(خطبة الفوهرر)
سمعت الكثير عن هتلر، لكن هتلر الذي سمعت عنه، غير
هتلر الذي رأيته وحاورته..
قالوا إنه جنرال مهووس يرتدي حلة عسكرية خاصة مزينة بعشرات
الأوسمة والنياشين، بعضها قديم وغريب الشكل، وبعضها من أغطية زجاجات المياه
الغازية.. قصته بدأت في الانتشار بعد أن وقف في إحدى المقاهي الشهيرة في وسط
القاهرة، وألقى خطبة حماسية وصف نفسه فيها بأنه "مستشار مصر الأول"،
وأعلن ترشحه ضد مبارك في أول انتخابات رئاسية يخوضها..
لم يمر الموقف بهدوء في المقهى الشهير، إذ تحمّس عدد
من الحاضرين وأعلنوا تأييدهم للمرشح الشجاع، وأحضر أحدهم سيارته
"الكابروليه" ودعا "المستشار هتلر" في جولة انتخابية طافت
"الكعكة الحجرية" في ميدان التحرير عدة مرات، وهتلر يرفع يده بطريقة
"زيج هايل" النازية لتحية الجماهير القليلة المندهشة. وبعد الجولة تعرض
هتلر لموجة من السخرية والتندر جعلته غاضباً من "سطحية الشعب"
و"عدم تقدير الرعاع للتحول التاريخي الذي تحتاجه مصر" (حسب تعبيراته
الجادة التي قالها لي بعد ذلك).
(حاورت هتلر)
بعد سنوات قليلة من هذه الواقعة تعرفت على هتلر عن
طريق صديق، واستمعت إليه كثيرا، واكتشفت أن ما سمعته عنه لا يعبر عن حقيقته، بل إن
حقيقته لا تزال مجهولة في معظمها حتى الآن. لم يكن هتلر يرتدي البذلة العسكرية
الكاريكاتورية التي نقلتها الحكايات، ولم يكن يقبل السخرية ولا الهزل بملامحه الصارمة
التي تعوّد أن تكون على طريقة تعبيرات وجه النسخة الألمانية القديمة لأدولف هتلر،
حتى الشارب لم يكن تقليدا اعتباطيا لشارب هتلر، لكن مع لمسة تضفي هوية خاصة على
النسخة المصرية للزعيم "هتلر أبو سعدة". واقترح الصديق أن أسجل حوارا تلفزيونيا
مع هتلر، بدلا من المناقشات التي لا يتم توثيقها، وكانت فكرة جيدة، كشفت عن الكثير
من الأفكار الرئيسية المهمة في رأس "الرجل الغامض"..
هذه القصة المثيرة تحتاج كتابة تفصيلية عن شخصية "هتلر
أبو سعدة" كما عرفتها، لكن هذا ليس وقته، لأنني أرغب في الانتهاء من مقال
"
الجيوش الخاصة" وما يثيره من تفريعات تجمع التاريخ مع السياسة مع
الاقتصاد مع الغرائز البشرية التي تثيرها مشاعر القوة والسلطة وقيادة الحشود..
لكن لماذا إذن بدأت في رواية قصة هتلر أبو سعدة؟
لأن الحوار الشامل الذي سجلته معه تناول وضعية الجيش
في البرنامج الانتخابي لرؤية مصر تحت إدارته، فاجأني هتلر أنه يرفض مبدأ
التجنيد
الإلزامي لتأسيس "جيوش نظامية"، وقال بالحرف: أرفض التجنيد الإجباري،
لأن الدفاع عن الوطن يجب أن ينبع من الحب والرغبة، وليس من الخوف والإكراه، لذلك
في مستشاريتي سيكون "التجنيد اختياريا" و"التعليم إجباريا"،
مش معقول أجبر الناس تحب بلدها بقرار تخويف، الإجبار يكون في دفع الناس للتعليم
ومتابعة التطورات ومعرفة الحقائق، وهذا سيجعلهم مواطنين يعرفون كيف يحافظون على
وطنهم، لأنهم يحبونه طواعية ولا يدافعون عنه بالاستعباد والإكراه..
(الدرس المستفاد)
علمني "هتلر" عدم الاستهانة بأحد، وعدم
السخرية من أفكار أحد، فالكلام الذي كان يتندر به الهازئون ويسخرون من جنون صاحبه،
كان بمثابة الحكمة الخفية التي ينطق بها لسان رجل غريب الأطوار، لكن نفس الأشخاص
الهازئين إذا قرأوا نفس الكلام
عند برتراند راسل مثلا، فإنهم يظهرون الإعجاب والإشادة بالمواقف العظيمة، فقد اتخذ
"راسل" نفس الموقف الرافض للتجنيد الإجباري بعد اندلاع الحرب العالمية
الأولى، وانخرط ضمن حركة لمقاومة إجبار الشباب على التجنيد، وحُكم عليه بغرامة مالية،
ثم حوكم مرة ثانية في نهايات الحرب (عام 1918) وتم الحكم عليه بالسجن.
وفي الشرق العربي كان عبد الرحمن الكواكبي أسبق من
راسل في التنديد بالتجنيد الإجباري، بل وبالجيوش النظامية نفسها، باعتبارها أهم
وأقوى دواعم الاستبداد، وقد دفع الكواكبي حياته ثمنا لهذا الموقف بفنجان من القهوة
المسمومة قدمه له أحد جواسيس الاستبداد أثناء منفاه الاختياري في القاهرة.
رأي هتلر أبو سعدة في التجنيد الإلزامي يفتح ملف قضية
كبيرة وشائكة ومسكوت عنها، لأنها تكشف الفوارق الخطيرة بين مبدأ
"الجهاد" عن العقيدة والوطن والحق، وهو مبدأ لا بد وأن يكون طوعيا
ونابعا من عقيدة وحب المجاهد، وبين طريق استخدام القوة للترويع والقمع، وهو طريق
يهدف إلى الاحتكار والهيمنة والتسلط وترويع الرعية، إضافة إلى استخدام القوة
كوسيلة للارتزاق والنفع المالي.
والقضية متشابكة، لأن الجهاد الطوعي لا يعني إهمال
الجانب المعيشي للمجاهدين والمرابطين وأسرهم، فقد اهتم "ديوان الجند"
الذي أسسه الفاروق عمر بن الخطاب بكفالة المجاهدين وعائلاتهم عن طريق كشوف من
"العطايا"، وتشجيع "التبرعات" التي يقدمها القادرون لعائلات
المجاهدين كنوع من الجهاد بالمال.
والفارق بين رعاية معيشة "المجاهدين" وبين
مرتبات "
المرتزقة الجدد" يتضح من التعريف الحديث للمرتزقة باعتبارهم
"عابرين ليسوا من رعايا الأطراف المتحاربة ولا يؤمنون بعقيدة يدافعون عنها،
لكنهم يقاتلون مقابل أجر ويقدمون خدماتهم لمن يدفع"..
هذا التعريف لا ينطبق على أفراد ولا شركات أمن وفقط،
لكنه ينطبق على جيوش نظامية كثيرة، صارت أقرب إلى "المرتزقة" بعد تخليها
عن "العقيدة القتالية المركزية" وتحولها إلى "عصابات عنف"
تتبع هوى الحكام وميولهم السياسية، التي قد تتعارض مع عقائد وطنية وأخلاقية ودينية
أيضا، ومن هنا تبدأ تعقيدات النظرة للجيوش وحسابات الولاء والخيانة التي تختلط
فيها المفاهيم والحجج.
(شهادة من الجانب الآخر)
انضم ضابط المظلات الأمريكي الشاب "شين
ماكفيت" إلى مؤسسة "DynCorp"، وهي أقدم شركة عسكرية خاصة أسسها
العائدون من الحرب العالمية الثانية، وتولت تقديم مهام لوجيستية وتدريبية وأعمال
مقاولات في أفريقيا وأمريكا اللاتينية لصالح البنتاجون، وبعد خبرة طويلة في مجال
المرتزقة والتعامل المباشر مع أمراء الحرب في وسط أفريقيا وبنما، تولى منصب مدير
البرامج في الشركة، ثم مستشارا للبنتاجون، ثم تحول مع الوقت إلى "متمرد
استراتيجي" وصاحب مؤلفات تتعارض مع العسكرية التقليدية لقياداته، بدأها
بكتابه المثير للجدل: "لماذا لا ينتصر الغرب في حروبه؟.. وكيف ينتصر؟"،
ثم كتابه عن "المرتزقة الجدد.. الجيوش الخاصة في النظام العالمي"، وهو
"كتاب انقلابي" على صيغة الجيوش النظامية، يثبت فيه ماكفيت أن الدولة
الحديثة لم تعد تستطيع مواجهة التحديات الأمنية بجيوشها الروتينية البطئية،
وبالتالي صارت الجيوش الخاصة هي الأكثر قدرة ونجاحا على إدارة الحروب وتحقيق
الانتصارات، وبما أن النظام العالمي يعتمد في جوهره على "مبدأ السوق
الحر"، فمن الطبيعي أن التوسع في مجال الخصخصة العسكرية، ليس في مجال التدريب
ولا الصيانة، والنقل والبناء
وفقط، لكن في عملية القتال المباشر.
فقد نجحت التجربة الأمريكية في أفغانستان والعراق بسبب
اعتماد الولايات المتحدة على الشركات الخاصة، فقد تعاقدت إدارة بوش لاستئجار 7 في المائة
من المقاتلين في أفغانستان وأكثر من نصف المقاتلين في العراق، وتدخلت في أفريقيا
عن طريق شركات خاصة تقوم بأدوار مؤثرة منها إعادة تأسيس الجيش النظامي في ليبريا
عن طريق شركة "داين
كورب"،
التي ضغطت على الدولة لتسريح جيشها القديم تماما وإعادة بناء جيش جديد بمفاهيم
وقواعد حديثة؛ تبعد الجيش عن السياسة ونزاعات القبائل وتجعله قوة حماية لأمن
البلاد وفقط.
لكن نجاح التجربة الليبيرية من وجهة نظر ماكفيت ليست
دليلا على نجاح الشركات الخاصة في جبهات أخرى، ففي الحالة الصومالية كانت الشركات
الخاصة من عوامل التدمير الشامل لمنظومة الدولة وإثارة الفوضى العسكرية
والاجتماعية ورفع وتيرة العنف. وقد لعبت الإدارة الأمريكية (بحسب ماكفيت) دورا في
هذا التمزيق العسكري عن طريق تعاقدها مع شركة "داين
كورب"
نفسها لتدريب
وتسليح قوات حفظ السلام من أوغندا وبوروندي، ونشرها
في الصومال لمواجهة الشركات الخاصة التي تعاقدت معها أطراف الحرب هناك، ما أدى إلى حالة "بلقنة"،
أو "إعادة إنتاج العصور الوسطى بأسلحة حديثة" حسب تعبير يسميه "الباحث
الأوت سايدر" في كتابه.
الخلاصة في شهادة "ماكفيت" الذي يعتبره بعض
المؤيدين لأفكاره بأنه "صن تسو الجديد"، أن الجيوش الخاصة هي القوة
العسكرية الأكثر بروزا وتأثيرا في هذا القرن، وبالتالي لا يمكن تجاهل وجودها، لأن
عدم فهم قوتها سيؤدي إلى شيوع حالة من الفوضى والعنف بلا ضوابط، خاصة مع تبني دولة
كبيرة مثل الولايات المتحدة لأسلوب "الحرب بالوكالة"، وهو الأسلوب الذي
توسعت فيه دول كثيرة أخرى، لم تقتصر على الدول الكبرى مثل روسيا وفقط، لكن لجأت
إليه "دول صغرى في الخليج" واستخدمته في جبهات كثيرة مثل سوريا واليمن
وليبيا والسودان، حيث يظهر تأثير الجيوش الخاصة متفوقا على الجيوش النظامية، ويقرر
في معظم الأحوال مصير المعارك، وهي الظاهرة التي سيطرت على المظهر العسكري
والسياسي في العصور الوسطى، وإذا لم يتم التعامل معها بذكاء واحتواء، فإن التاريخ
سيعيد نفسه في صورة فوضى مأساوية يعاني من متاعبها الجميع..
وللحديث بقية..
tamahi@hotmail.com