كم من الحروب العدوانية والحروب شنتها قوات
الاحتلال الإسرائيلية ليس ضد
الفلسطينيين فحسب، بل ضد الدول والشعوب العربية الأخرى، وفي كل مرة تصدر التصريحات الغربية لتؤكد أمرين: الأول أن من حق «إسرائيل» الحفاظ على أمنها، والثاني أن التصعيد ليس حلّا. مع ذلك يتكرر العدوان بدون توقف، حتى ليبدو أن هذا العالم أصبح غابة بلا قانون أو أخلاق.
هذا «الحق» الذي يتحدث عنه السياسيون وتكرره وسائل الإعلام، لا يوازيه «حق» آخر للفلسطينيين في العيش بأمن على أراضيهم، ولا شجب للممارسات غير الإنسانية التي تشمل قتل الأطفال أو تشريد العائلات، أو سياسة «الترانسفير» التي أقصت السكان الأصليين من أرضهم.
في الأسبوع الماضي، صرّح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأنه يتفهم «مخاوف «إسرائيل المشروعة» بشأن أمنها، مضيفا: «لكن التصعيد ليس هو الحل». وبعد عملية عسكرية نفذتها إسرائيل في مخيم
جنين بالضفة الغربية، وصفها غوتيريش بأنها «أسوأ أعمال عنف في الضفة الغربية منذ سنوات كثيرة». قال؛ «إن استخدام الضربات الجوية لا يتسق مع إجراء عمليات إنفاذ القانون»، فلماذا لا يرعوي الصهاينة عن ممارسة تلك الأعمال المشينة التي تمثل جرائم حرب واضحة؟ وقد أكدت مجموعة من خبراء الأمم المتحدة، أن الغارات التي شنها سلاح الجو الإسرائيلي على مدينة ومخيم جنين في الضفة المحتلة، يمكن تصنيفها جريمة حرب. وقالت المجموعة؛ إن عمليات القوات الإسرائيلية بالضفة المحتلة، التي تقتل وتسبب إصابات خطيرة للسكان، وتدمر منازلهم وبنيتهم التحتية، وتشرد الآلاف بشكل تعسفي، ترقى إلى مستوى الانتهاكات الصارخة للقانون الدولي والمعايير المتعلقة باستخدام القوة، وقد تشكل جريمة حرب.
واعتبر الخبراء أن الممارسات الإسرائيلية تفتقد للمبررات القانونية بموجب القانون الدولي، وأعربوا عن قلقهم البالغ حيال الأسلحة والتكتيكات العسكرية التي تستخدمها القوات الإسرائيلية ضد سكان مخيم جنين، ولا بد من التأكيد أن جرائم الحرب ارتكبت منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي على فلسطين. ففي نيسان/أبريل 1948، حدثت مذبحة دير ياسين؛ وهي عملية إبادة وطرد جماعي نفذتها مجموعتا الإرغون وشتيرن الصهيونيتان، في قرية دير ياسين الفلسطينية غربي القدس. كان معظم ضحايا المجزرة من المدنيين ومنهم أطفال ونساء وعجزة، ويتراوح تقدير عدد الضحايا بين 250 و 360 حسب المصادر العربية والفلسطينية، و109 حسب المصادر الغربية. كانت مذبحة دير ياسين عاملا مهمّا في الهجرة الفلسطينية إلى مناطق أُخرى من فلسطين والبلدان العربية المجاورة؛ لما سببته المذبحة من حالة رعب عند المدنيين.
هذه الجرائم تفوق في بشاعتها ما حدث في بلدان أخرى اتُهم زعماؤها بجرائم حرب.،ومن تلك الجرائم مجزرة قانا التي ارتكبتها «إسرائيل» ضمن عدوان شنته على جنوب لبنان عام 1996، وأطلقت عليه اسم «عناقيد الغضب»، وأودى بحياة 175 شخصًا إضافة إلى 300 جريح. سقط قرابة مئة من الشهداء في ذلك اليوم الأسود، الذي استهدفت فيه إسرائيل مركز قيادة «فيجي» التابع لقوات الأمم المتحدة لحفظ السلام. المركز الذي هرب إليه حينها 800 لبناني للاحتماء من جحيم القصف، وكانوا بمعظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، تحوّل إلى هدف آخر للإجرام الإسرائيلي، وأدت الضربات عليه إلى استشهاد 106 أشخاص بينهم عشرات الأطفال، فيما أُصيب نحو 150 آخرين بجروح وإصابات بدنية. وبرغم انتهاك حصانة قوات الأمم المتحدة، فقد التزم الغربيون الصمت المطبق، ولم يتم التعرض للإسرائيليين الذين ارتكبوا المجزرة.
وليس مستبعدا أن يصحو العالم يوما على أنغام الدعوة لمحاكمات عديدة تطال مسؤولين وعسكريين من بلدان شتى. وفي الأسبوع الماضي، أعلنت وزارة الدفاع البريطانية أن قواتها الخاصة قتلت عشرات الأفغان خلال التدخل العسكري البريطاني والأمريكي في ذلك البلد، وجاء الكشف عن ذلك في إطار لجنة تحقيق خاصة برئاسة رئيس القضاء، هادون كيف. ومهمة لجنة النظر في ما إذا كانت القوات الخاصة البريطانية قد ارتكبت جرائم خطيرة في أفغانستان، وما إذا كانت هناك لجان تحقيق فاعلة من قبل الشرطة العسكرية الملكية، وتمت التغطية على حالات قتل غير مشروعة، وكانت لجان تحقيق أخرى قد أثبتت ارتكاب جرائم حرب من قبل القوات البريطانية في العراق، حيث قتل مدنيون أبرياء ومقاتلون بعد استسلامهم.
وإزاء هذه التصريحات الدولية، تتبادر تساؤلات عديدة حول مسألة جوهرية: هل عالم القرن الحادي والعشرين يفوق في تطوره عالم القرون السابقة، خصوصا في مجالات الحرب والسلم، واحترام القانون الدولي والالتزام بقيم حقوق الإنسان؟ وهل أن الدعاية المفرطة حول «التزام العالم الحر» بتلك القيم تحظى بمصاديق على أرض الواقع؟ فهناك العديد من ساحات الحرب في هذا العالم التي ينتهك فيها القانون الدولي بشكل صارخ؛ ففي العراق وأفغانستان ارتكبت القوات الأمريكية والبريطانية ما يمكن أن يرقى إلى «جرائم حرب». وما يزيد الوضع إيلاما ظاهرة الانتقائية في تطبيق المعايير الدولية. ألم يعتقل الرئيس السوداني عمر البشير بتهم ارتكاب جرائم حرب في دارفور؟ ألم تصدر محكمة الجنايات الدولية قرارا بالقبض على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا؟ إن من غير اللائق تجاهل تلك التهم، ولكن الأمر المقزز ظاهرة الانتقائية وازدواجية المعايير والتحكم في تطبيقات القوانين الدولية، فتطبق في الحالات التي تريدها الدول الغربية ويتم تجاهلها في الحالات الأخرى. لماذا لم يتحدث سياسي أو إعلامي أو حقوقي بارز عن القادة الإسرائيليين والغربيين المسؤولين عن ارتكاب جرائم حرب، كما هو مذكور؟
فعلى مدى ثلاثة أرباع القرن، تم التغاضي عن جرائم الحرب التي ارتكبت في فلسطين وما تزال ترتكب بشكل متواصل، بل يشعر المحتلون أن الدعم الغربي لسياساتهم وحروبهم وعدوانهم، يكفي لحمايتهم من المقاضاة الدولية، وأن القوانين التي تنظم سلوك الدول في الحرب والسلم، يتم تحييدها والتغاضي عنها في الحالة الإسرائيلية. إنها واحدة من أبشع حالات الانتقائية التي يمارسها «العالم الحر»، متكئا على نفوذه السياسي والعسكري وسيطرته على المؤسسات الدولية. ولا يستطيع ذو لب حصيف أو ضمير إنساني تجاهل ما ارتكبته قوات الاحتلال الإسرائيلية في معسكر جنين الذي حوّلته إلى ركام. وقد أكد نائب محافظ جنين كمال أبو الرب، أن نحو 90٪ من الشوارع في المخيم تم تدميرها، وأن شبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي دُمرت بشكل شبه كامل. وقال؛ إن العدوان أحدث أضرارا بنحو 80 بالمائة من منازل مخيم جنين. فهل هذا استهداف لـ «الإرهابيين» أم الإنسانية؟
في الأساس هناك مخيّم، لماذا؟ لأن المحتلين الصهاينة أخرجوا الفلسطينيين من ديارهم وحوّلوهم إلى لاجئين؛ فبُنيت لهم المخيمات في فلسطين ولبنان وسوريا والأردن ومصر. وعلى مدى ثلاثة أرباع القرن بقي هؤلاء اللاجئون في المخيّمات. أوليس طردهم من أرضهم جريمة حرب؟ لماذا يصمت العالم على إزاحة الفلسطينيين بهذا الشكل المروّع؟ هذه السياسة لم تتوقف حتى الآن. ألم تقم قوات الاحتلال بمحاولة السيطرة على حي سلوان في القدس وإخراج سكانه منه بالقوة؟ ألم تجبر قوات الاحتلال التي اعتدت على مخيّم جنين، أكثر من ألف لاجئ على مغادرة منازلهم ليتم تدميرها عمدا مع سبق الإصرار والترصّد؟ هل أن طرد هؤلاء من منازلهم ضرورة لحفظ أمن «إسرائيل»؟ كيف يحق إلحاق الأذى والضرر بقطاع من البشر من أجل ضمان أمن قطاع آخر؟
لقد كشف العدوان الإسرائيلي الأخير على مخيم جنين عددا من الأمور: أولها؛ الفشل الذريع للعملية، إذ لم تحقق أهدافها المعلنة باستئصال من تسميهم «الإرهابيين»، ففي غضون ساعات من انتهاء العدوان، سار المسلّحون بأعداد كبيرة في موكب تشييع الشهداء الاثني عشر الذين قتلتهم القوات الإسرائيلية. ثانيها؛ أن حجم الدمار الذي أحدثه العدوان فاق التصور وأحرج الجهات الدولية، خصوصا الأمم المتحدة التي كرر مسؤولوها شجبهم للدمار الهائل الذي استهدف البنى التحتية للمخيم. ثالثها؛ أنه أظهر الوجه القبيح للصهاينة وأحرج داعميهم، ولذلك توقف العدوان في غضون 48 ساعة بدون أن يحقق شيئا، بعد أن خشي الداعمون الغربيون التورط في جرائم حرب شنيعة. رابعها؛ أن الجانب الفلسطيني أثبت مرة أخرى شجاعته واستبساله وشموخه ورفض الاستسلام للمحتلين والمعتدين، وحظي باحترام العالم، وأثبت أنه الرقم الأصعب في معادلة قلقة استمرت 75 عاما. خامسها؛ أن العدوان دفع العرب والمسلمين للالتفاف حول القضية الفلسطينية بعنفوان وفخر وإباء، وذلك صفعة موجعة للاحتلال وداعميه والمطبّعين معه. سادسها؛ أنه ساهم في إضعاف وهج قوات الاحتلال التي شعرت بالرعب وهي ترى الفلسطينيين المدافعين عن أنفسهم وأرضهم يتصدون للمحتلين باستبسال وشمم، ويلحقون أضرارا بقوى العدوان.
القدس العربي