في عام 750 ميلادي/ 133 هجري، قام الوالي العباسي صالح بن علي العباسي بإنشاء
عاصمة جديدة لتكون عوضا عن الفسطاط (641 -750 ميلادي)، أولى العواصم الإسلامية
لمصر والتي أسسها سيدنا عمرو بن العاص لتكون عاصمة لمصر، بعيدا عن الإسكندرية التي
عُرفت بكونها عاصمة
مصر في العصر اليوناني- الروماني الذي امتد من عام 332 ق.م إلى
عام 641 ميلادي.
غريب جدا أن يطلق على العاصمة الجديدة اسم مدينة "العسكر"، ولكن
إذا عُرف السبب بطل العجب، فقد كانت العاصمة الجديدة مكانا مخصصا للجنود والعساكر
فقط، وأراد الوالي أن تكون مقرا للجيش وكبار القادة، ولم يسمح للمواطنين ببناء
مساكن لهم في العاصمة الجديدة حتى عام 816 ميلادي، حين حل بالبلاد والٍ جديد هو السري
بن الحكم فسمح مشكورا للناس (الشعب يعني) بالبناء في
العاصمة الإدارية الجديدة،
فامتد العمران حتى تواصلت حدود مدينة العسكر بحدود الفسطاط وصارت هي والفسطاط جزءا من العاصمة الأحدث، وهي القاهرة أو قاهرة المعز لدين الله الفاطمي (972 ميلادي).
هل تشبه حكاية العاصمة الإدارية الجديدة التي يحاول بناءها الجنرال السيسي
منذ عام 2014 ولم تنته حتى اليوم؛ مدينة "العسكر" الجديدة العاصمة
القديمة في عصر العباسيين؟
في العصر الحديث وتحديدا في عصر الرئيس الراحل محمد أنور السادات، حاول
الرجل نقل العاصمة خارج حدود القاهرة تخفيفا عن المدينة التي كانت مزدحمة (ولا
تزال بالطبع حتى اليوم)، حاول الرجل وقام فعليا بالبدء في تنفيذ المشروع (مدينة السادات والتي تبلغ مساحتها 121
ألف فدان والواقعة على الكيلو 93 على طريق القاهرة – الإسكندرية الصحراوي) في عام 1979 بعد أن أصدر قرارا بتخصيص الأراضي اللازمة
للمدينة في عام 1978، ولكن لم يُكتب النجاح للفكرة بسبب رفض الموظفين العموميين
العمل فيها لصعوبة المواصلات بينها وبين محافظة القاهرة؛ مركز البلاد الحكومي.
فكرة نقل العاصمة يبدو أنها لن تموت؛ لأن طبيعة الحكام في مصر هي البحث عن الذات وربط الوطن وتاريخه بذات الحاكم وليس بذات مصر وشعبها وتاريخها، لذا فقد ماتت مدينة السادات العاصمة وبقيت مدينة السادات السكنية مشروعا غير مكتمل
لكن فكرة نقل العاصمة يبدو أنها لن تموت؛ لأن طبيعة الحكام في مصر هي البحث
عن الذات وربط الوطن وتاريخه بذات الحاكم وليس بذات مصر وشعبها وتاريخها، لذا فقد
ماتت مدينة السادات العاصمة وبقيت مدينة السادات السكنية مشروعا غير مكتمل.
في العشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2007 نشرت الصحف المصرية خبرا
بعنوان "مبارك يلغي قرارا للحكومة بإنشاء عاصمة جديدة بعد
إعلانه بـ48 ساعة"، أما سبب رفض مبارك للمشروع
فهو أن هذه العاصمة رفاهية لا لزوم لها، وكما قال أثناء زيارة لمدينة الإسماعيلية
المصرية حينئذ: "إن لدينا أولويات نحرص على مراعاتها، فليس من المتصور أن
يكون لدينا احتياج لتوفير المساكن والخدمات والمرافق، ونتجه لأمور أخرى حاليا، وبعد
أن يتحسن الوضع فإننا سنتجه إلى المزيد من المشروعات، ونضع خططاً لإقامة عاصمة
جديدة بعد فترة طويلة". هذا هو رأي مبارك المخلوع في إقامة عاصمة جديدة
قبل 16 سنة تقريبا، وقد كان على فساد حكمه أكثر تفهما لمعاناة الشعب وحاجته إلى
السكن والصحة والخدمات والمرافق، ورهن إقامة العاصمة بتحسين الأوضاع أولا، فما الذي
تغيّر؟ هل تحسنت الأوضاع؟
الغريب في الموضوع أن مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء الحالي وكان وقتها نائبا
لرئيس الهيئة العامة للتخطيط العمراني، قد نفى أن يكون المشروع عاصمة إدارية بل مجرد
مدينة حكومية تنقل إليها بعض المباني الحكومية (وزارات الصحة والتعليم العالي
والتربية والتعليم والإنتاج الحربي، ومجلس الوزراء ومجلسا الشعب والشورى، بل وهيئة
التخطيط العمراني ذاتها), وجاء في التصريح الذي نقلته عنه صحيفة المصري اليوم: "ما دار الحديث عنه خلال المرحلة الماضية كان حول
مشروع المدينة الحكومية الجديدة، ونحن أرسلنا إلى مجلسي الشعب والشورى لمعرفة
آرائهما في المباني الجديدة التي سيتم إنشاؤها، بحيث يوضع التخطيط بشكل علمي بناء
على رغبات من سيتواجدون في المكان".
مرت السنون وارتقى مدبولي ليصبح وزيرا للإسكان، وفي عام 2014 مع بداية فترة
حكم الجنرال السيسي قدم مدبولي -الوزير- تبريرات جديدة للعاصمة الإدارية نشرتها صحيفة الشروق المصرية: "تعمل
العاصمة الإدارية على جذب رؤوس الأموال والشركات العالمية للتواجد بالمكان، كما
تعمل على إتاحة الفرصة لتفريغ القاهرة من التكدس الناتج عن حركة العاملين
بالوزارات والجهات الحكومية، لتصبح القاهرة العاصمة التراثية والثقافية والتاريخية
ومقصدا سياحيا"، أي تفريغ القاهرة من وظيفتها السياسية كعاصمة لمصر وتحويلها
إلى مزار سياحي وثقافي، وهو ما لم يحدث، بل إن السلطة تقوم بهدم كافة المزارات
القديمة والمقابر التاريخية وتنزع من الشوارع أشجارها المعمرة لكي تبني مواقف
للسيارات ومحال تجارية للإيجار.
التقط السيسي الخيط من مدبولي الوزير وحوّل المشروع من مدينة حكومية إلى
مشروع العاصمة الجديدة، ولما تبيّن له أنه لا يمكن نقل العاصمة من القاهرة كما نص
الدستور، قال إنها عاصمة إدارية، ثم أعلن أن تدشين العاصمة الإدارية التي هي في
الأصل مدينة حكومية يطيب له المقام فيها بعيدا عن ميدان التحرير؛ يعني تدشين الجمهورية الجديدة التي لا نعرف لها شكلا ولا طعما إلا ما علمناه من سوء
تخطيط وانهيار اقتصادي وتراجع تنموي وتدهور سياسي وتدنٍ أخلاقي، وزيادة منسوب
الغضب في نفوس المصريين على نحو غير مسبوق.
في مؤتمر شرم الشيخ لدعم وتنمية الاقتصاد المصري عام 2015 نقلت وسائل الإعلام
حوارا دار بين السيسي ومحمد العبار، رجل الأعمال الإماراتي الشهير، بحضور الشيخ
محمد بن راشد ومصطفى مدبولي، وزير الإسكان آنذاك. وكان العبار يستعرض مخطط العاصمة
الإدارية المقدم من شركته التي أسسها لتنفيذ هذا المشروع خصيصا (كابيتال سيتي)،
وسأل السيسي العبار عن مدة تسليم المشروع فأجابه العبار بأنها عشر سنوات، فقاطعه
السيسي بالقول (لا 10 سنين ولا 7.. ما بنعملش كدة في شغلنا..
إحنا عاوزينه إمبارح). وساعتها نقلت
الكاميرات نظرة وابتسامة الشيخ محمد بن راشد وكأنه يستنكر قول السيسي أو طريقته في
التفكير. – شاهد الفيديو
كانت المفاوضات تسير بشكل جيد بين السلطة متمثلة في السيسي ومجموعة إعمار
التي يمتلكها محمد العبار، بيد أنه وحسب تصريح د. حسين صبور، وهو أكاديمي واستشاري
ورجل أعمال مصري معروف، توقفت المباحثات وافترق الطرفان بعد أن طلبت الحكومة
المصرية من العبار إيداع 5 مليارات دولار في الخزينة كوديعة لضمان الجدية، الأمر
الذي رفضه العبار. وانتهت قصة شراكة كان يعول عليها السيسي لإنجاز مشروع مدينة
العسكر الجديدة. شاهد تصريح حسين صبور
رغم تصريحات الجنرال المتعاقبة عن أن المشروع لم يكلف الحكومة ولا ميزانية الدولة قرشا واحدا، إلا أن وثيقة تأسيس المشروع التي أعلنت في 2016 تبين كذب الجنرال وتهافت ادعاءاته، إذ أن المشروع تقوم به شركة مصرية (شركة العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية)، وهي شركة مصرية مساهمة برأس مال 203 مليارات جنيه والمدفوع منه 20 مليار جنيه فقط، أُسست بالشراكة بين وزارة الإسكان ممثلة في هيئة المجتمعات العمرانية بنسبة 49 في المئة، والجيش المصري ممثلا في جهازي أراضي القوات المسلحة ومشروعات الخدمة الوطنية بنسبة 51 في المئة
في السابع من أيلول/ سبتمبر 2015 تم الإعلان رسميا عن انتهاء صلة العبار
بالعاصمة الإدارية، وأعلن وزير التخطيط وقتها أشرف سالمان أن المذكرة التي كانت قد
وقعت لم تتطور وبالتالي انتهى الموضوع. وألقى الوزير بالقنبلة المسيلة للدموع وهي
أن الحكومة ستقوم بتنفيذ المشروع: "الحكومة
مستمرة في مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، رغم التحديات التي شهدتها في الفترة
الماضية". - طالع الخبر
في هذا الفصل سأتناول مشروع عاصمة "العسكر" الجديدة من عدة زوايا
قد يكون بعضها لم يأخذ حقه في وسائل الإعلام، وذلك بعيدا عن حجم الإنفاق على
المشروع والذي اختلف فيه وتضاربت حوله الأخبار والتصريحات والأرقام؛ ما بين 25
مليار دولار كما جاء في خبر نشرته قناة الجزيرة مباشر، أو 85 مليار دولار كما نشر موقع العقارية، ويبدو أن الخبرين صحيحان، إذ أن الأول تناول المرحلة
الأولى والثاني يتحدث عن إجمالي كلفة المشروع بمراحله المختلفة.
الزاوية الأولى: ملكية المشروع
إذ رغم تصريحات الجنرال المتعاقبة عن أن المشروع لم يكلف الحكومة ولا ميزانية الدولة قرشا
واحدا، إلا أن وثيقة تأسيس المشروع
التي أعلنت في 2016 تبين كذب الجنرال وتهافت ادعاءاته، إذ أن المشروع تقوم به شركة
مصرية (شركة العاصمة الإدارية للتنمية
العمرانية)، وهي شركة مصرية مساهمة
برأس مال 203 مليارات جنيه والمدفوع منه 20 مليار جنيه فقط، أُسست بالشراكة بين
وزارة الإسكان ممثلة في هيئة المجتمعات العمرانية بنسبة 49 في المئة، والجيش المصري ممثلا في جهازي أراضي القوات المسلحة ومشروعات الخدمة الوطنية بنسبة 51 في المئة.
إذن المشروع تديره وتنفق عليه الحكومة وتقترض من أجله باسم الشعب الذي
يتعين عليه سداد هذه الديون بفوائدها المتراكمة والمتراكبة، وخصوصا قرض تنفيذ
المونوريل الذي اقترضت مصر من أجله 1.9 مليار دولار أمريكي، أو قرض بناء أبراج العاصمة
الجديدة وعلى رأسها البرج الأيقوني وبلغ مجمل القرض الصيني للأبراج 3 مليارات دولار حسب
تصريح وزير الاسكان المصري عاصم الجزار.
الزاوية الثانية: دور الجيش في المشروع
وهذه نقطة مهمة جدا من ناحية سيطرة الجيش على اقتصاد البلاد، إذ أن الجيش
يشارك بنسبة 51 في المئة من المشروع ولا نعرف كم دفع على وجه الدقة، وإن كنا نعلم
أن الأراضي المخصصة للمشروع كانت 170 ألف فدان تمت زيادتها بـ67 ألف فدان لتصل إلى 237 ألف فدان، وكلها أراض ملك للشعب ولكن الجنرال قرر تخصيصها كلها
أو بعضها لصالح جهاز أراضي القوات المسلحة التي تكاد تبتلع كل صحراء مصر وربما
ريفها عما قريب.
نقطة مهمة جدا من ناحية سيطرة الجيش على اقتصاد البلاد، إذ أن الجيش يشارك بنسبة 51 في المئة من المشروع ولا نعرف كم دفع على وجه الدقة، وإن كنا نعلم أن الأراضي المخصصة للمشروع كانت 170 ألف فدان تمت زيادتها بـ67 ألف فدان لتصل إلى 237 ألف فدان، وكلها أراض ملك للشعب ولكن الجنرال قرر تخصيصها كلها أو بعضها لصالح جهاز أراضي القوات المسلحة
ينص قرار تأسيس الشركة والمنشور بعض نصوصه على موقع جريدة الشروق المصرية؛ على: "يتضمن
قرار تأسيس الشركة أن تكون قيمة الأراضي من حصة جهاز مشروعات أراضي القوات
المسلحة في رأسمالها بعد تقدير قيمتها بالاتفاق مع هيئة المجتمعات العمرانية
الجديدة وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية". يعني أن أرض العاصمة التي من
المفترض أنها ملك للشعب أصبحت ملكا للجيش الذي أصبح شريكا في المشروع بقيمة الأرض،
ناهيك عن أن شركات الجيش هي التي ستقوم بالإشراف على تنفيذ المشروع وإدارة شركات
الباطن بما يحقق لها نسبة إدارة لا تقل عن 20 في المئة، دون أن يتحمل الجيش مليما
واحدا ولا يكون ملزما بالمساهمة في سداد القروض إذا اعتبرناه شريكا في شركة وفق
قاعدة "المغنم بالمغرم"، فالجيش يرى الأمر كله مغانم.
ليس هذا فحسب، بل إن الجيش سيستفيد من نسبته في العائد السنوي المنتظر من
تأجير بعض المباني المخصصة للوزارات والهيئات والمجالس النيابية مقابل 4 مليارات جنيه سنويا، تساوي حاليا حوالي 100 مليون دولار سنويا،
وبعقد يمتد لـ49 سنة، أي أن إجمالي
عائد الإيجار سيصل إلى حوالي 5 تريليونات جنيه مصري، منها 51 في المئة أي حوالي
2.5 تريليون جنيه عائدات للجيش الذي لا يملك الأرض ولم يدفع مليما في استثمارات
المشروع!! وبعبارة أوضح، فإن "مصر صاحبة الأرض والمشروع
قامت ببناء مدينة على أرض مصرية تعود نصف ملكيتها إلى الجيش المنتسب إلى مصر، وسيقوم
الجيش الذي هو في الأصل جزء من مصر بتأجير المباني التي بنيت بأموال مصرية للدولة
المصرية"!! هل سمعتم مثل هذا في أي بلد أو دولة في العالم؟ طالع الخبر.
الزاوية الثالثة: مقر إقامة الجنرال والعائلة
هل سيكون مقر الرئيس داخل مبنى القيادة الاستراتيجية أم سيكون ضمن المكون
الأكبر للقيادة؟ أم سيتم تخصيص قصر رئاسي عائلي له وللورثة من بعده؟ وأنا هنا لا
أمزح، فقد تفاجئنا الأخبار بعقد بيع من الجيش، الشريك الأكبر في المشروع، للجنرال
ولأسرته.
في عام 2019 تم تسريب مشاهد مصورة وصور فوتوغرافية للقصر الرئاسي الجديد في العاصمة
العسكرية الجديدة، وهو قصر تقدر مساحة الجزء المبني منه بخمسين ألف متر مربع، أي
عشرة أضعاف مساحة البيت الأبيض الأمريكي، مقر حكم الرئيس في أمريكا. شاهد.
للعلم، فإن المساحة الكلية للقصر بما في ذلك الحدائق المحيطة بالقصر وتسمى
حدائق القصر الرئاسي أو حدائق الشعب والسور المحيط بالقصر؛ تصل إلى حوالي 2.3
مليون متر مربع، إضافة إلى الطريق المؤدية إلى القصر بما يرفع المساحة الإجمالية
إلى 2.5 كيلومتر مربع.. تخيل يا مؤمن.. طالع الخبر.
حسب تقديرات خبراء الإعمار والتطوير العقاري يتكلف بناء طابق واحد على مثل هذه المساحة قرابة 2.5 مليار جنيه، فما بالك بمجمل التكاليف إذا علمت أن كلفة تنفيذ المتر الواحد في المتوسط أو كانت قبل عامين 25 ألف جنيه!!! هل تصدق أو لا تصدق أن كلفة بناء القصر فقط دون المساحات المحيطة تصل إلى تريليون وربع التريليون جنيه قبل التعويم الأخير؟
وسأترك لخيالك الواسع تقدير كلفة بناء قصر الجنرال الجديد، وحسب تقديرات
خبراء الإعمار والتطوير العقاري يتكلف بناء طابق واحد على مثل هذه المساحة قرابة
2.5 مليار جنيه، فما بالك بمجمل التكاليف إذا علمت أن كلفة تنفيذ المتر الواحد في
المتوسط أو كانت قبل عامين 25 ألف جنيه!!! هل تصدق أو لا تصدق أن كلفة بناء القصر فقط دون المساحات
المحيطة تصل إلى تريليون وربع التريليون جنيه قبل التعويم الأخير؟
يروج أنصار السيسي مقولته الشهيرة "هذه القصور لرئيس مصر وليست للسيسي"،
والإجابة على مثل هؤلاء: وهل يحتاج رئيس مصر إلى قصر رئاسي بينما يعاني شعبه من
الجوع والفقر وزيادة الديون وتراجع الاقتصاد وزيادة التضخم؟ وهل مصر بحاجة إلى قصر جديد بينما لدينا حوالي 30 قصرا واستراحة رئاسية؟..
الزاوية الرابعة: مقر الجيش الجديد (الأوكتاجون)
وكما بنى السيسي قصرا ضخما فخما له ولأولاده وذريّته من بعده، فقد أقام على
مقربة منه مقر وزارة الدفاع الجديدة والمعروف بالأوكتاجون، على غرار تسمية وزارة
الدفاع الأمريكية بالبنتاجون، بيد أن الأوكتاجون يعد أكبر مركز لوزارة دفاع في
العالم.. تخيل يا مواطن.
الأوكتاجون مبنى ثمانيّ الأضلاع، هو مقر وزارة الدفاع والجيش المصريين،
وهذه أول مرة يتم فيها جمع مقرات الجيش في مكان واحد، وهو أمر مثير للتساؤلات والمخاوف خصوصا
أنه يخالف الفكر العسكري القائم على توزيع مقار القيادة على مساحات متباعدة وبعضها
غير معلن استعدادا لحالات الطوارئ والحروب، خصوصا وأن العاصمة الإدارية تقع في
الناحية الشرقية للبلاد بالقرب من مدن القنال حيث تبعد حوالي 60 كم عن مدينة السويس.
الزاوية الأخطر والأخيرة: عاصمة مَن؟
هذا سؤال مفصلي ومحوري يتجاوز فكرة حلم الجنرال في أن ينفذ مشروع تطوير
عقاري كما زعم عدة مرات، فالأمر يتخطى ذلك بكثير كما أثبتت الأيام تباعا.
الحقيقة الواضحة هي أن العاصمة الإدارية هي مركز "تحكّم" السيسي في الدولة بكل مفاصلها ومكوناتها المدنية والعسكرية
عندما تسربت الأنباء عن الإنشاءات الضخمة في العاصمة الإدراية ومن بينها قصر
الرئاسة، ثم تلا ذلك تسريب عن مبنى وزارة الدفاع المصرية الجديد (الأوكتاجون)
والذي أطلق عليه السيسي لاحقا مركز القيادة الاستراتيجية لمصر، الحقيقة أنني فوجئت
بالخبر وفي طريقة الإعلان عنه، فقد نشرت الصحف ووسائل الإعلام خبرا عن تفقد السيسي نفسه لمقر القيادة الاستراتيجية للدولة!!
مركز قيادة الدولة الاستراتيجي؟ اسم يثير التساؤلات حول تصور السيسي نفسه
للدولة وهو ما تحدثنا عنه في مقال سابق، وهل هي دولة طبيعية مثل بقية الدول أم هي
دولة الفرد الواحد والقرار الواحد؟ وهل تحتاج الدولة الجديدة إلى نظام وحكومة أم
إلى مركز استراتيجي على طريقة الجيوش؟
الحقيقة الواضحة هي أن العاصمة الإدارية هي مركز "تحكّم" السيسي
في الدولة بكل مفاصلها ومكوناتها المدنية والعسكرية، وكما جاء في الخبر ونقلا عن
متحدث الرئاسة ضمن خبر منشور في أيار/ مايو 2023: "وفقا لبيان سابق للمتحدث باسم رئاسة الجمهورية،
يتضمن مركز قيادة الدولة الاستراتيجي، عددا من المراكز التي تضمن السيطرة
والانسيابية في إدارة مؤسسات الدولة والاستعداد لمجابهة أية أزمات أو طوارئ. ويمتد
المقر على مساحة 22 ألف فدان ويضم 13 منطقة تختلف باختلاف طبيعة كل منها، ويحتوي
على مركز لتنسيق أعمال دفاع الدولة، ومركز البيانات الاستراتيجي الموحد للدولة
والذي يحتوي على كافة البيانات الخاصة بمؤسسات الدولة، ومركز للتحكم في الشبكة
الاستراتيجية المغلقة للسيطرة على الجهاز الإداري للدولة، إضافة إلى مركز الإدارة
والتشغيل للتحكم في مرافق الدولة، ومركز للتحكم في شبكة الاتصالات الذي يضمن
استمرار تحقيق الاتصالات على مستوى الدولة، وكذا مراكز السيطرة على خدمات الطوارئ
والسلامة الميدانية، ومركز للتنبؤات الجوية والذي يعد مركز الدفاع عن الدولة
ببيانات الأحوال الجوية أولا بأول ليكون مستعدا لمجابهة التغيرات الجوية المفاجئة،
بالإضافة إلى حجم ضخم من المخازن التي تؤمّن احتياجات الدولة من السلع
الاستراتيجية" (انتهى الخبر).
وأعتقد أن المسألة واضحة وضوح الشمس، أن العاصمة الجديدة هي مقر
اختباء وحماية السيسي وجنوده، وهي مكان آمن بعيد عن ضوضاء المدينة للتحكم في كل
الأنشطة الحيوية في البلاد من غضب قد يبدو قادما وثورة تغلي في الصدور كغلي الحميم.
العاصمة الإدارية الجديدة ليست سوى مقر جديد لحماية الجنرال وجنوده، ومكان هادئ بعيد عن أعين الناس يمكنه من خلاله التحكم في كل شيء في الدولة المصرية التي تم اختزالها في شخص الحاكم
لن أحدثك عن الفساد وغياب
الشفافية، والسرقات وحجم التنفع والتربح، ولا عن اللواءات الذين أصبحوا أثرياء من
وراء المشروع، ولا شركات المقاولات الوهمية التي تحدث عنها الفنان محمد علي في
فيديوهاته المصورة من قبل، ولن أحدثك عن الخسائر المتوقعة والتي لم يفصَح عنها،
ولن أحدثك عن تباطؤ تسويق المشروع ولا عن تغيير رئيس مجلس إدارة الشركة، ولن أحدثك
عن القروض التي سوف تسددها الأجيال المتعاقبة إن لم تعلن مصر إفلاسها -لا قدر الله-
ولن أحدثك عن تعثر المشروع وعدم الانتهاء منه رغم مرور سبع سنوات منذ الإعلان عن
تنفيذه ورغم وعود السيسي المتكررة بافتتاحه في 30 حزيران/ يونيو 2020 عندما قال
جملته الشهيرة "أيوة 30 ستة (أي 30 حزيران/ يونيو 2020) بعون الله هتشوفوا
مصر دولة تانية" شاهد الفيديو..
ولن أحدثك عن مصر التي قال وزير تموينها علي مصيلحي، وهو ضابط سابق أيضا، قبل
أيام إن ضغوط الدولار تؤخر مدفوعات واردات القمح، ونسي الوزير أن وزيرا آخر هو الفريق كامل الوزير وقف
أمام البرلمان مطالبا بإقرار قرض جديد بقيمة تزيد عن
ملياري يورو من أجل القطار الكهربائي في بلد يعاني من نقص حاد لأجل شراء القمح. وحتى
السيسي نفسه وهو يفتتح مشروع تصنيع وتصدير الكوارتز؛ عاب على من يقارنون بين الإنفاق
على مثل هذه
المشاريع بالدولار ذات العائد القليل فعليا مقارنة بما ينفق على شراء
المواد الغذائية؛ التي هي حق أصيل للمواطن الذي يسهم بحوالي 80 في المئة من إجمالي
إيرادات الدولة. طالع تصريح وزير المالية عام 2020.
سأقول لك وبكل ثقة إن العاصمة الإدارية الجديدة ليست سوى مقر جديد لحماية
الجنرال وجنوده، ومكان هادئ بعيد عن أعين الناس يمكنه من خلاله التحكم في كل شيء في
الدولة المصرية التي تم اختزالها في شخص الحاكم، وسيحكي التاريخ لأولادنا أن
حاكمها نقل مقره ومقر الجنود بعيدا في الصحراء لكي يقضي فيها بقية عمره لحين
تحريرها وإعادتها كجزء من تراب مصر.