رحل
الكاتبُ
المصري الكبير حمدي أبو جليِّل عن عالمِنا في العاشر من حزيران/ يونيو الماضي،
وربما لم أكُن قد التقيتُ به إلّا مرّةً واحدةً بالمصادَفة في إحدى الندوات ولم نتبادَل
حديثًا، كما لم أقرأ له حرفًا قبل هذا الكتاب الذي اشتريتُه قبلَ أعوامٍ وبدأتُ قراءتَه
بعد أن وصلَ إليَّ خبرُ وفاتِه بساعات!
صدرَ
كتابُه (القاهرة:
جوامع وحكايات) عن الهيئة المصرية العامّة للكِتاب عام 2018. وفي
مَدخَلِه إلى الكتاب اهتمَّ كاتبُنا بالحديث عن دور الجامع السياسي، فقال إنّ القاهرةَ
قد تأسَّسَت وتوسَّعَت حول ثلاثة جوامع بُنِيَت في ثلاثة عهودٍ إسلامية، هي جامعُ عمرو
بن العاص (الذي كان قِيامُه إعلانًا عن فتح مصر وانتزاعِها من التاج الروماني إلى الأبد)،
وجامعُ أحمد بن طولون (الذي كان بمثابة إعلانٍ عن استقلال مصر عن الخلافة العباسية
للمرة الأولى)، والجامع الأزهر الذي أعلَن قيامَ الخلافة الفاطمية في مصر والمَشرق
العربي. ليس ذلك فحَسب، وإنما تجلّى هذا الدورُ – حسبَ كلام الكاتب – على نحوٍ سلبيٍّ
في تجاهُل أيٍّ من هذه الجوامع أو إهمالِها أو تعطيلِ شعائرِها، فقد كان اقتحامُ فُرسان
صلاح الدين الأيوبيِّ الجامعَ الأزهرَ إنهاءً لنفوذ الفاطميِّين. كما يتجلّى هذا الدورُ
في الاتّجاهِ المُضادّ في ابتداء ثوراتِ الرعيّة على الحُكّام من هذه الجوامع، وهو
ما يفصِّلُه أبو جليّل في فصول الكتاب.
قسّم
الكاتبُ عملَه هذا إلى خمسة فصول (جوامع الوُلاة، وجوامع الفاطميين، وجوامع المماليك،
وجوامع العلَويين، وجوامع الأولياء). وظلّ يطارد دورَ الجامع السياسيَّ في مقالات هذه
الفصول جميعًا، فاثنان من الجوامع الثلاثة المذكورةِ آنِفًا مُدرَجان في فصل (جوامع
الوُلاة)، وهما جامع عمرو وجامعُ ابنِ طُولون، وفي مقال (جامع عُقبة بن عامر) مثَلًا
نَعرفُ بعضًا من سيرةِ الصحابيِّ (عُقبة) الذي عيَّنَه معاويةُ بن أبي سفيانَ واليًا
على مصر ثمّ عزلَه بمؤامرَة، ونَعرفُ أنّ مَن بنى الجامعَ هو محمد باشا أبو النور السلِحدار
والي مصر مِن قِبَل السلطان العثماني، بَناه على أطلال قُبّةٍ بناها صلاحُ الدين على
رُفاتِ الصحابيّ. لكنّ المُثيرَ أنّ كاتبَنا لا يَعدَم إشارةً سياسيةً في ثنايا سيرَتَي
الصحابيّ وباني الجامع، يوازي بها بين الرَّجُلَين ويُضحكُنا من تقلُّبات السياسة،
فها هو ذا يحدِّثُنا عن ازدياد قوّة عُقبة، ما جعلَ معاويةَ يخشاه ويتوقّع تمرُّدَه،
فسيَّرَ إليه مَسلَمةَ بن مخلد بعد أن ولّاه مكانَه، برسالةٍ يأمرُه فيها بالخروج مع
مَسلمةَ لغزو جزيرة رودس، فانطلقَ مسلمةُ وعُقبةُ إلى الإسكندرية، وأوغلَ عُقبةُ برجالِه
في البحر، فيما تباطأَ مَسلمةُ حتى يضمنَ غيابَ عُقبةَ ثُمّ أسرعَ إلى سرير الحُكم
في الفسطاط ليُحكِمَ قبضتَه عليه، ما دفعَ عُقبةَ إلى أن يقول مُغضَبًا: "ما أنصفَنا
معاوية، عَزلَنا وغرَّبَنا!" ثُمّ يحدّثُنا الكاتبُ عن (محمد أبي النور) الذي
ظلَّ واليًا على مصر ثلاثة أعوامٍ مثلَ عُقبةَ بالضبط، ثمّ هجمَت عليه جماعةٌ من الفِقاريّة
المُناوئين له فأنزلَته من القلعة مقرِّ الحُكم وسجنَته. وكلك في مقال (جامع الفاضل)،
يُوازي بين سيرتَي باني الجامع الأصلي (الأمير بشتاك الناصري من مماليك الناصر محمد
بن قلاوون) ومجدِّدتِه الأميرة أُلفَت هانم قادن امرأة إبراهيم باشا بن محمد علي باشا.
ويقولُ في تقدمتِه لهاتَين السيرتَين: "ورغم أنّ الجامع لا يتمتع باسمِ أيٍّ من
مُلوك مصر وسلاطينِها، إلا أنّ بانيَه ومجدِّدتَه لم يكونا بعيدَين عن ساحة المُلك،
بل كانا في قلب كواليسِها يبكيان دمًا على ضياع المُلك، فالخيانةُ والرشوة – وأيضًا
تواضعُ الأصول – حرمَتهما من سُلطةٍ كانا على بُعد خطوةٍ من القبض عليها." ثمّ
يَبسُط السيرتَين متحدِّثًا عن تنافُس بشتاك مع الأمير (قوصون) ودهاء هذا الأخير وبراعتِه
في إقصاء بشتاك عن سرير المُلك بعد وفاة ابن قلاوون، وعن (مصطفى فاضل باشا) ابن الأميرة
أُلفَت وأخي الخديوي إسماعيل من أبيه، والأحَقّ بالجُلوس على عرش مصر بعد إسماعيل،
إذ نجحَ إسماعيلُ برِشوة السلطان العثماني عبد العزيز في جَعل وراثة عرش مصر في أكبر
أبنائه، ليَختِم هذه الإشارةَ بقولِه: "وربما سارعَت الأميرةُ بتجديد الجامع لتضعَ
اسمَ ابنِها عليه وتعوِّضَه في منفاه ومماتِه عن مُلكٍ كان يستحقُّه في حياتِه."
وثَمّ
ملمحٌ مهمٌّ في سَرد أبي جليِّل، هو سُخريتُه الصريحةُ التي يجعلُها مُعادلًا موضوعيًّا
لسُخرية القدَر إذ تتبدّى في صفَحات
التاريخ، ففي خِتام مقال (جامع الفاضل) نفسِه يقول:
"وأُلفَت هانم بعد أن رمَّمَت الجامع على خير وجهٍ لم تجِد أيَّ حرَجٍ من محو
اسم صاحبِه الأصليِّ بشتاك لتُثبِتَ أنه موعودٌ بعدَم تحقُّق أحلامِه، فأثناءَ حياتِه
حرمَه قوصونُ من مُلك مصر، وبعد مماتِه حرمَته الأميرةُ من اسمِ جامعِه وأطلقَت عليه
اسمَ ابنِها مصطفى باشا فاضل." ثُمّ إنه أحيانًا يجعلُها سُخريةً مستترةً، ففي
مقالِه (جامع أحمد بن طولون) يقول: "عندما اكتملَ بناؤه رأى في المنام كأنّ الله
قد تجلّى للقصور التي كانت حولَ جامعِه ولم يتجلَّ للجامع، وفي الصباح سأل المفسِّرين
فقالوا "يُخرَّب ما حولَ الجامع ويَبقى قائمًا وحدَه"، فخرَّبَها، ثمّ رأى
في المنام كأنّ نارًا نزلَت من السماء وأخذَت جامعَه دون ما حولَه من العُمران، فلمّا
أصبحَ قصَّ رؤياه على المفسِّرين فقالوا: أبشِر بقَبول جامعِك المبارَك، لأن النارَ
كانت قربانًا في الزمن الماضي، فإذا قَبلَ اللهُ قربانًا نزلَت من السماء نارٌ فأخذَته!"
هكذا تأتي علامةُ التعجُّب وحدَها إضافةً من أبي جليِّل، ليَلفتَنا بها إلى ما قد تنطوي
عليه هذه الحكايةُ من حماقةِ الحاكم المستبدِّ واستهتارِه بما في أيدي الناس واتّخاذِه
العلاماتِ الغيبيّةَ تُكأةً لفِعل ما يَحلو له بأن يؤوِّلَها على النحو الذي يَروقُه
أو يُصدِّقَ على ما يروقُه من تأويلاتِها. لا شكّ في حَداثة علامةِ التعجُّب في هذا
السياق، فاستخدامُ علاماتِ الترقيمِ على النحوِ المُعتاد اليوم لم يمُرَّ عليه في الكتابة
العربية إلا ما يربو قليلًا على قرنٍ من الزمان.
ويَلحقُ
بهذه السخريةِ حِرصُه على بَيان ثنائية الاسمَين الرسميِّ والشعبيِّ للجوامع وغيرِها
من المَعالم، فهناك جامع الأمير (كريم الدين الكبير) – وهو الاسم الرسميُّ - الذي كان
في موقع جامع عمر مكرم الحاليِّ الشهير، غيرَ أنّ الوعيَ الشعبيَّ أسقطَ اسمَ الأمير
المملوكيِّ ووضعَ بدلًا منه اسمَ (الشيخ العبيط) وهو أحد دراويش القاهرة في القرن الثاني
عشر الميلادي. وهناك شارعُ البُستان في وسَط القاهرة، ذلك المسمَّى باسم بُستان (الشريف
بن ثعلب)، الذي غيَّرَه جمال عبد الناصر إلى اسم صديقِه العراقي الرئيس (عبد السلام
عارف)، ويقولُ هنا كاتبُنا: "لكنَّ الميدانَ تمسَّك باسمِه الأول (البستان) وحوَّلَ
اسمَ الرئيس العراقي إلى مجرَّد لافتةٍ لا ينتبه لها أحد." وكنتُ أتمنّى وأنا
مُقبلٌ على قراءة فصل (جامع الفاضل) أن يَذكُر أبو جليِّل الاسمَ الشعبيَّ لهذا الجامع
الذي أحبُّه، وهو (جامع الشيخ رفعت) الذي عرَّفَني إليه أصدقائي في المدرسة الثانوية،
إذ دأَب الشيخ (محمد رفعت) رحمةُ الله عليه أن يرفعَ منه الأذانَ ويقرأَ فيه القرآن،
لكن يبدو أنّ كاتبَنا لم يكُن يعرفُ هذا الاسمَ الذي نسخَ به المصريُّون على المستوى
الشعبيِّ طبَقاتِ التاريخِ المتراكمةَ في هذا الجامع، لاسيَّما العهدَين المملوكيّ
والعلَويّ.
لكنّا
إلى الآنَ لم نتحدّث عن اهتمام الكِتاب بجوانب العِمارة في جوامع القاهرة. والحقُّ
أنّ هذا الوجهَ من الكتاب على ما فيه من جهدٍ محمودٍ كان يحتاجُ في رأيي إلى أشياء
تُكملُه. ولنستعرِض فقرةً واحدةً من حديثِه عن جامع الأقمر في فصل (جوامع الفاطميين):
"أما باب الجامع فيَعلوه عَقدٌ منكسِرٌ ومفصَّص، في قلبه دائرةٌ مقسَّمةٌ إلى
ثلاثة أشرِطةٍ مكتوبٍ عليها "محمد علي"، يحيط بها شريطٌ آخَر من الكتابة....
وعلى الجانب الأيمن من المَدخَل حَنيةٌ كبيرةٌ يعلوها عَقد نصف دائري ممتد ويزَخرِفُه
صفّان من الدلّايات." في هذه الفقرة مفرداتٌ تُعَدُّ مصطلَحاتٍ تنتمي إلى حقل
العمارة بعامّةٍ، وإلى العمارة العربيةِ الإسلامية بالأخَصّ. وفي رأيي أنّ تقديمًا
لهذه المصطلَحات في بداية الكتاب أو ثَبَتًا بمدلولاتِها المعمارية في نهايتِه كان
كفيلَين بإضاءة هذا الوَجه من الكِتاب، ويا حبَّذا لو كانت جِهةُ إصدار الكِتاب قد
زوَّدَته بما هو أكثرُ من الصُّوَر القليلة الباهتة المُجتزأة من كلِّ جامعٍ في بداية
المقال المنذورِ له. بَيدَ أنه تَبقى مُتعة تلقّي هذا الوجه الكِتاب مرهونةً بزياراتٍ
ميدانيّةٍ لهذه الجوامع، أو افتراضيّةٍ عبرَ الشاشات، فضلًا عن أهمية مُراجَعة كِتابٍ
يقدِّم لهذه المصطلَحات على نحوٍ مُرضٍ، كعَمَل وِلفرِد جوزِف دَلِي "العِمارة
العربية بمصر"، ذلك الذي ترجمَه محمود أحمد وصدرَ أيضًا عن الهيئة المصرية للكتاب.
أخيرًا
لا يفوتُنا أن نُشير إلى موطِن ضَعفٍ لا يُفوَّتُ في الكِتاب، هو ارتباكُ التواريخ
التي يُوردُها كاتبُنا أحيانا، ففي نهاية مقال (جامع الأقمر) يقول: "ظلَّ الآمِرُ
بأحكام الله يتردد على قصر الهودَج بالروضة حتى اغتيالِه يوم الثلاثاء رابعِ ذي القعدة
سنةَ 254 هـ"، وهو تاريخٌ مستحيلٌ لأنّ بناء القاهرة ومجيء الفاطميين إلى مصر
كان أصلاً بعد هذا التاريخ بقَرن! ونكتشِف حين نُراجعُ المَصادرَ أنّ هذا الخليفةَ
الفاطميَّ قد اغتيلَ عام 524 هـ، ما يعني أنّ الخطأ هو في الأغلَب خطأُ جَمعِ المقالات
وتحرير المسوَّدة النهائية للكتاب، وهو أمرٌ متكرِّرُ هنا.
كما
لا ننسى أنّ كاتبَنا المعروفَ بإثارة الجدَل لا يَهجر عادتَه هذه هنا، ففي فصل جامع
عقبة بن عامر يقول عن عُقبة: "وهو آخِر مَن جمعَ القرآنَ الكريمَ، ومصحفُه الذي
كان مختومًا باسمِه في مصر كان يختلِف عن مصحَف عثمان." هكذا يُلقي أبو جليّل
بحجَرٍ في وجوهِنا لا في مِياهٍ راكدةٍ، ليُثيرَ مَن لم يسمعوا بأمر الاختلافاتِ بين
مَصاحِف بعض الصحابةِ وبعض. وكنتُ أتمنى أن يُحيلَنا إلى مصدرِه في معلومةٍ مهمّةٍ
كهذه بالتحديد، بدلًا من أن يَذكُرَ مَراجعَه إجمالًا في نهاية الكتاب.
وانتهاءً،
فالكِتابُ جديرٌ بالقراءة، ملهِمٌ في كثيرٍ من حكاياتِه التي غاصَ عليها كاتبُه في
بُطون المَراجع التاريخية التراثية والمُحدَثة. صحيحٌ أنّ هناك ما يَنقصُ مِن نَفعِه
كما أسلَفنا القولَ، إلا أنّه يَشفعُ لكاتبِه ما بَذلَ من جهدٍ وما أظهرَ من شغفٍ بالتاريخ
وجَمال العِمارة الإسلامية.