كتب

الحرية أم أمريكا المنحطة أخلاقيا والمستهلكة؟ قراءة في كتاب

الولايات المتحدة كما نعرفها لن تعود موجودة في غضون عقد من الزمن، أو، كحد أقصى في غضون عقدين من الزمن.. (الأناضول)
الكتاب: "أمريكا: رحلة الوداع - "قداس للحلم الأمريكي"- استطلاعات كيركوس"
الكاتب: كريس هيدجيز، مؤلف "الحرب هي القوة التي تعطينا معنى"
ترجمة : حسين صلاح الدين
الناشر: دار الرضا للنشر سوريا، دمشق، الطبعة الأولى حزيران 2021
(488 صفحة من القطع الكبير)


في الفصل السابع يقدم لنا الكاتب هيدجيز صورة عن أمريكا المنحطة أخلاقياً والمستهلكة من مبدأ الركض وراء المتعة والتخبط في الجهل يقودها من الحكام اللصوص والحمقى، مجزأة إلى حروب وغالباً التطرف الثقافي العنيف وعلى منعطف حرب نووية، إنها بلد ملعون بفشله في المعالجة أو التكفير عن آثامه الأصلية في الإبادة الجماعية للبشر والعبودية، ومن المحتمل أن روح التوسع الرأسمالي المستمر وتفوق البيض والاستثنائية الأمريكية الدائمة فيما وراء البحار في حروب البلاد الإمبريالية سوف تستهلك الأمة نفسها، ويصبح الشركاء (في الجريمة) الذين استفادوا ذات مرة من هذا الشر ضحاياها؛ الكاتب، كيف يعيش امرؤ حياة ذات معنى في مثل هذا المجتمع المفترس؟ بل هل هذا ممكن أيضاً؟ وهل يمكن لثقافة أن تسترد أبداً توازنها عندما تهبط إلى هذا المستوى من السفالة؟

ويرى الكاتب أن "الهوّة المفزعة التي استأجرت روح الإنسان الغربي قد ازدادت سوءاً منذ أن شق الفيلسوف المشهور ديكارت الجسم عن العقل وحوَّل نفس الروح إلى شبح يشكن منزله الخاص به"ز

فقد كان الكاتب يعرف القواسم المشتركة لانحلال المجتمعات، وإن تصاعد الانحطاط الأخلاقي في الأيام الماضية لم يكن عرضياً أبداً، وكانت هذه النخب الفاسدة تعكس على المجتمع، كما يفعل ترامب، فراغها الروحي؛ فقد عرض آلا رومانوف الضعفاء في روسيا والقيصر فيلهلم الثاني المصاب بجنون العظمة في ألمانيا والرئيس الخرف للإمبراطورية النمساوية ـ الهنغارية فرانز جوزيف الأول في الأيام الأخيرة للملكيات الأوروبية نفس الغباء وخداع الذات وتدميرها كما نشاهد في الإمبراطورية الأمريكية المتأخرة؛ وتتميز دائماً لحظة السقوط النهائي بعجز عن الإقرار بالواقع وبمشاريع مشؤومة متوحشة يُعبّر عنها في الغالب بالحروب لإعادة العصر الذهبي المفترض.

يقول الكاتب كريس هيدجيز: لقد "استخدمت نخبنا الرأسمالية الدعاية والمال وتهميش نقادها لمحو عناصر الفيلسوف جون لوك الثلاثة الخاصة بالدولة المثالية: الحرية الفردية والمساواة والحرية؛ وتعزز هذه العناصر على نحو حصري العنصر الرابع الملكية، تعني الحرية الفردية والحرية في دولة الشركات الكبيرة والأغنياء للاستغلال والنهب من دون تدخل الحكومة أو الإشراف النظامي؛ وإن الخاصية الوحيدة والأكثر أهمية للحكومة هي رغبتها في استخدام القوة، داخل البلاد وخارجها، لحماية طبقات الملكية؛ وهذا الاستسلام الشنيع من الدولة للأغنياء مبين بكل وضوح في القانون الضريبي لعام 2017 وتفكيك الأنظمة البيئية، تعني انحطاط المثل الديمقراطية ـ الواضح عندما ترفض المحكمة العليا كبح مراقبة الحكومة الكاملة للناس أو عندما تحدد صب أموال مشبوهة غير محدودة في حملات سياسية كشكل من أشكال حرية التعبير وحق التماس الحكومة ـ أن المجتمع يعرف نفسه من خلال الفضائل الميتة؛ ويقدر ما يطول عمر  هذا الوهم بقدر ما يتحول الناس القاضبون إلى الديماغوجيين (الغوغائيون ـ المترجم) الذين يمدون بطوباوية جديدة (المدينة الفاضلة الجديدة) ومن ثم عندما يصبحون في السلطة يعجِّلون بالهجوم"(354).

ستظل الديمقراطية عرجاء على الدوام تخسر النفوذ باستمرار إلى حين يسقط الدولار بصفته عملة الاحتياطي العالمي وتدخل الولايات المتحدة في ركود مشل وتواجه على الفور انكماشاً هائلاً في آلتها العسكرية.
ويعتقد النقاد للحلم الأمريكي أنَّ جميع المؤسسات في أمريكا فاسدة؛ فقد تجرعت الصحافة والجامعات والفنون والمحاكم والمؤسسات الدينية بما فيها الكنيسة المسيحية شراب الاستثنائية الأمريكية السام، أسطورة الفضائل الأمريكية وخلط الحرية بالرأسمالية المنفلتة، ترفع الكنيسة الليبرالية، مثلها مثل الطبقة الليبرالية المفلسة، التعددية الثقافية وسياسة الهوية كأمر أخلاقي وتتجاهل أسبقية العدالة الاقتصادية والاجتماعية؛ وتتسامح مع المتعصبين وتقدم المصداقية لأولئك الذين يخوضون في العقيدة الهرطقية لـ"إنجيل الرخاء الاقتصادي"، العقيدة التي تقول بأن الله يمطر التأييدات الإلهية بشكل ثروة وقوة على المنتخب المسيحي؛ وتجعل هذه الفكرة ترامب واحداً من أحياء الله، وهي أيضاً الفكرة التي هي انعكاس كامل للرسالة الرئيسية للأناجيل المسيحية.

كان لنا في حين ما ضمن ديمقراطيتنا الرأسمالية مؤسسات ليبرالية ـ الصحافة، الاتحادات العالمية، أحزاب سياسية أخرى، جماعات مدنية وكنسية وإذاعة عامة وجامعات عامة ممولة تمويلاً جيداً وجناح ليبرالي في الحزب الديمقراطي ـ قادرة على الاستجابة لضغط خارجي من الحركات؛ وقد كانوا يفعلون ذلك على نحو غير كامل؛ كانوا يقدمون فقط إصلاحات كافية لإنقاذ النظام الرأسمالي من اضطراب واسع النطاق أو، مع انهيار الرأسمالية في الثلاثينيات، من الثورة، إنهم لم يعالجوا أبداً على نحو كافٍ تفوق البيض أو العنصرية المؤسساتية أو القسوة التي توطئت في الرأسمالية، غير أنهم كانت لديهم القدرة على تخفيف شيء من المعاناة التي أصابت بالعذاب العمال والعاملات؛ ولم يكن هناك أبداً حراك اجتماعي كافٍ، على أنه كان يوجد شيء ما منه؛ فالتعليم العام بما في ذلك مؤسسات مثل جامعة مدينة نيويورك والتي كانت تنافس المؤسسات الخاصة، بما فيها المدارس الإعدادية والكليات، حيث كان يرسل الأثرياء أبناءهم وبناتهم لتتم تنشئتهم على البلوتوقراطية (حكم الأثرياء).

ولكن، والأكثر إنذاراً بالخطر، تم محو الحركات الكفاحية التي كانت تشكل المحركات الحقيقية للتغيير الديمقراطي من خلال الهجوم متعدد الجوانب والملاحقات السَحَرية للشيوعيين والمكارثية إلى جانب انعدام التصنيع وكثرة القوانين المعادية للعمال وإلغاء الأنظمة واستيلاء الشركات على مؤسساتنا العامة والخاصة؛ وقد تركنا هذا الواقع عاجزين تقريباً عن الدفاع عن أنفسنا ويجبرنا على أن نبدأ كل شيء من جديد.

الخاتمة أو أفول الإمبراطورية الأمريكية

ويتطرق الكاتب في النهاية إلى إنَّ الإمبراطورية الأمريكية آتية إلى نهاية ما، فالبلد لم تعد لديه القوة والاحترام اللازمين لحث الحلفاء في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا على تلبية دعوتها، فضلاً عن الدمار المتزايد الناجم عن تغيير المناخ، ولديك وصفة عن دولة شمولية ناشئة؛ فالإشراف على هذا الانحدار في أعلى مستويات الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات يشكل مجموعة متنافرة من البلهاء والفنانين المتشابكين واللصوص والانتهازيين وجنرالات الحروب؛ ولكي أكون أكثر وضوحاً أضم الديمقراطيين.

ستظل الديمقراطية عرجاء على الدوام تخسر النفوذ باستمرار إلى حين يسقط الدولار بصفته عملة الاحتياطي العالمي وتدخل الولايات المتحدة في ركود مشل وتواجه على الفور انكماشاً هائلاً في آلتها العسكرية.

وحيث لا يوجد ثورة شعبية مفاجئة وواسعة النطاق تظهر دوامة الموت على أنها غير قابلة للتوقف، مما يعني أن الولايات المتحدة كما نعرفها لن تعود موجودة في غضون عقد من الزمن، أو، كحد أقصى في غضون عقدين من الزمن؛ والفراغ العالمي الذي تتركه خلفها سوف تملؤه الصين التي تقيم نفسها الآن كطاغوت اقتصادي وعسكري، أو ربما سيكون هنالك عالم متعدد الأقطاب يتكون بين روسيا والصين والهند والبرازيل وتركيا وجنوب أفريقيا وبضع دول أخرى؛ أو ربما سوف يتم ملء هذا الفراغ، كما يكتب المؤرخ و. ماك كوي في كتابه (In the Shadows of the American Century = The Rise and Decline of US Global Power) "في ظل القرن الأمريكي = صعود وسقوط القوة العالمية للولايات المتحدة" من خلال "تآلف شركات عبر الدول أو قوات عسكرية متعددة الأطراف مثل الناتو وقيادة مالية دولية منتقاة ذاتياً في دافوس وبيلدربرغ التي سوف تشكل رابطة فوق وطنية للحلول محل أي بلد أو أي إمبراطورية".

ترفض الإمبراطوريات الآخذة بالانحلال، والمعمية من خلال غطرستها وعدم مقدرتها على قبول قوتها المتناقصة أن تواجه الحقائق المرة وغير السارة؛ إنها تستبدل الدبلوماسية بالتعددية العسكرية والسياسة بالتهديدات الأحادية وأداتها الحربية المكلولة.
وبمقتضى جيمع المقاييس بدءاً من ا لنمو المالي والاستثمار في البنية التحتية إلى التكنولوجيا المتقدمة، بما في ذلك الحواسيب العملاقة وأسلحة الفضاء والحرب السيبرانية سوف نباغت بسرعة من قبل الصينيين؛ ونوه ماك كوي قائلاً: "في نيسان عام 2015 أوحت وزارة الزراعة في الولايات المتحدة بأن الاقتصاد الأمريكي سوف ينمو بما يقرب من 50% على مدى السنوات الخمس عشرة القادمة في حين سيكون نمو الصين ثلاثة أضعاف وسوف تقترب من تجاوز الولايات المتحدة في عام 2030، لقد أصبحت الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم في عام 2010، بنفس السنة التي أصبحت بها الدولة التصنيعية الرائدة في العالم واضعة جانباً الولايات المتحدة التي هيمنت على التصنيع العالمي قرناً كاملاً"، أصدرت وزارة الدفاع تقريراً متوازناً بعنوان (At Our Own Peril; Dod Risk Assessment in a post, Primary World) "على مسؤوليتنا الخاصة: تقييم وزارة الدفاع عن المخاطرة في عالم ما بعد المرحلة البدائية" لقد وجد التقرير أن جيش الولايات المتحدة "لم يعد يتمتع بوضع لا يمكن مهاجمته مقابل منافسي الدول ولم يعد يستطيع.. أن يولد تلقائياً تفوقاً عسكرياً محلياً منسجماً ومدعوماً في المدى المحدود"؛ ويتنبأ ماك كوي بأن الانهيار سوف يأتي بحلول عام 2030.

ترفض الإمبراطوريات الآخذة بالانحلال، والمعمية من خلال غطرستها وعدم مقدرتها على قبول قوتها المتناقصة أن تواجه الحقائق المرة وغير السارة؛ إنها تستبدل الدبلوماسية بالتعددية العسكرية والسياسة بالتهديدات الأحادية وأداتها الحربية المكلولة.

إن هذا العجز في مواجهة الواقع قد شهد الولايات المتحدة وهي تقوم بأفدح خطأ في تاريخها ـ غزو أفغانستان والعراق، كان مهندسو الحرب في البيت الأبيض من جورج و. بوش ومجموعة من الحمقى النافعين في الصحافة والجامعات الذين كانوا المشجعين لهذه الحرب يعرفون القليل عن البلدان التي غزوها وكانوا ساذجين على نحو مذهل بشأن تأثيرات الحرب الصناعية وكانوا قد بوغتوا بالرد الشرس، لقد بدؤوا، وربما اعتقدوا، أن صدام حسين كانت لديه أسلحة الدمار الشامل لكنهم لم يكن لديهم أي دليل صحيح لدعم هذا الادعاء؛  وأصروا على أن الديمقراطية يمكن غرسها في بغداد ونشرها في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وقد أكدوا لعموم الناس أن جنود الولايات المتحدة سوف يُحيِّون كمحررين من قبل العراقيين والأفغان الحافظين للجميل، ووعدوا بأن عائدات النفط سوف تغطي تكلفة إعادة الإعمار، وأصروا على أن الضربة العسكرية الجريئة والسريعة ـ "الصدمة والرعب" ـ سوف تعيد الهيمنة الأمريكية إلى المنطقة والهيمنة على العالم، فكان العكس، وكما نوه زيبينيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر أن "هذه الحرب أحادية الاختيار ضد العراق قد أدت على نزع الشرعية واسعة النطاق عن سياسة الولايات المتحدة الخارجية".

إقرأ أيضا: الحقائق المرعبة لحالة التدهور والتفكك في الإمبراطورية الأمريكية

إقرأ أيضا: الاستعداد للانهيار في أمريكا.. ما دور النخب الحاكمة والرأسمالية؟