لأكثر من ستة أسابيع ظلت العاصمة
السودانية مسرحا لحرب طرفاها القوات
المسلحة الرسمية، وقوات الدعم السريع (التي تدّعي أنها رسمية بحكم أنها تشكلت
بموجب قرار من برلمان حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير)، ثم تمددت الحرب كما هو
متوقع الى مدن نيالا وزالنجي والجنينة في إقليم دارفور المنكوب بالحروب منذ عام
2003، وكما قلت في آخر مقال لي هنا في عربي21، فإن نتيجة الحرب حتى الآن هي التعادل
السلبي، لأن أيا من الطرفين لم يحقق حتى ما يمكن تسميته بالانتصار الجزئي.
وقد بات معلوما أن منشأ هذه الحرب هو عدم التوافق بين قائد القوات المسلحة
عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، حول إدارة
البلاد وتقاسم السلطة ما بعد الانقلاب الذي تواطآ على تنفيذه في 25 تشرين أول/ أكتوبر 2021، وما إذا كان ينبغي
لحميدتي أن يعمل تحت إمرة القائد العام للجيش بعد دمج قواته في الجيش، أم يبقى تحت
إمرة رئيس الدولة كما كان حاله إبان حكم البشير.
وهكذا وفي 15 نيسان/ أبريل من العام الجاري، اكتشف البرهان أن قوات
الدعم السريع مليشيا، وكان في هذا كمن يطلق الرصاص على قدمه، فقد كان القاصي
والداني في السودان يعرف أن تلك القوات هي في الأصل مليشيا قبلية، وأنها تدين
بالولاء لقادتها من آل دقلو (عائلة حميدتي)، وأن لديها سجل حافل بالجرائم
والمخازي، وأنها مجبولة على القتل العشوائي وسلب المواطنين أموالهم وماشيتهم
وأراضيهم، بينما كان البرهان يترافع عن تلك القوات ويمجد "بطولاتها وخدماتها
الجليلة للوطن".
وللجيش السوداني إدارة للإعلام العسكري، تملك أدوات النشر الصحفي
والبث الإذاعي والتلفزيوني، ولكن كل من يتابع مجريات حرب السودان الحالية يكتشف ان
قوات الدعم السريع هي التي تكسب الحرب الإعلامية، ليس لكفاءة فريقها الإعلامي،
ولكن لأنها أعطت كل مجموعة من جنودها حق بث أي انجاز حقيقي او افتراضي عبر وسائل
التواصل الاجتماعي، بينما يسجل الجيش غيابا لأيام طويلة عن المشهد الإعلامي، وكان
البرهان ومنذ انقلابه ذاك يعتمد على الإذاعة والتلفزيون الرسميين، لبث ما يريد،
ولما سقطت الوسيلتان في قبضة الدعم السريع منذ اليوم الأول للحرب، ركن كعادته إلى
عدد من الجنرالات المتقاعدين، الذين درجوا على الدفاع عن كل ما يصدر من البرهان
بعبارات متشنجة تكشف عيَّهم.
بات معلوما أن منشأ هذه الحرب هو عدم التوافق بين قائد القوات المسلحة عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، حول إدارة البلاد وتقاسم السلطة ما بعد الانقلاب الذي تواطآ على تنفيذه في 25 تشرين أول / أكتوبر 2021، وما إذا كان ينبغي لحميدتي أن يعمل تحت إمرة القائد العام للجيش بعد دمج قواته في الجيش، أم يبقى تحت إمرة رئيس الدولة كما كان حاله إبان حكم البشير.
وما ينم عن عدم وجود سياسة إعلامية للقوات المسلحة هي أن بعض الضباط
فيها صاروا ما يعرف بمناضلي الكيبورد، ويبثون تسجيلات مصورة وصوتية يتكلمون فيها
عن سير المعارك بلغة فيها الكثير من التهريج والتهويل، بينما هناك ناطق رسمي باسم
تلك القوات هو العميد نبيل عبد الله، يتسم في بياناته وأحاديثه لوسائل الإعلام
بالرصانة والحذق، ولكنه قليل الظهور، ربما لأنه ليس ميالا لاستعراض عضلاته
البيانية، وربما لأنه ليس لديه ما يقوله.
الفريق ياسر العطا ظل عضوا في مجلس السيادة الذي يجلس على رأسه
البرهان منذ تموز / يوليو 2019، وفي إطار تقاسم غنائم الحرب الحالية، جعله البرهان
مساعدا للقائد العام للجيش، هو وعضو السيادي الآخر الفريق إبراهيم جابر، بينما فاز
الفريق شمس الدين كباشي بمنصب نائب القائد العام، وباستثناء العطا فقد سجل عسكر
مجلس السيادة غيابا تاما عن المشهد، بل إن البرهان وفي المرة الوحيدة التي ظهر
فيها خلال الحرب، انطلق كالإعصار مصافحا عددا من الجنود بحيث عجزت الكاميرا عن
تثبيت صورته على الشاشة، أما العطا فقد قبل الاستضافة في قنوات تلفزة بالصوت فقط
نحو خمس مرات، ردد خلالها مقولة ان الدعم السريع قوات متمردة وانه لا وقف للحرب
إلا بعد القضاء عليها.
ويبدو أن قادة الجيش الذين ينبرون للتحدث عبر وسائل الإعلام لا
يفكرون في عواقب ما يقولونه، فياسر العطا مثلا حسب أنه كال صفعة قوية لحميدتي بما
يثبت أنه (حميدتي) لص أثرى بنهب ثروات الوطن، عندما قال إن حميدتي قام بتخزين أكثر
من خمسين طن من الذهب قام بتهريبها من السودان في روسيا ودولة أخرى (ولم يجد في
نفسه الشجاعة ليقول ما هي تلك الدولة الأخرى)، ونسي أنه كان يؤدي التحية العسكرية
لحميدتي حتى 15 نيسان/ أبريل المنصرم، وأنه كان زميلا له لأربع سنوات في مجلس
السيادة ويتشاركان الإقامة في القصر الجمهوري، ومع هذا، وربما لهذا، تستَّر على
تلك السرقات الجسيمة.
ثم جاءت آخر تصريحات العطا لتفيد بأن قوات الدعم السريع استولت على
مطابع العملة، ولم يخطر له على بال أن الناس سيتساءلون: ولماذا تركتم تلك المطابع
بدون حراسة من قبل الجيش الوطني؟ أم أن الحراسة كانت قائمة ولكنها اندحرت أمام
الدعم السريع؟ وزاد طين العطا بِلّة، أنه وهو ينعى مطابع العملة قال إنها مستودع
أرصدة البلاد من الذهب والعملات الصعبة!! شخص بحكم منصبه يمثل رئاسة الدولة ولا
يعرف ما هي وظيفة مطبعة العملة وسك النقود؟ ولا يعرف ان احتياطي السودان وغير
السودان من الذهب والعملات الصعبة والسهلة مكانه البنوك المركزية؟
عندما استولى البرهان ومعه حميدتي وبقية عسكر مجلس السيادة على
السلطة كاملة في 25 نيسان/ أبريل من عام 2021، فضحوا جهلهم التام بأمور إدارة
أجهزة الدولة، ومنذ يومها والسودان بلا حكومة تنفيذية، وأعطى البرهان نفسه صلاحيات
رئيس الوزراء والبرلمان والسيادة، ولكنه وكما يقول المثل المصري "يقوم من
نُقرة يقع في دُحْديرة"، ويعالج الخطأ بخطأ افدح، أما حميدتي فمن فرط جهله
فإنه يحسب ان المواطنين سيصدقون أنه نصير الحكم المدني والديمقراطي، وكلما أعيى
الأمر أحدهم لجأ إلى الحسم المسلح.
يقول الشاعر المصري الراحل احمد فؤاد نجم:
قالك ثم الجهل مصيبة/ مولف ويا العيا تركيبة/ تشرب منها تعطش تاني/
تشرب تعطش تشرب تاني/ تعطش تشرب خمسة ف ستة/ ماية نار لو طالت جِتّة/ لازم تلحس
أثمن حتة/ يعني المخ يا خلق الله.