لا
تكاد تهدأ التوترات بين أذربيجان وإيران، حتى تعود للاشتعال مرة أخرى، في ظل وجود
ملفات شائكة بين البلدين، لكن الخلاف الأكبر الذي من شأنه أن يشعل المنطقة في حال
تعنت الأطراف بشأنه، هو ممر "زنغزور" الذي تهدف باكو بدعم من أنقرة إلى
إنشائه رغم رفض طهران القطعي للمشروع.
وكان
الرئيس
الإيراني إبراهيم رئيسي، قد حذر من مغبة "المساس بالجغرافيا السياسية
للمنطقة أو تغييرها"، إضافة إلى تأكيد وزير خارجيته أن تغيير الحدود
التاريخية للمنطقة خط أحمر ستتخذ إيران جميع الإجراءات الكفيلة بمقاومة حتى
التفكير به".
وكانت العلاقات الأذربيجانية الإيرانية شهدت منذ مطلع العام الجاري تشنجا حاول الجانبان احتواءه دون الانتهاء منه بشكل كامل. ففي شهر كانون الثاني/ يناير تعرضت سفارة باكو لدى طهران إلى هجوم مسلح أسفر عن وفاة حارس أمن وإصابة موظفين آخرين بجروح ما أدى إلى إغلاق مقر السفارة، وفيما بعد أعلنت السلطات في أذربيجان عن طرد 4 دبلوماسيين إيرانيين من البلاد على خلفية تعرض عضو في البرلمان الأذربيجاني عرف بانتقاده إيران لمحاولة اغتيال.
في ضوء كل ما سبق، تتصاعد المخاوف من اشتعال فتيل المواجهات العسكرية في المنطقة كما حدث قبل 3 سنوات بين أذربيجان وأرمينيا، لكن هذه المرة يكمن الخوف في انزلاق القوى الإقليمية إلى الصراع، فما هي إمكانية وقوع الصدام المسلح، وما هو مشروع "زنغزور" المثير للجدل، ولماذا ترفضه كل من الجمهورية الإسلامية وأرمينيا بشكل قطعي في وقت تدفع فيه أذربيجان ومن ورائها
تركيا بقوة نحو إنشائه؟
"زنغزور".. خط من نار على الحدود
بعد انتصار أذربيجان في حرب الـ44 يوما عام 2020 ضد جارتها أرمينيا وسيطرتها على مناطق في إقليم ناغورني قره باغ عقب اضطرار يريفان للانسحاب منها، تهيأت الأجواء لفتح ممر "زنغزور" الذي من المخطط له أن يصل الأراضي الأذربيجانية بالتركية بشكل مباشر مرورا بمقاطعة نخجوان المتمتعة بحكم ذاتي، والتي تحيط بها تركيا وإيران وأرمينيا.
ومن شأن الممر المفترض له أن يتاخم الحدود الإيرانية الأرمنية للوصول إلى ولاية كارس التركية أن يخلق خطا بريا حرا بين البلدين الحليفين تركيا وأذربيجان، وهو ما تعتبره إيران تهديدا لعلاقاتها مع جارتها أرمينيا والاتحاد الأوراسي بأكمله.
ويعتبر الخبير في العلاقات الدولية أحمد شهيدوف، أن مشروع الممر لا يصب على الإطلاق في صالح إيران، لأنه سيوجه ضربة إلى أهميتها السياسية والاقتصادية في المنطقة، كما أنه سيبقي طهران خارج جميع المشاريع العالمية التي تسعى كل من الصين وتركيا إلى ربط القارتين الآسيوية والأوروبية من خلالها.
ويشير شهيدوف في حديثه لـ"عربي21" إلى أن ضعف الجانب الأرميني بعد الحرب الأخيرة يشكل عاملا في توتر العلاقات حيث تخشى إيران أن تقوم أذربيجان وتركيا بضم الممر في المستقبل عبر عملية عسكرية مشتركة أو دعم مالي. في تلك الحالة، ستختفي حدود أرمينيا مع إيران تماما، وهذا ضد مصالح الأخيرة التي ترزح تحت سوط العقوبات الأمريكية.
من جهة أخرى، تعتقد طهران أن الممر "سيمنح باكو يدا عليا في التواصل مع أنقرة لأنه سيمكن الأخير من الوصول برا إلى أذربيجان بشكل مباشر دون الحاجة إلى عبور الأراضي الإيرانية أو الأرمينية، ما يعطّل دور إيران كوسيط أمام المرور التركي إلى آسيا الوسطى عبر أذربيجان، ويضعف موقفها الجيوسياسي في جنوب القوقاز"، وفقا للدكتور علي حسين باكير، أستاذ الشؤون الدولية والأمن والدفاع في مركز ابن خلدون بجامعة قطر.
ويقول باكير في حديثه لـ "عربي21" إن طهران تخشى قطع حدودها مع أرمينيا في حال أقيم ممر "زنغزور"، حيث تعد منطقة سيونيك الحدودية المنفذ الوحيد بين يريفان وحليفتها طهران.
وفي منطقة مشتعلة بالتوترات، لا سيما على الحدود بين أذربيجان وأرمينيا، يمنح ممر "زنغزور" أنقرة عبورا بريا مباشرا للدفاع عن حليفتها باكو في حال نشوب أي نزاع مسلح على غرار حرب عام 2020 حيث اعتبر التدخل التركي العسكري جويا عبر طائراتها المسيرة آنذاك أحد العوامل الأساسية التي ساهمت في تقدم القوات الأذربيجانية على الجيش الأرميني.
ويرى مراقبون أتراك أن قيمة الممر تتعدى الجانب الاقتصادي أو العسكري بالنسبة لأنقرة، حيث يشكل "زنغزور" معبرا بريا مباشرا وبوابة ثقافية تفتح الباب على مصراعيه أمام أنقرة للاتصال بدول العالم التركي بوسط آسيا، في وقت يشهد التيار القومي في تركيا صعودا ملحوظا رمى بظلاله على الانتخابات الرئاسية الأخيرة وتسبب في انتقال الحسم الانتخابي إلى جولة ثانية لأول مرة منذ عقود.
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اعتبر في حزيران/ يونيو الماضي، أن "التوصل إلى حل سريع لمسألة
ممر زنغزور سيكون وسيلة لتعزيز العلاقات التركية الأذربيجانية"، مشددا على أن الممر سيعزز أيضا "الروابط مع إقليم نخجوان الأذربيجاني المتاخم للحدود التركية".
وعن احتمالية إقدام أنقرة على تحقيق تلك المكاسب عسكريا، أكد الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش أنه "رغم تعزيز الممر لموقف تركيا الجيوسياسي في منطقة القوقاز، وروابطها مع الدول الناطقة في آسيا الوسطى إلا أنها تفضل أن يتحقق هذا كنتيجة لعملية سلام لا صدام عسكري".
وأضاف في حديثه لـ "عربي21": "إيران تحاول عكس التحولات الجيوسياسية الكبيرة التي طرأت على المنطقة بعد حرب قره باغ الثانية، لكن دورها يعمل على تعقيد فرص دخول هذه المنطقة إلى سلام طويل الأمد".
إلى جانب الرفض الإيراني، يصطدم الممر بمعارضة أرمينيا له حيث تخشى من إمكانية فقدان اتصالها مع جارتها إيران في حال أقيم ممر خارج عن إدارتها على حدودها الجنوبية، لكن "الظروف الراهنة لم تعد مناسبة ليريفان أو جارتها المقربة طهران لعرقلة إنشاء الممر"، بحسب علوش.
وفي السياق، نوه شهيدوف إلى أن افتتاح ممر "زنغزور" كان في نطاق الاتفاقية الثلاثية بين روسيا وأرمينيا وأذربيجان في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، والتي قبلتها يريفان بعد 44 من المواجهات العسكرية.
وذكر شهيدوف في حديثه لـ "عربي21" أنه بموجب الاتفاقية "وفرت أذربيجان ممر لاتشين الواصل بين أرمينيا وإقليم قره باغ حيث تتواجد قوة حفظ السلام الروسية، لكن الجانب الأرميني لم يوفر الاتصال البري مع الأراضي الرئيسية لأذربيجان ومقاطعة نخجوان".
ما علاقة إسرائيل؟
تلعب العلاقات الأذربيجانية الدافئة مع الاحتلال الإسرائيلي دورا في تأجيج التوترات بين البلدين اللذين يتمتعان بتاريخ طويل من الخلافات، وفقا لمراقبين أشاروا إلى مخاوف طهران من استخدام الممر المراد بناؤه على حدودها، لكن باكير يرى أن إيران تتذرع بإسرائيل على خلفية تصاعد حدة الخلاف في الآونة الأخير، مشيرا إلى أن الاحتلال حين يريد افتعال المشاكل مع الأخيرة فهو قادر على حملها إلى الداخل الإيراني.
وشدد باكير في حديثه لـ "عربي21" على أن العلاقات الأذربيجانية الإسرائيلية لاحقة على التهديدات الإيرانية وليست سابقة، موضحا أن طهران كانت تنظر إلى باكو منذ استقلالها على أنها مصدر خطر من شأنه أن يحفز مواطني أذربيجان في إيران للسعي إلى الاستقلال أو الالتحاق ببلادهم.
وقال شهيدوف إن "العلاقات الإسرائيلية الأذربيجانية لا تشكل تهديدا لإيران، إذ إنها ليست موجهة ضد طهران أو أي طرف ثالث في المنطقة"، مؤكدا أن "توتر العلاقات منذ سنوات طويلة يعود إلى المخاوف والشكوك الإيرانية تجاه أذربيجان التي تجمعها أواصر القومية الواحدة مع ملايين الأذريين في إيران".
من جهته، رأى علوش في حديثه لـ "عربي21" أن إيران قلقة بالفعل من العلاقات المتنامية بين أذربيجان وإسرائيل، لكن الدافع الحقيقي وراء التوترات ينبع بشكل أساسي من المنافسة الجيوسياسية في المنطقة مع روسيا وتركيا.
وكانت أذربيجان قد افتتحت سفارة لها لدى الاحتلال الإسرائيلي في شهر آذار/ مارس الماضي، كما أنها عززت علاقاتها مع تل أبيب في السنوات الأخيرة في المجالين العسكري والأمني، وذلك بعد ثلاثة عقود منذ أعلن الطرفان عن إقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما في نيسان/ أبريل 1992.
هل تشتعل الحرب بين تركيا وإيران؟
"هناك دائما احتمال كبير بأن تصطدم تركيا وإيران حول ممر زنغزور"، وفقا لتعبير شهيدوف الذي رأى أن أنقرة ستكون في مواجهة أي تصعيد عسكري من قبل طهران ضد جارتها باكو، مبينا في حديثه لـ "عربي21" أن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان وجه رسالة واضحة بهذا الصدد إلى نظرائه الإيرانيين خلال زيارته الأخيرة إلى العاصمة الإيرانية.
في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أطلقت إيران مناورات عسكرية شمال غرب البلاد على حدود أذربيجان، بمشاركة قوات برية وجوية، ولم يمض شهر من الزمان حتى ردت باكو بخطوة مماثلة بالقرب من حدودها مع إيران.
وأظهرت التدريبات ملامح التوتر المتصاعد في العلاقات بين البلدين، بعد فرض السلطات الأذربيجانية في ذلك الوقت تعريفات مشددة على الشاحنات التي تنقل الوقود الإيراني إلى مدينة ستيباناكيرت عاصمة إقليم ناغورني قره باغ.
وقال قائد القوة البرية في الجيش الإيراني، العميد كيومرث حيدري، إن المناورات الحالية تزداد أهمية في ظل "الحضور الإسرائيلي العلني والخفي"، في إشارة واضحة إلى العلاقات الدافئة التي تجمع أذربيجان بالاحتلال الإسرائيلي.
ومؤخرا، ساهم الحديث عن مشروع ممر "زنغزور" في إذكاء الخلافات بين الجارتين وسط مخاوف من تحول التوتر إلى صراع إقليمي يعصف بالمنطقة بأكملها، حيث تقف تركيا هذه المرة بجانب العضو في منظمة الدول التركية، فضلا عن المصالح الاقتصادية والجيوسياسية التي تربط أنقرة مباشرة بالمشروع المرفوض إيرانيا.
يأتي ذلك بالتزامن مع عودة التوتر إلى الحدود الأرمينية مع أذربيجان على ضوء إجراء انتخابات رئاسية في المناطق التي تسيطر عليها أرمينيا في إقليم ناغورني قره باغ المتنازع عليه، وهو ما عدته باكو انتهاكا للدستور الأذربيجاني وقواعد القانون الدولي، كما أنه تسبب في موجة من الإدانات الدولية وسط اتهامات متبادلة بالحشد العسكري من قبل الطرفين، ودعوات إلى تجنب التصعيد.
وفي تطور لافت، كشفت أرمينيا عن تدريب أمني مشترك مع الولايات المتحدة يمتد في الفترة ما بين 11 و20 أيلول/ سبتمبر الجاري، وهو أمر تراه كل من إيران وروسيا مهددا للاستقرار في المنطقة.
في ضوء ما سبق، تتشكل خارطة مشتعلة في منطقة القوقاز على محاور مختلفة ترفع من فرص انزلاق المنطقة إلى حرب إقليمية متعددة الأطراف.
يقول محمود علوش إن "القاعدة الثابتة في الصراع بين أذربيجان وأرمينيا حول إقليم قره باغ هي أنه أكثر قابلية للتأزم بقدر أكبر من الاستقرار".
ويكمل المحلل السياسي في حديثه لـ "عربي21" أن تصاعد التوترات مؤخرا والاتهامات المتبادلة بالتحشيد العسكري على الحدود، تظهر أن احتمالية اندلاع حرب جديدة لا تزال قائمة بقوة"، واعتبر علوش أن الخطوات الانفصالية في الإقليم تعمل على تسخين التوترات والدفع نحو التصعيد.
من جهته، يرى باكير أن الانتخابات التي أثارت تنديدا دوليا في قره باغ "مجرد محاولة لتوتير الأجواء والضغط الداخلي على أذربيجان بالتوازي مع الضغط الخارجي من قبل إيران وأطراف أخرى".
وفي ظل هذه التوترات، يشير باكير في حديثه لـ "عربي21" إلى سعي تركيا لإنشاء سلام مستدام في المنطقة من خلال تقديم حوافز للطرفين في محاولة لإقناعهما بضرورة تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في تسوية عام 2020، وذلك "على عكس إيران التي تعمل على دفع الطرفين إلى الصدام حيث لا يصب أي اتفاق للتهدئة في صالحها".
وفي حين استبعد أن تتسبب التوترات في قطيعة دبلوماسية بين أنقرة وطهران، أكد المتخصص في الشؤون التركية أن "الجانب التركي لن يقف مكتوف اليدين أمام أي تصعيد عسكري ضد باكو سواء كان أرمينيا مدفوعا من إيران أم تدخلا إيرانيا مباشرا، لا سيما بعد المكاسب التي تحصّلت بعد حرب قره باغ الثانية لصالح الأذربيجانيين".
واعتبر شهيدوف أن "فرصة نزع فتيل الحرب ممكنة في حال تمكنت روسيا وإيران وتركيا من التوافق على الممر، لكن من غير الممكن أن يحدث هذا في ظل تواجد نيكول باشينيان على رأس الحكومة في أرمينيا بسبب ارتباطه سياسيا بواشنطن"، حيث شدد شهيدوف في حديثه لـ "عربي21" على أن الطريقة الوحيدة لتحقيق توافق بين الدول الثلاث الفاعلة "هي إبعاد باشينيان عن السلطة وإلا فإن الصراع أمر لا مفر منه"، بحسب تعبيره.