انقضت سنتان من تاريخ انفراد
الرئيس سعيد بجميع السلطات، فترة كافية لتقييم أداء الرجل، والتعرف على حصيلة
المرحلة. لم يلقِ الرجل خطابا بهذه المناسبة، ولم يُقم استعراضا عسكريا أو مدنيا،
ولم يعلن عن قرارات جديدة كما يفعل عادة الحكام المنتصرون. اكتفى بإبلاغ مواطنيه،
ومن ورائهم خصومه وناقدوه في الداخل والخارج أنه "لا عودة إلى الوراء".
تلتقي أغلبية المواقف والتعليقات حول القول بأن حصيلة السنتين كانت سلبية، وأن
قيس سعيد الرئيس لم يحقق أي وعد من وعوده. وبناء عليه، تطالبه المعارضة بأحد
الاحتمالين: التراجع عن مسار 25 تموز/ يوليو والرجوع إلى نقطة البداية، أو التخلي
عن الحكم ودعوة
التونسيين إلى انتخابات جديدة.
لكن إذا حوّلنا الكاميرا إلى الزاوية المقابلة بحثا عن الكيفية التي يفكر
بها الذين يمسكون بالسلطة، نجد أن ما يعتبره خصومها فشلا يرون فيه نجاحات كبرى،
ومكاسب يمكن البناء عليها.
المؤكد أن المشهد السياسي في البلاد تغير بشكل ملحوظ، وأن الضربات القوية
التي وجهها الرئيس إلى مقومات الانتقال الديمقراطي قد خلقت مناخا مختلفا: إلغاء
دستور 2014، وتهميش الأحزاب، وإخضاع القضاء، وتقليص مجال الحريات، وتحجيم الاتحاد
العام التونسي للشغل، وحل الهيئات البلدية المنتخبة، وإنشاء برلمان بديل ضعيف وغير
قادر على المحاسبة والمراقبة.
الحقيقة الثابتة والوحيدة الآن في البلاد أن الرئيس سعيد هو الفاعل الرئيس،
يقرر، ويفعل، ويواصل الحكم على نفس المنوال. لم يتغير، ولم يحدْ عن رؤيته السياسية
التي أعلن عنها منذ سنة 2013. كان واضحا منذ البداية في رفضه للنخبة السياسية
بالخصوص، وطالبها منذ ذلك التاريخ بأن ترحل عن بكرة أبيها. وقد أنجز الكثير من
ذلك، وهو مصرّ على ملاحقة البقية. وما كان يعتبره بقية مكونات المجتمع السياسي
والمدني أفكارا طوباوية ساذجة وشعبوية، نجح الرئيس في تحقيق العديد منها في وقت
قياسي، وبسهولة غير متوقعة.
في المقابل، بَنَت المعارضة بمختلف مكوناتها مواقفها على سيناريوهات لم
تصمد أمام الواقع الموضوعي؛ فهي من جهة اعتقدت بأن تدهور الأوضاع الاقتصادية
والاجتماعية والعجز عن ابتكار الحلول المناسبة من شأنه أن يولد النقمة في أوساط
عموم المواطنين، ويدفعهم نحو سحب الثقة من قيس سعيد والخروج عليه، كما أن ذلك من
شأنه أن يعجل بالصدام بين الرئاسة والحركة النقابية والاجتماعية.
رغم قوة هذه الفرضية وأهميتها في التاريخ السياسي لتونس، غير أنها لم تصمد
خلال المرحلة الحالية. إذ بالرغم من الصعود الصاروخي للأسعار، وفقدان المواد الأساسية، إلا أن تحميل السلطة المعارضةَ المسؤولية المباشرة على ذلك هي الرواية التي راجت
ووجدت القبول في أوساط المواطنين.
أما الاحتمال الثاني الذي أخذته المعارضة بعين الاعتبار ولم تستبعده من
حساباتها، فهو العامل الخارجي القائم على الفرضية التالية: استبعدت بقاء الغرب
مكتوف الأيدي في حال تمادي الرئيس سعيد في توجهه نحو إجهاض الانتقال الديمقراطي في
تونس، وأن الدول الغربية ستصعّد من ضغوطها المختلفة لإجباره على احترام الحريات
وحقوق الإنسان. وقد تحركت فعلا كل من أمريكا وأوروبا في هذا الاتجاه بشكل غير
مسبوق، لكن نظام قيس سعيد صمد ولم يتراجع. وجاءت رياح
الأزمات الإقليمية والدولية
لتصب في صالحه، وتثبت أن هذا الغرب بدأ يقبل بوجود النظام، خاصة بعد أن أثبت استعداده
الدخول في تسوية بعض الملفات الشائكة مثل ملف الهجرة غير النظامية. وتوالت الوقائع
الدالة على أن عديد الحكومات الغربية تغلب كعادتها مصالحها الآنية على قضايا
الديمقراطية والحريات.
الخلاصة، ما لا يمكن حجبه وإنكاره أن ظاهرة قيس سعيد
قد صمدت حتى الآن، وأن الذي يتجاهلها سيفشل في فهم ما يجري. لا بد من تغيير منهج
الفهم والتحليل لاكتساب القدرة على الاستقراء، لهذا يُستبعد أن تشهد تونس، على ضوء
المعطيات الراهنة، تغييرات هامة، وهو ما دفع بالبعض نحو طرح السؤال التالي: هل من
الممكن تحقيق أي تقدم ملموس دون الأخذ بعين الاعتبار الصواريخ التي أطلقها الرئيس
خلال السنتين الماضيتين؟