تتميز الحركات والأحزاب السياسية بأنها
تتصدّى للتقدم ببرامج ومشاريع وحلول وأفكار للرقيّ بمجتمعاتها سياسيًا واقتصاديًا
واجتماعيًا وتحرريًا وتنمويًا وعلميًا وتكنولوجيًا.. إلخ. تسعى هذه الكيانات
السياسية إلى إقناع أوسع دائرة شعبية ممكنة والحصول على تأييدها ومؤازرتها من خلال
الانتماء العضوي أو التأييد الشعبي وذلك لحمل أوسع دائرة ممكنة على التماثل مع
برامجها ورؤاها.
كانت حركة
فتح ذات يوم أكبر وأهم حركة
سياسية
فلسطينية، وكان لديها برنامج متكامل ومتفائل يقوم على عقيدة "تحرير
فلسطين"، ولكن سرعان ما تعرّض هذا البرنامج إلى عدة خضّات ومواجهات حتى تم
التخلّي عنه نظريًا وعمليًا، وأخذت "فتح" تعتنق فكرة أن السلام هو
خيارها الاستراتيجي الوحيد، فيما يشبه بالمقلوب الشعار النقيض السابق:
"الكفاح المسلح هو خيارها الوحيد"!
ثم اعتنقت حركة فتح مشروع إقامة دولة
فلسطينية في المناطق المحتلة عام 1967، وهذا المشروع كان قد وصل إلى نهاياته مع
انهيار مفاوضات كامب ديفيد 2000، وهناك اليوم تعميم يأسٍ شامل، ونفضِ يدٍ من
إمكانية تحقيقه.
وقبل وبعد انهيار هذا الخيار يتساءل
المرء: ما هي المساهمة البرامجية والمقاربة السياسية – الاجتماعية – الاقتصادية
التي اقترحتها "فتح" على مجتمعها وناسها؟ في الحقيقة أن مجمل التقارير
والتحقيقات المحلية والدولية التي رصدت أداء مؤسسات السلطة منذ قيامها ولغاية
اليوم (وهي السلطة التي أنشأتها حركة فتح على مقاسها ووفق محدّداتها)؛ والتي
تناولت قضايا الحوكمة ونجاعة الأداء الإداري والمهني، تحدثت طيلة الوقت وبشكل
منتظم عن "فساد مستشرٍ" وأن أي مراجعة لكفاءة المؤسسات الأساسية كتلك
المتعلقة بالتعليم أو الصحة، أو حتى الأمن الذي هو مهنة فتح وملعبها الأول، ستكشف
لنا عن منظومة مهترئة.
فحتى لو لم تتمكن حركة فتح من إنجاز
قيام دولة، فإنها برهنت عن فشل ذريع في خلق "مؤسسة" – من أي نوع – ذات
نجاعة وجَوْدة في الأداء. سنكتشف أننا على هذا الصعيد قد غَزَتْنَا جميع أمراض
حالة الفساد المستشرية في الدول العربية التي قَدِمَ منها جنود منظمة التحرير
المُتعَبين. كانت الخبرة الأساسية التي اقتبسوها من واقع الدول العربية التي جاءوا
منها، هي مهارات السطو على مقدّرات المجتمع وسرقته وممارسة السلطة بطريقة
"التسلّط"، وقد تلوّن ذلك الفساد كلّه؛ ليس فقط بذلك الميراث المتنوع
والمتراكم من ألوان الفساد المستورد من العالم العربي، إنما أُضيف لهذه الخلطة من
الفساد متعدد المشارب، الميزة الهجينة لفساد خاص "بفلسطينيي أوسلو"، وهو
أنهم يمارسون هذا الفساد المركّب تحت سقف
الاحتلال!!
الغريب والعجيب أنه مع كل هذا الفساد
المتراكم، وهذا المآل من الفشل والإفلاس السياسي المُثقل بخيبات الأمل، فإنك تعثر
في حركة فتح على نوع من "الحميّة" والعصبية لا تزال تعبيراتها ظاهرة
وربما محيّرة! فبالرغم من انمحاء مبادئ الحركة الأساسية، واستنساخ أهدافها
واستبدالها بأهداف أخرى، وأفول برامجها القديمة، وانطواء صفحة القيادات
الكاريزماتية الآسرة فيها، فإنك تتساءل: ما الذي يجعلها باقية، بل ومنافِسة،
ومُكاسِرة، ومغالِبَة. بل وترى أن من حقّها أن تحتكر قيادة شعبها، ما هو ذلك الشيء
الجدير الذي يجعلها قائمة وكأن شيئًا من الأهوال لم يحدث؟!
في الحقيقة، ليس هناك من تفسير لذلك
سوى طغيان "روح القبيلة"، وهذا ما نلمسه من تعبيرات قيادات فتح الحالية
التي يُعلن كثير منها وبصراحة ووضوح بأن فتح "قبيلة سياسية". نلمس ذلك
أيضًا في الألفاظ المستخدمة عندما يكون هناك تناديًا لفزعة بهدف حشد الفتحاويين
داخليًا للرد على ما يعتقدونه تجاوز الآخرين على "حق فتح في حكم الشعب
الفلسطيني". ومن ذلك استخدام مفردة "أيها الفتحاويون" وأشباهها
التي تأتي بصيغة جمع المذكر السالم المرفوع، حتى لو كانت قواعد اللغة تقتضي كسره.
وذلك من باب التفخيم والتعظيم والتهييج!
كما أنك عندما تُمعن النظر في كيفية
تعامل فتح مع الخارجين منها أو الفاسدين فيها، فإنه يُدهشك سلوكها، الذي أعاد إلى
صفوفها وبسلاسة، جموعا كثيرة من الذي خرجوا منها وانشقّوا عنها وقاتلوها في
الانشقاق الكبير عام 1983 (وهذا – كما نعتقد – ما يمكن أن ينطبق ذات يوم على محمد
دحلان وتيّاره، وأشباهه من حالات). أما الفاسدون، بل من هم أشد فسادًا على القدرة
في قيادة هذه الحالة العليلة التي غدت تمثلها حركة فتح.
وفي التجربة أيضًا، التي تزكّيها مئات
أو آلاف الشواهد، فإنه من وجهة نظر "قبيلة فتح"، يُعتبر أعضاؤها الذين
غادروا صفوفها وانتموا إلى تنظيمات أخرى كحماس أو الجهاد الإسلامي أو الجبهة
الشعبية مثلًا، هم نفوذ جديد ومكتسب لهم في تلك التنظيمات (فمهما شرّق أو غرّب
الفتحاوي فمآله ومرجوعه في آخر المطاف إلى القبيلة الفتحاوية). لا، بل إن عمل بعض
أعضاءها في صفوف أجهزة استخبارات إقليمية أو دولية أو حتى "إٍسرائيلية"،
يُعتبر من وجهة النظر هذه، وكأنه أصبح لقبيلة فتح "رِجْل – موضع قدم"
عند هذه الجهة أو تلك؟!
حدّثنا فيصل حوراني في الجزء الخامس من
سيرته الذاتية المثيرة عن ملاحظاته النافذة، التي قصد بها – كما صرح – بشكل أساسي
رجال حركة فتح (قيادات وأعضاء) عندما أطلق عبارته الشهيرة عن هذا النوع من الرجال:
"رجُلُ الشّيْء ونقضيه"، فمثل هؤلاء الرجال – الذين أسهب حوراني في وصف
سلوكهم – لا نجد عند أحدهم مانعًا أن يكتب تقريرًا لسلطات الاحتلال يُوشي فيه عن
بعض المقاومين أول النهار، وتجده هو ذاته – في نهاية النهار – مع مجموعة أصدقاء
يُطلق النار على دورية إسرائيلية!!
هذه المتناقضات – حسب تعبير حوراني –
وهو الكاتب الصحفي المخضرم الباحث المدقق عجز عن إيجاد مُفردة في قواميس
اللغة العربية تصلح لوصفها!
يتساءل المرء بعد كل ذلك، ما الذي تريد
حركة فتح إنجازه ولم تنجزه بعد؟ وإلى أي برنامج أو سياسات تدعو شعبها إليه أو
إليها؟
منذ توقيع اتفاق أوسلو، وحركة فتح
تُحدثنا عن "المشروع الوطني"، وقد أقام الأكاديميون والمفكرون ندوات،
وورشات، ونقاشات، ومقاربات، وكتابات حول ذلك المشروع. سيتبيّن لنا في الممارسة
وعند المنعطفات (التي كان آخرها ردّ فعلها الغريزي المتشنّج على موقف أهل مخيم
جنين في ذيول وأعقاب المواجهة الأخيرة في المخيم يوم 3/7 الماضي) التعريف الجوهري
الحقيقي الذي تعتمده وتتبناه حركة فتح، وهذا التعريف الفتحاوي للمشروع الوطني
برأينا هو، "حق فتح الحصري"، واحتكارها لقيادة الشعب الفلسطيني، وهي لا
تتحمل لا من قريب ولا من بعيد أن ينازعها أحد ذلك الحق!!
باعتقادنا، أن حركة فتح في هذا الشأن
مثلها مثل جميع الأحزاب الوطنية والقومية التي حكمت العالم العربي في مرحلة ما بعد
الحرب العالمية الثانية (من حزبيْ البعث في العراق وسوريا، إلى الناصريين في مصر،
ثم حزب جبهة التحرير الجزائري.. إلى باقي الأحزاب المماثلة في ليبيا واليمن
والسودان وتونس.. وغيرها).
وهذا يُحيلنا إلى معضلة معضلات السياسة
في المنطقة العربية وتشوّهاتها، كما يُحيلنا إلى مراجعة مسألة إمكانية نجاح
"الديمقراطية" في بلادنا، ثم النظر إلى عوامل إعاقة "التحول
الديمقراطي".
نعتقد أنه يجدر العودة إلى نظريات ابن
خلدون وملاحظاته العميقة حول الاجتماع العربي، ودور العصبية والبداوة والنزعة
القبلية، ثم دور العقيدة ومفاعيلها؛ لنعود من حيث ما انتهى إليه ابن خلدون، ثم ما
انتهى إليه التيه العظيم الذي عَبَرتْه شعوبنا – ولا تزال – في مرحلة ما بعد الحرب
العالمية الثانية لغاية اليوم، ليتم تشييد بنيان يأخذ في الاعتبار تحولات العصر!