ألقى الأمين العام للاتحاد العام
التونسي للشغل تصريحا جلب له موجة سخرية
وجعله "كاراكوز".. "النضال في بعض الأحيان يكون بالصمت"، هكذا
بصريح العبارة. كان قبل ذلك بأيام قليلة قد خرج من صمت الصيف الطويل وقال لقد برد
الطقس وسنعود إلى النضال، بما ذكّر الناس بقوم هربوا من القتال في الحر والقرّ
فانهزمت دعوتهم. غير أن أمر النقابة في تونس يختلف عن ذلك الجيش وأولئك الأنصار،
فصمت النقابة عن الانقلاب يجلب لها مكاسب أكثر من انحيازها إلى معارضيه (دسم مائدة
معاوية).
نتحدث هنا عن مكاسب سياسية لا مكاسب نقابية، فالنقابة التونسية حزب سياسي
يلبس لبوس نقابة ويُلْبِس على الناس. هنا مفتاح فهم تصريح الأمين العام وهنا مفتاح
فهم موقف النقابة عامة لا من الانقلاب فحسب؛ بل من الثورة ومكاسبها السياسية وفي
مقدمتها الحرية العزيزة على كل نفس حرة فقط.
الحديث عن النقابة مملّ
أحبذ أن أعتذر لقارئ محتمل عن تكرار الحديث عن موقف النقابة من الثورة ومن
الديمقراطية وبالتالي ومن الانقلاب، لأن موقفها من الوضوح بحيث يدخل تحت باب توضيح
الواضحات من الفاضحات.
النقابة التونسية حزب سياسي يلبس لبوس نقابة ويُلْبِس على الناس. هنا مفتاح فهم تصريح الأمين العام وهنا مفتاح فهم موقف النقابة عامة لا من الانقلاب فحسب؛ بل من الثورة ومكاسبها السياسية وفي مقدمتها الحرية العزيزة على كل نفس حرة فقط
يزعم كثير ممن يتناول أمر النقابة التونسية الأشهر محليا وعربيا أن الصف
النقابي ليس واحدا، فهناك تياران يشقانها؛ التيار الأول ترتيبيا هو تيار
العاشوريين (نسبة إلى الحبيب عاشور- أمين عام سابق) أو ما يسمى عند
اليسار
بالبيروقراطية النقابية، وهو التيار المنعوت بأنه نقابي خالص لا يستعمل النقابة
استعمالا سياسيا. أما التيار الثاني فهو تيار اليسار المتطرف، وانضم إليه القوميون
العرب بعد أن كانوا يرون العمل النقابي خيانة ثورية.
التيار الأول متهم من التيار الثاني بمهادنة السلطة وخيانة العمال وذلك منذ
ما قبل أزمة كانون الثاني/ يناير 1978، حين اصطدمت النقابة بالحزب الحاكم وحدثت
مجزرة فعلية، لكن السلطة وللمفارقة سجنت العاشوريين وسلمت النقابة لليسار الثوري
في مؤتمر قفصة بعد ثلاث سنوات.
بعد الثورة لم نر فرقا بين التيارين فقد وقفت النقابة بكل جامعاتها
القطاعية وتمثيلياتها الجهوية ضد الثورة، وخاصة بعد خسارة اليسار للانتخابات 2011
التي تقدم فيها الإسلاميون. كلمة السر: لا يجب أن يحكم الإسلاميون تونس وحدهم أو
مع شركاء، وكل طريق تؤدي إلى مشاركتهم في السلطة وجب قطعها ولو بتخريب البلد
وإسقاط مطالب الثورة ومسار بناء الديمقراطية. وقد حصل ذلك بحذافيره حتى انتهينا
إلى الانقلاب، ولقد تباهى بذلك الأمين العام السابق حسين العباسي قائلا: لم نسمح
لهم بالراحة طيلة العشرية، وهو يعني
الإسلاميين فقط دون أي فريق سياسي آخر.
والنتيجة كانت انهيار كل المسار.
ولقد كان واضحا منذ ساعة الانقلاب الأولى أن النقابة تقف معه وتدعمه،
ومنحته منذئذ الوقت الكافي ليستقر ويرسخ قدمه، وهو ما سماه الأمين العام الحالي
بالنضال بالصمت.. إنه "نضال" ضد الديمقراطية وضد الثورة وضد الحريات.
لمصلحة من خربت النقابة الثورة
والديمقراطية؟
كان واضحا منذ ساعة الانقلاب الأولى أن النقابة تقف معه وتدعمه، ومنحته منذئذ الوقت الكافي ليستقر ويرسخ قدمه، وهو ما سماه الأمين العام الحالي بالنضال بالصمت.. إنه "نضال" ضد الديمقراطية وضد الثورة وضد الحريات
لقد كان واضحا منذ الثمانينيات أن اليسار التونسي عاجز عجزا مطلقا عن بناء
حزب يساري كبير، والأمر نفسه بالنسبة للقوميين ولو كان تحالفا أطروحاته الفكرية
وأساليب عمله السياسي والتنظيمي جعلا منه أقلية معزولة شعبيا، بينما تمدد
الإسلاميون في كل ناحية وكل مؤسسة بدءا من الجامعة رغم كل ما تعرضوا له من ملاحقات
وسجون طيلة نصف قرن.
وقد أكدت انتخابات 2011 التعددية واقع التشرذم اليساري والقومي (هناك أكثر
من عشرة فرق قومية تعتبر نفسها أحزابا)، فلم يبق لدى اليسار والقوميين لمواجهة
الإسلاميين إلا التحصّن بالنقابة واستعمالها سياسيا لمنع الإسلاميين من الحكم ومن
ترسيخ أقدامهم في الدولة والمجتمع. حصل اليسار على مبتغاه السياسي، لقد أُقْصِيَ
الإسلاميون من كل مشاركة وعادوا إلى وضع المطاردين الأزليين، لكن حصلت مع ذلك
نتائج أخرى.
لقد عادت منظومة الفساد والاستبداد للحكم بالتدريج مستفيدة من التخريب
النقابي خاصة في المؤسسات العمومية، وانتهى الأمر بعودة مظفرة على ظهر الانقلاب.
من استعمل من في النتيجة، ولو بفرضية حسن النية النقابي ونحن لا نرجحها؟
النتيجة: أقصت النقابة الإسلاميين لمصلحة منظومة الفساد، بما وضح لكل ذي
بصيرة الموقع السياسي الحقيقي لليسار التونسي وللقوميين كجزء مكين من المنظومة
الفاسدة. إنهم ذراعها الضاربة وقوتها في الشارع، إنهم زبانية المنظومة التي
اصطنعتها عصا غليظة ولم تدفع في استخدامها من جيبها وإنما من جيب المواطن التونسي
فلم يكلفها الأمر شيئا، لقد زرعتهم في مواقع القرار بحيث عطلوا ما وجب تعطيله حتى
سقط الإسلاميون؛ العدو الحقيقي للمنظومة.
وجب أن نضيف هنا أن لقاء مصالح قد حدث ولا نظنه إلا مخططا مدروسا، فقد
التقت المنظومة الفاسدة مع مصالح المحتل القديم في منع بناء الديمقراطية في تونس،
فالثورة التي طرحت سؤال محاسبة المحتل على جرائم الاحتلال لا يجب أن تحكم. وكان
اليسار ونقابته في ماكينة قطع الطريق على المحاسبة، بما يجعلهما أداة للاحتلال.
وهنا نفهم سر جائزة نوبل ومسارعة النقابة للاحتفال بالجائزة مع الرئيس الفرنسي قبل
أن تعود بالأوسمة إلى تونس، وغير مهم هنا إن كان حسين العباسي عاشوريا أو يساريا
فقد ذاب الفرق بين الشقين في خدمة المحتل ومنظومة التبعية المحلية.
والحل مع هذه النقابة؟
يظن كثيرون أن تجاهل الانقلاب للنقابة يضر بالنقابة وهو تحليل خاطئ بالجملة، فمطالب النقابة تتحقق على الأرض بواسطة الانقلاب وهذا تفسيرنا للنضال الصامت. إنه لا يتجاهلها بل يترك لها فسحة وقت وهو يعرف (الحقيقة أن المنظومة الكامنة وراء الانقلاب تعرف) قدرتها على إعادة توظيف النقابة في أية لحظة، فالنقابة جاهزة دوما لخوض المعركة نفسها لصالح المنظومة
لم يرتق خيال السياسيين التونسيين إلى تصور تونس دون هذه النقابة، لذلك لا
يخلو خطاب من تمجيدها وذكر مآثر مؤسسيها، وهو خطاب يخفي خوفا بل رعبا من مواجهة
النقابة، وما دام هذا الخوف يملأ صدور السياسيين بمن فيهم الإسلاميون فإن أمام
النقابة أيام زاهية. بل لعل الإسلاميين أكثر الأطراف السياسية خوفا أمام النقابة،
لقد كانوا يرون النقابة تخرب على حكومتهم بمنخرطي حزبهم، إذ تمنع أنصارها من كسر
الإضرابات أو فسخ الانخراط من النقابة، لقد رسخت النقابة في عقول كثيرة أن كسر
إضراب يرتقي إلى جريمة شرف أو خيانة وطن.
يظن كثيرون أن تجاهل الانقلاب للنقابة يضر بالنقابة وهو تحليل خاطئ بالجملة،
فمطالب النقابة تتحقق على الأرض بواسطة الانقلاب وهذا تفسيرنا للنضال الصامت. إنه
لا يتجاهلها بل يترك لها فسحة وقت وهو يعرف (الحقيقة أن المنظومة الكامنة وراء
الانقلاب تعرف) قدرتها على إعادة توظيف النقابة في أية لحظة، فالنقابة جاهزة دوما
لخوض المعركة نفسها لصالح المنظومة. لم يُعتقل نقابي واحد منذ الانقلاب، ولحست
النقابة كل مطالبها التي رفعتها ضد حكومات ما بعد الثورة، وهو اتفاق غير مكتوب مع
الانقلاب؛ نتيجته سلامة النقابة حتى تحتاجها المنظومة من جديد.
المنخرط الشجاع الذي لا يتبع النقابة في أي أمر من أمورها
"النضالية" لم يولد بعد، والسياسي الشجاع الذي سيحل النقابة لم يولد بعد،
لذلك سيتحمل التونسيون كابوس النقابة لزمن أطول مما يتوقع الجميع.
ونختم بيقين: ستدعم النقابة المنقلب في انتخابات الرئاسة لسنة 2024 مقابل
المزيد من تصفية الإسلاميين.. هؤلاء الإسلاميون لا يموتون إذن ليُمنح الانقلاب
فرصة أخرى.