من
الكوارث الكبرى التي صنعها انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013 في
مصر هي
تمزيق
المجتمع، وتقسيم المصريين إلى شعبين، أحدهما موال للحكم الجديد، وهو من يخاطبه
السيسي بمصطلح "انتوا يا مصريين"، وشعب مناهض أو معارض لهذا النظام، ويطلق
عليهم "أهل الشر".
سعى
النظام الجديد لتكريس هذا
الانقسام المجتمعي الذي يعتاش عليه، وأنتجت
أدواته
الفنية أغنية هي الأكثر جرما بحق الشعب، وتحريضا مباشرا عليه، والتي كتبها الفنان مدحت
العدل ولحنها أحمد الحجار، وغناها شقيقه علي الحجار: "انتو شعب وإحنا شعب.. ليكو
رب ولينا رب". والطريف أن الذي كتب الأغنية وأنتجها من خلال شركته "العدل
جروب"، صار هو وأشقاؤه ضمن المتضررين من النظام الجديد الذي احتكر مجال الإنتاج
الدرامي، ولم يسمح لمجموعتهم بإنتاج أعمال درامية إلا بعد موافقات أمنية شبه
مستحيلة، وهذا ما أكده رئيس المجموعة جمال العدل لوكالة رويترز في كانون الأول/ ديسمبر
2019، بحديث مسهب عن الاشتراطات والموافقات الأمنية المطلوبة لإنتاج أعمال درامية.
سعى النظام الجديد لتكريس هذا الانقسام المجتمعي الذي يعتاش عليه، وأنتجت أدواته الفنية أغنية هي الأكثر جرما بحق الشعب، وتحريضا مباشرا عليه، والتي كتبها الفنان مدحت العدل ولحنها أحمد الحجار، وغناها شقيقه علي الحجار: "انتو شعب وإحنا شعب.. ليكو رب ولينا رب"
حرص
رأس النظام عبد الفتاح السيسي طيلة العشرية السوداء على مخاطبة أنصاره باعتبارهم فقط
"المصريين" وأن عليهم أن يقفوا معه في مواجهة أهل الشر، وهم معارضوه.
وإذا حاولنا أن نعرف نسبة كل شعب في هذا التقسيم فليس أمامنا من مرجع يعتد به أكثر
من نتائج الانتخابات الرئاسية في 2012 والتي فاز فيها الدكتور محمد مرسي بأصوات
51.73 في المئة، بينما فاز منافسه الفريق أحمد شفيق بنسبة 48.23 في المئة، وإذا
اعتمدنا هذا المعيار فإن الشعب الذي خرج دفاعا عن الشرعية والذي وصفه السيسي
وأذرعه بأنهم أهل الشر يمثلون أكثر من نصف الشعب المصري.. لو كنت غير مصري -سائحا
او زائرا أو حتى مقيما- فعليك أن تتخيل أنك تسير وحولك شخص من كل اثنين هو من أهل
الشر وفقا لتصنيف النظام!!
منذ
اللحظات الأولى لانقلابه حاول السيسي وإعلامه تقزيم حجم الإخوان وأنصارهم الذين
كانوا في ذلك الوقت يمثلون الدفاع عن شرعية الرئيس محمد مرسي، وحاول أن يحصر
معركته معهم، وقام بتصنيف الجماعة "إرهابية"، وهو التوصيف الذي طال كل
معارض حقيقي للنظام الجديد، حتى إنه طال شيوعيين ومسيحيين اتُهموا بالانتماء
لجماعة إرهابية، وتم وضعهم ضمن قوائم الإرهاب!!!
التمزيق
لم يقتصر على جماعة بعينها، بل طال معظم الأسر المصرية إن لم يكن جميعها، ففي كل
أسرة من يدعم النظام وفيها من يعارضه، وفي ظل حالة الشحن العالية لم تتوقف
الخلافات العائلية عند حدود الاختلاف اللفظي في وجهات النظر، بل تعدتها إلى
المقاطعة بين الأخ وأخيه، والابن وأبيه، والطلاق بين الزوجة وزوجها، وشجع النظام
عبر أذرعه المختلفة أنصاره على الوشاية بذويهم ممن يعارضونه، واستجاب لذلك
الكثيرون، ما عمّق الشرخ في تلك الأسر، وهو شرخ لن يندمل بسهولة.
التمزيق لم يقتصر على جماعة بعينها، بل طال معظم الأسر المصرية إن لم يكن جميعها، ففي كل أسرة من يدعم النظام وفيها من يعارضه، وفي ظل حالة الشحن العالية لم تتوقف الخلافات العائلية عند حدود الاختلاف اللفظي في وجهات النظر، بل تعدتها إلى المقاطعة بين الأخ وأخيه، والابن وأبيه، والطلاق بين الزوجة وزوجها، وشجع النظام عبر أذرعه المختلفة أنصاره على الوشاية بذويهم ممن يعارضونه
تجاوز
تعداد المصريين 105 ملايين نسمة في الداخل بخلاف عدد المصريين في الخارج والذين
قدرتهم وزارة الهجرة بين 10 و14 مليونا، ومن ميزات المجتمع المصري تاريخيا التماسك
الأسري، فأغلبيته هي من سكان الريف (60 في المئة)، كما أن النسبة الأكبر من سكان
المدن ينحدرون من الريف أيضا ويحملون معهم خصائص التماسك الأسري، وقيم العائلة، كما
أن الغالبية الكاسحة من المصريين هم مسلمون سنة، ومعهم أقلية مسيحية بين 5 و10 في المئة،
ولذلك فإن هذا التمزيق المجتمعي الذي صنعه الانقلاب كان وباء طارئا على مجتمع
متماسك.
من
حسن الطالع أن غالبية الشعب المصري أفاقت للحقيقة المرة، وهي أن هذا الحكم العسكري
الذي فرض نفسه عليهم بالقوة، وفشل في تحقيق وعوده لهم، حرص في المقابل على إبقاء
حالة التمزق المجتمعي حتى يستغل بعض المصريين ضد البعض الآخر، أي أنه يستخدم
النظرية الاستعمارية التقليدية " فرّق تسد"، فهو لا يستطيع البقاء في
السلطة في ظل شعب متحد واع.
بفضل
هذه الإفاقة استعاد غالبية المصريين وحدتهم الاجتماعية، وعاد السلام إلى معظم
العائلات التي شهدت انقسامات من قبل، وفي مواجهة هذه العودة للتماسك حاول النظام
النفخ في نار الفرقة مجددا مع حلول الذكرى العاشرة لانقلابه، بإعادة الأساطير
المؤسسة لـ30 يونيو، والتي كان منها أن مصر مقبلة على حرب أهلية، وأن تدخل الجيش
هو الذي أنقذها، ومنها أن الحكم الديمقراطي بقيادة الرئيس مرسي فشل في مهمته، وأنه
لم يكن جديرا بحكم مصر، وأنه كان سيتسبب في خراب مصر، وفقدانها لسيادتها. وهي
دعاية وإن انطلت على قطاعات من الشعب قبيل الانقلاب أو حتى استمرت بعده لبعض الوقت،
فإنها لم تعد صالحة للاستخدام الآن بعد أن تيقن المصريون أن وهم الحرب الأهلية كان
محض ذريعة لتسويق الانقلاب، وبعد أن شاهد المصريون بأم أعينهم من الذي أراد "التكويش"
على السلطة، ثم فشل في إداراتها، ولم يف بوعوده، ومن الذي فرّط في الأرض والمياه
وتسبب في خرابها وانتهاك سيادتها.
إحدى
المهام الكبرى أمام القوى السياسية والاجتماعية والدينية والفنية المصرية هي
مواجهة هذا الانقسام المجتمعي، وعلاج ما تبقّى من آثاره، ومواجهة أي محاولات جديدة
لإذكاء نار التقسيم التي يحرص النظام عليها عندما يشعر بالخطر على نفسه.
twitter.com/kotbelaraby