تركيا بأنها الفترة التي سيتم فيها اتخاذ خطوات واثقة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، حيث من المرجح أن تتجه أنقرة إلى تكتلات أخرى مع اتضاح الموقف الأوروبي السلبي تجاهها".
ويضيف أوكور في حديثه لـ"عربي21" أن "مجموعة البريكس موجودة على جدول أعمال تركيا في الآونة الأخيرة وهي أحد التكتلات البديلة المرشحة بقوة بالنسبة لأنقرة، لا سيما مع وجود روسيا والصين فيها"، معتبرا أن "التوجهات التعاونية التي تتبناها بكين في التعامل مع الشرق الأوسط تكشف عن توقعات بحدوث بعض التغييرات مع تركيا أيضا".
ويرى أوكور أن خيارات تركيا لا تقتصر فقط على موسكو وبكين، بل يمكنها الاستفادة من الدول الناطقة بالتركية بشكل فعال، حيث يؤكد تصاعد كفاءة منظمة الدول التركية (TDT) أن أنقرة لديها بدائل أخرى غير الاتحاد الأوروبي.
وأصاب التقرير الأوروبي أنقرة بالخيبة بعدما استبدل إعادة مسار المفاوضات بتوجيه انتقادات واسعة وإعادة نبش قضايا قبرص وشرق المتوسط، موصيا ببدء عملية إيجاد إطار "مواز وواقعي" يغطي المصالح المتبادلة لمستقبل العلاقات.
وكانت وزارة الخارجية التركية اعتبرت، في بيان، أن أعضاء البرلمان الأوروبي "أصبحوا أسرى للسياسات الشعبوية اليومية، ومدى ابتعادهم عن تطوير النهج الاستراتيجي الصحيح تجاه كل من الاتحاد الأوروبي والمنطقة"، مضيفة أن "التوجه الذي يتبناه البرلمان الأوروبي تجاه العلاقات مع بلادنا ومستقبل الاتحاد الأوروبي، معتاد وعديم الرؤية".
كما قالت الوزارة إنه "من غير العقلاني في مثل هذه الفترة الحرجة لاستقرار وأمن القارة الأوروبية، والتي تتوافر فيها فرص لإعادة إحياء العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، أن يطرح البرلمان الأوروبي أمورا أخرى بدلا من مفاوضات انضمام تركيا التي تمثل العمود الفقري للعلاقات".
المثلية الجنسية.. سور بروكسل العالي
ووجه التقرير انتقادات لقضايا مثل الحقوق الأساسية وسيادة القانون، كما تضمن اتهامات ضد الديمقراطية في تركيا واستقلال القضاء ووسائل الإعلام، فضلا عن حقوق المجموعات العرقية والدينية المختلفة والنساء والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية وحاملي صفات الجنسين.
وكان تحالف "الجمهور" الحاكم في تركيا بدأ منذ الحملات الانتخابية الممهدة للانتخابات الرئاسية الماضية في تصدير تصريحات رافضة للمثلية الجنسية وهو ما أدى إلى خروج تجمعات احتجاجية من قبل مثليين، تعاملت معها الأجهزة الأمنية بشكل حاسم.
الباحث التركي، حافظ أوغلو، استبعد أن يكون هناك مجال للتفاوض مع أنقرة في ملف المثليين، مشيرا إلى أن تركيا لا يمكن أن تنخرط فيه على المستويين الشعبي والرسمي بسبب انتمائها الديني.
وأضاف في حديثه لـ"عربي21": "ربما تظهر تركيا بعض المرونة في ملفات أخرى، لكن ملف المثليين يعني بداية نهاية المجتمع التركي وانحلاله بالكامل لذلك فإن الموقف في هذا الإطار محسوم وقطعي وغير قابل للتنازلات".
واعتبر البرلمان الأوروبي النهج الذي تتبعه أنقرة تجاه حقوق المثليين عنصرا مهما في قراره الأخير، وفقا لأوكور الذي "شدد على أن البنية الدينية والأخلاقية والروحية والثقافية لتركيا لا تسمح بهذا النوع من الفكر المنحرف"، على حد تعبيره.
وأكد في حديثه لـ "عربي21" أن هذا "التوجه (المثلية الجنسية) الذي يراه الاتحاد الأوروبي مشروعا ينظر إليه على أنه بداية لسلسلة من الانحرافات التي تمولها بعض الجهات لتغيير البنية الأخلاقية للمجتمع".
وأوضح الكاتب الصحفي أنه "في حال حققت أنقرة تقدما في حماية وتعزيز حقوق المثليين، فإن ذلك بلا شك سيساهم في تقريبها من الاتحاد الأوروبي وتسريع عملية انضمامها إليه، لكن هذا لن يكون ممكنا أبدا في الظروف السياسية الحالية".
ويشار إلى أن تحالفات حزب العدالة والتنمية الرئيسية والتي توسعت خلال فترة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية قبل أشهر، تضم أحزابا محافظة مثل حزبي "الرفاه الجديد" و "هدى بار"، وقومية مثل "حزب الحركة القومية"، وهو الأمر الذي يراه مراقبون عنصرا هاما في اتخاذ أنقرة توجها مناهضا للمثلية خلال الآونة الأخيرة، ومن غير المتوقع أن يطرأ أي تغيير على هذا المسار التركي مع اقتراب الانتخابات المحلية المقررة في شهر آذار /مارس المقبل.
وبحسب توز، فإن ملف المثليين عبارة عن ورقة ضغط يستخدمها الاتحاد الأوروبي ضد المجتمعات المحافظة لإفساد النسيج الاجتماعي بهدف تعزيز نفوذه فيها.
وأشار توز في حديثه لـ"عربي21" إلى أن تركيا ستتجه خلال الفترة القادمة إلى تعزيز موقفها للحد من التوجهات المثلية المرفوضة من قبل المؤسسات الرسمية والمجتمع، لأن إحداث أي خلل في تركيبة الأسرة التي يقوم عليها عماد المجتمع يعتبر خطا أحمر لا يمكن المساس به لدى أنقرة.
هل ترد تركيا برفض عضوية السويد؟
حرّك الرئيس التركي ملف عضوية بلاده في الاتحاد الأوروبي في مناورة سياسية أجراها خلال اتصال هاتفي مع الرئيس الأمريكي جو بايدن قبيل انعقاد قمة حلف شمال الأطلسي الأخيرة في ليتوانيا قبل نحو شهرين، وذلك ردا على الجهود الأمريكية المكثفة حينها لإحراز تقدم في الملف الذي يقف على أبواب أنقرة.
وبالفعل، أسفرت القمة عن تأسيس آلية أمنية ثنائية بين السويد وتركيا للتعامل مع مخاوف الأخيرة حول ما تصفه بالدعاية الإرهابية ضدها، كما وافق أردوغان على إحالة بروتوكول انضمام السويد إلى البرلمان في أقرب وقت والعمل عن كثب مع البرلمان للموافقة عليه.
وفي المقابل، أكدت السويد على لسان الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، أنها ستدعم انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي ومساعي تحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي وتحرير التأشيرات.
وتسببت إحالة أردوغان ملف السويد إلى البرلمان خلال إجازة الأخير الصيفية والتي تنتهي في تشرين /أكتوبر المقبل، في تأجيل البت التركي بعضوية ستوكهولم عدة أشهر بهدف اختبار نوايا السويد في تحقيق الوعود التي التزمت بها لتركيا.
وعلى الرغم من أن السويد تحاول وضع لوائح قانونية فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب والاستفزازات المعنية، فإن الافتقار إلى مؤشرات ملموسة من الناحية العملية يعد مصدر قلق بالنسبة للجانب التركي، وفقا لمحمد أوكور.
والسبت، كرر أردوغان تأكيده على انتظار قرار البرلمان التركي بشأن انضمام السويد، مشددا على أن على "الأخيرة قبل كل شيء القيام بواجبها المترتب عليها. لا يكفي صياغة القانون (لمكافحة الإرهاب) بل يجب تطبيقه".
وتابع: "إرسالهم إرهابيين إلى المظاهرات تحت حماية الشرطة السويدية يعني أنهم لا يقومون بواجبهم ويعني أيضا استمرار مظاهرات الإرهابيين في شوارع ستوكهولم".
ورغم شروط تركيا وتعهد السويد بدعم الملف التركي لدى الاتحاد الأوروبي، رفض برلمان الأخير في تقريره إحياء مسار مفاوضات العضوية التركية، مطالبا أنقرة بالموافقة على عضوية السويد في الناتو بأسرع وقت ممكن.
ورأى أوغلو أن تصريحات الرئيس أردوغان اتصفت هذه المرة بنبرة عالية، حيث بدا حديثه أقرب إلى رسالة أخيرة للاتحاد الأوروبي قبل انعقاد جلسات البرلمان التركي الذي سيناقش ملف انضمام السويد لحلف شمال الأطلسي.
وأوضح أوغلو في حديثه لـ "عربي21" أن "أردوغان قالها بوضوح: دخول السويد في الناتو مقابل دخول تركيا في الاتحاد الأوروبي. وعلى ضوء المعطيات التي تشير إلى أن تركيا لن تنضم على المدى القريب إلى النادي الأوروبي، إضافة إلى ضبابية موقف ستوكهولم فيما يتعلق بمحاربة الإرهاب، فإن انضمام الأخيرة إلى حلف شمال الأطلسي سيأخذ وقتا طويلا، وسوف تكون هناك تفاصيل كثيرة ولن يكون هناك موافقة مباشرة من البرلمان التركي لا في الجلسة الأولى ولا في الثانية".
وبحسب أوكور، فإن موقف الرئيس رجب طيب أردوغان بشأن هذه القضية قاس، كما أن قرار البرلمان الأوروبي الأخير قد يتسبب في تعقيد انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي.
وذكر أوكور في حديثه لـ"عربي21" أن السويد رفعت سقف توقعاتها فيما يتعلق بعضوية الناتو بعد موافقة تركيا على انضمام فنلندا، موضحا أن الملف السويدي يختلف تماما عن الأخيرة بحسب المنظور التركي، بغض النظر عن رفض البرلمان الأوروبي إحياء مفاوضات العضوية التركية.
وأضاف: "لدى تركيا بعض الترددات فيما يتعلق بالسويد. ومن أهم هذه الترددات الدعاية الإرهابية في السويد. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاستفزازات لمهاجمة القرآن الكريم، والتي تزايدت بشكل متكرر في الآونة الأخيرة، تجعل انضمام السويد إلى الناتو مستحيلا تماما".
وشدد على أن "الاتحاد الأوروبي سيكتشف تلقائيا في حال حصل على تقارير صحيحة أن نتيجة الاتهامات التي وجهها إلى تركيا حول تقييد حرية الصحافة جاءت على مستوى مختلف عما كان متوقعا"، معتبرا أن "حرية الصحافة في تركيا بلغت المكان الذي ينبغي أن تصل إليه مقارنة بدول أخرى"، بحسب تعبيره.
واعتبر حافظ أوغلو بدوره أن تركيا لديها وضع خاص في الداخل يفرض عليها الكثير من التحركات والسياسات سواء في الصحافة والإعلام أو في ملف حقوق الإنسان، رغم ذلك حققت أنقرة جميع المعايير التي تجمع دول العالم في إطار الحفاظ على الحريات، لكن هذا غير كاف على ما يبدو بالنسبة لبروكسل.