أيام قليلة وتدخل
الحرب في
السودان شهرها الثالث، وصغار الجند
والضباط من حيث المراتب الوظيفية ومعهم المواطنون العاديون يدفعون ثمنها من
أرواحهم وممتلكاتهم، لأن البلاد دخلت مرحلة "اللادولة"، ففي ميدان
المعركة الرئيس الذي هو العاصمة السودانية بمدنها الثلاث، لا أثر لعناصر المؤسسة
العسكرية (شرطة، جيش، أمن) في معظم أنحائها، بينما تعرضت آلاف المساكن للنهب من
قبل جنود قوات الدعم السريع، والذين يبدو أن بعضهم غير معني بالحرب التي يفترض
أنهم طرف رئيس فيها، في مواجهة القوات المسلحة الرسمية، بدليل أنهم يحتلون البيوت
ويقيمون ويولمون فيها، وهم شاكي السلاح الذي يبدو أنه يستخدم فقط لترويع
المواطنين، وليس لهزيمة الجيش الوطني، كما هو معلن من جانب قائدهم محمد حمدان دقلو
(حميدتي) وإخوته الذين يشغلون المناصب القيادية في قوات الدعم السريع.
القائد العام للجيش السوداني، الفريق عبد الفتاح البرهان، هو أيضا
رئيس مجلس السيادة (رئاسة الدولة)، ويفترض أنه المسؤول الأعلى عن أمن وسلامة وصحة
وتعليم وغذاء المواطن، ولكن مسلكه ومن ثم مسلك الجيش السوداني يشيان بأن الأولوية
عندهما للحرب وحسم الدعم السريع عسكريا، ولكن لا شيء على الأرض يشير الى أن ذلك
حادث بأي درجة، رغم هدير وأزيز وإرعاد طائرات ودبابات ومدفعية الجيش المستمر،
فالدَّعّامة ـ كما يسمي السودانيون عناصر الدعم السريع ـ يسيطرون على معظم مفاصل
مدن العاصمة السودانية، والمرابطون منهم في نقاط الارتكاز يتعاملون مع المارة بلطف
وظرف لإعطاء الانطباع بأنهم "منحازون للشعب"، وينشدون إقامة حكم مدني،
كما تقول بيانات قادتهم لتبرير الدخول في حرب ضد الجيش، الذي كان حاضنتهم ما قبل
15 نيسان/ أبريل الماضي، وهو تاريخ اندلاع الحرب رسميا، بينما وفي الأحياء التي
لا تشهد الاقتتال يمارس بعض الدعامة أبشع صنوف غطرسة السلاح، بممارسة السرقات
المتلفزة، أي أنهم يبثون مقاطع فيديو لأنفسهم وهم يحتلون المساكن ويقيمون فيها بعد
تجريدها مما خف حمله وغلا ثمنه، مستخدمين مركبات القوات التي ينتمون إليها مما
يؤكد أنهم لا يخشون أي نوع من المساءلة من قادتهم.
استخفاف طرفي حرب السودان بالأرواح والممتلكات، يهزم ادعاءاتهما
بأنهما يحاربان من أجل الوطن والمواطن، لأن المطحون بين حجري الرحى هاتين هو
المواطن البسيط، الذي بات محروما من الطعام والغذاء والأمن والسلامة، وهكذا
لجأ مئات الآلاف من السودانيين إلى دول
الجوار، رغم أن في ذلك استجارة من الرمضاء بالنار، لأن معظم تلك الدول ظلت مسارح
لاقتتال أهلي لسنين عددا.
والأمر الذي لا شك فيه هو أن هذه الحرب اشتعلت لقطع الطريق أمام
تشكيل القوى المدنية لحكومة انتقالية، وللبرهان سوابق في ذلك، فبعد سقوط حكومة عمر
البشير في نيسان/ أبريل 2019 شكل كبار جنرالات الجيش، برئاسة البرهان، مجلسا
عسكريا ليتولى مهام رئاسة الدولة، ولكن وتحت الضغط المدني الرافض لعسكرة الحكم،
قبل البرهان ورهطه مبدئيا تقاسم السلطة مع المدنيين، وما أن حان موعد التوقيع على
الاتفاق النهائي الذي يقود إلى تلك الشراكة، حتى دبر البرهان ورفاقه مجزرة بشعة بحق
القوى المطالبة بالحكم المدني، وتنصل البرهان من التعهد بتقاسم السلطة، ثم أجبرته
الضغوط الشعبية على ترك أمر الحكومة التنفيذية للمدنيين مع ضم خمسة مدنيين إلى
مجلس السيادة، في سياق اتفاق يقضي بأيلولة رئاسة المجلس إلى مدني في أواخر عام
2021، وما أن حان ذلك الموعد حتى قام البرهان بانقلاب أطاح بالحكومة شبه المدنية،
وزج برموزها في السجون، ولكنه ظل عاجزا عن تدبير أمور الحكم وتشكيل حكومة، وتحت
الضغوط الداخلية والخارجية قبل في منتصف العام الماضي، بنقل السلطة السيادية
والتنفيذية كاملة الى المدنيين، بحلول منتصف نيسان/ أبريل من العام الجاري، فإذا
بذلك التاريخ يشهد بداية الحرب الحالية.
استخفاف طرفي حرب السودان بالأرواح والممتلكات، يهزم ادعاءاتهما بأنهما يحاربان من أجل الوطن والمواطن، لأن المطحون بين حجري الرحى هاتين هو المواطن البسيط، الذي بات محروما من الطعام والغذاء والأمن والسلامة، وهكذا لجأ مئات الآلاف من السودانيين إلى دول الجوار، رغم ان في ذلك استجارة من الرمضاء بالنار، لأن معظم تلك الدول ظلت مسارح لاقتتال أهلي لسنين عددا.
ولكن وفي المقابل فمن الواضح بالأدلة القطعية والظرفية أن حميدتي ظل
يضمر، منذ سقوط حكومة البشير ان يصبح حاكما على البلاد، أو يتقاسم الحاكمية مع
البرهان، وهنا حدث الصدام بين الرجلين، لأن البرهان طالب بأن تكون قوات الدعم
السريع ـ وتبعا لذلك قيادتها ـ تحت إمرته، بينما رأى حميدتي ان ذلك يؤدي الى شراكة
ضيظى، فبدأت المناكفات والملاسنات بينهما، وبفقدان رعاية البرهان والجيش له
ولقواته، استجار حميدتي بالقوى المدنية، زاعما انه لا يريد أكثر من تسليم الأمور
لحكومة مدنية تتولى الترتيب لإقامة نظام ديمقراطي.
وبموازاة ذلك يقول أبواق البرهان العسكريون إنه وبنهاية الحرب ستبدأ
عملية سياسية تقود الى تشكيل حكومة انتقالية "لا تستثني أحدا"، ما يشي
بأنهم يريدون للموالين لهم من المدنيين أن يكونوا وكلاء لهم (للعسكر) في الحكومة
المرتقبة، في حال انسحاب العسكر من أمور الحكم كليا، أما حميدتي وعموم الدعامة،
فمن فرط جهلهم بأمور السياسة وفنون الكياسة، ظلوا طوال الأسابيع الستة الماضية
يستهدفون المدنيين الذين يزعمون أنهم منحازون لهم، ويشبعونهم قتلا وثكلا، مع
مواصلة بذل الوعود بإقامة حكم مدني "بعد اعتقال البرهان وتقديمه للمحاكمة".
ولك أن تعجب عن نوع الحكم الذي ينشده رجال لا ولاء لهم إلا لقائدهم
وأفراد عائلته، وما يضخونه في جيوبهم من أموال، فهل كان الشاعر الراحل أمل دنقل
يتكلم عن جنجويد الدعم السريع حين قال:
قلتُ لكم في السنةِ البعيدة/ عن خطر الجنديّ/ عن قلبه الأعمى، وعن
همته القعيدة/ يحرس من يمنحه راتبه الشهريّ/ وزيّه الرسميّ/ ليرهبَ الخصوم
بالجعجعةِ الجوفاء/ والقعقعة الشديدة/ لكنه.. إن يحِن الموتَ..
فداء الوطن المقهور والعقيدة/ فرَّ من الميدانْ وحاصرَ السلطانْ/
واغتصب الكرسيّ/ وأعلنَ "الثورة" فى المذياعِ والجريدة*.