تكفي نظرة سريعة على دراما رمضان في
مصر لنطرح الكثير من الأسئلة عن الفن والواقع، مهما تنوعت موضوعات الدراما،
وشخصياتها، وطريقة عرضها، والهدف من إنتاجها.. هناك بالطبع قضايا اجتماعية تناولت
المرأة المعيلة والفقر والزواج والطلاق والتنمر ومشاكل الميراث وتعدد الزيجات،
وهناك قضايا سياسية تناولت الإرهاب وكفاح وبطولات السلطة في حفظ الوطن من الأعداء،
وهناك أيضا وجبة للضحك والتسلية والإلهاء.
لا بأس من هذا التنوع، فهو سمة من سمات
الإنتاج الدرامي في العالم كله، وحتى محاولات تمجيد السلطة وإضفاء حالة من العظمة
والقداسة على أبطالها، في مقابل شيطنة خصومها، فقد فعلت دراما هتلر ذلك، ودعمت
كتائب فرانكو الدعاية المصورة، كما شيدت فاشية موسوليني مدينة للسينما استجابة
لصيحته: "
السينما هي السلاح الأقوى"، حتى هوليوود تسوق أبطالها الخارقين
لحماية الكوكب كله، وليس أمريكا وحدها.
أين المشكلة إذن؟
المشكلة أن الدراما في بلادنا مسلحة
بحصانة مهيبة من الاحتكار، وبالتالي السيطرة الانفرادية على العقول، فغالبية
المشاهدين في مصر لم يقرؤوا نجيب محفوظ ولا إحسان عبد القدوس ولا توفيق الحكيم ولا
يوسف إدريس، لكنهم يتجرعون ما تنقله الدراما عنهم، كذلك لا تتوفر لهم معلومات عن
الواقع السياسي، فيأخذون عادة مشاعرهم الوطنية ومعلوماتهم عن الأحداث، من وجهة
النظر التي تقدمها الدراما، فلما قدمت لهم حسنين توفيق (في فيلم "في بيتنا
رجل") باعتباره بطلا وطنيا برغم ارتكابه لجريمة اغتيال سياسي، بكى الجمهور من
أجله، واعتبروه بطلا، وتمنى الكثير منهم لو كانوا فدائيين يغتالون ويفجرون القنابل
في المعسكرات ويحبون زبيدة ثروت.
وعندما فعل "هشام عشماوي" في
الواقع ما كان يفعله "إبراهيم حمدي" ضد السلطة وأجهزتها، قدمته الدراما
كخائن، وهكذا كانت التناقض بين نظرة القانون وأهل الحكم لإبراهيم الورداني ونظرة
الناس في الشارع والمعارضة السياسية للبطل الذي اغتال رئيس الوزراء المصري اعتراضا
على دعمه لتمديد امتياز قناة السويس.
هذه الأمثلة تكفي للتأكيد أن الدراما
بصرف النظر عن موضوعها ومستواها، صارت تصيغ الواقع ووجدان الناس وتصنع التاريخ
أيضا، وبالتالي فإن السلطان حامد في مسلسل "
سره الباتع" مثلاً، يقدم لنا
نموذجا لبطل شعبي مقاوم يستحق التقدير والتقديس، ومن خلال الإسقاط الفني تسعى
الدراما لتأطير صورة العدو الذي يحاربه البطل الشعبي، فيصبح هو "الإرهابي
المسلم المتطرف" الذي وجد الفرصة في "ثورة يناير" ليصنع الفوضى
ويحارب النظام الحاكم ويهدد الوطن.
تعالوا ننسى "المنسي" ونناقش
فكرة "الاختيار" بين نموذجين متناقضين في الدراما المصرية:
حالة ضابط الصاعقة المصري "هشام
عشماوي" كنموذج للإرهابي الخائن كما قدمته الدراما المصرية بشخصه، أو
"الإرهابي بشكل عام" كما قدمه أحمد السقا في مسلسل "حرب"، في
مقابل شخصية "السلطان حامد" المقاوم الوطني في مسلسل "سره
الباتع".. الأول شرير منحرف خائن يستحق اللعنة، والثاني وطني قديس مخلص يستحق
التمجيد.
هكذا تحسم الدراما حكمها وتطبعه في
وجدان الناس، بصرف النظر عن الواقع والتاريخ وانحيازات السلطة الحاكمة، فإذا عدنا
لمقارنة الدراما بالتاريخ نكتشف أن "السلطان حامد" البطل المضحي ليس
قريبا من "المنسي" كبطل وطني يحارب الأعداء، لكنه أقرب إلى "هشام
عشماوي"، وهذا التقارب لم يكن يمثل أي مشكلة عند يوسف إدريس في القصة ولا في
الواقع، فهو كشخص كان يشجع المقاومة المسلحة وشارك في المقاومة الشعبية أثناء
العدوان الثلاثي على بورسعيد وكتب مجموعة من المقالات والقصص في تحية الفدائيين،
كما شارك مع الفدائيين في الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي، وقد كانت قصة "سره
الباتع" التي كتبها في أعقاب العدوان تتويجا لكتاباته المتسرعة عن المقاومة،
والتي كانت أقرب للأخبار والدعم المعنوي منها إلى
الأدب، كما كانت المرحلة التي
يعيش ويكتب فيها إدريس تتبنى هذا التوجه للمقاومة المسلحة بدون أن تسميها
"إرهاب".
أما المسلسل الذي كتبه وأخرجه خالد
يوسف، فهو يعيد إنتاج القصة في زمن مختلف وانحيازات مختلفة للسلطة الحاكمة، لذلك
وقع في إشكالية كبيرة تتصل بفكرة البطل والبطولة، لأن "حامد" في الواقع
لم يكن مصرياً ولا وطنيا، ولا فلاحاً ولم يدق وشم العصفورة ولا أي شيء من هذا، لقد
كان شيخا مجاهدا من قبائل الصحراء الغربية يدعى "المهدي" ويسكن منطقة
درنة في ليبيا، وهي المنطقة التي لجا إليها هشام عشماوي لجهاده وتم القبض عليه
فيها من جانب قوات خليفة حفتر.
التاريخ يخبرنا أن فكرة الجهاد تحت
راية السلطنة العثمانية، لم تكن من أجل "وطن"، لكن من أجل أيديولوجيا هي
"الإسلام" وهي الفكرة المحركة لكل من المهدي الدرناوي وهشام عشماوي،
بينما الفكرة التي ينطلق منه "المنسي" في الاختيار أو الضابط عمر في
مسلسل "حرب"، هي فكرة "أمن الدولة" و"الوطن".
وطبعا مصر في فترة جهاد السلطان حامد
لم تكن "دولة"، بل ولاية تابعة للباب العالي، كذلك مصطلحات مثل
"الوطن" أو "الشعب" لم تكن قد تبلورت في ذلك الزمن، وأول نقاش
حولها بدأ بعد الحملة الفرنسية على خلفية مشاركة المعلم يعقوب حنا القبطي في
مساعدة جيوش نابليون عن طريق تنظيم فيلق عسكري يساعد في استتباب الأمر للفرنسيين
ضد العثمانيين والمماليك، مقابل وعد بمساعدة نابليون في استقلال مصر وإقامة دولة
وطنية، هكذا ظهرت فكرة "الوطن" في ظرف تاريخي معقد وملتبس لم نحسمه حتى
الآن
ماذا عن مشكلة الزبال؟
أثناء تحضيره لفيلم "أوديب
ملكا" التقى المخرج الإيطالي باولو بازوليني والمخرج برناردو برتولوتشي
والأديب ألبرتو مورافيا، ووصل النقاش بينهم إلى ذروة الخلاف عندما قال بازوليني أن
السينما لابد وأن تكون واقعية، فإذا كانت الدراما عن شخصية "زبال"،
فلابد أن نجسد صورة وصوت "زبال حقيقي" كما نراه في الواقع.
يعترض مورافيا ويسخر من الواقعية الإيطالية
الجديدة التي كانت تهتم بحياة الفقراء والمهمشين، وتصور موضوعاتها في الشوارع بدون
بلاتوهات وديكورات، ويقول إن هذا ممكن لو كنت تقدم "زبالا" صامتا بدون
أي كلام يتدخّل برتولوتشي قائلا: ليس بالضرورة أن نخرس الزبال، يمكننا أن نضع
كلامنا في فمه لينطق بأفكارنا نحن، لابد من رسالة أو فلسفة.
يصل النقاش إلى نقطة خلاف كبيرة، فمورافيا مصمم
على أن السينما مجرد صور، وبرتولوتشي يشرط ظهور الزبّال على الشاشة بالكلام مثل
الفلاسفة، وهنا يتساءل بازوليني:
إذا ظهر زبال صامت في فيلم معين بصورة
دقيقة ورائعة، فكيف يتعرّف عليه الجمهور؟ كيف يعرف مشكلته، هويته، أي معلومات عن
قضيته؟
وإذا تحدث هذا الزبّال مثل هيجل، وقال
الديكالتيك والفكرة ونقيضها، فهل يمنع هذا أن تقدم السينما زبالا غيره يتكلم ببذاءة
وينطق بلغة الأغلبية من زملائه في الشارع؟
ويخلص بازوليني من هذه الملاحظة إلى
نتيجة تدين خوف المثقف البرجوازي من الواقع ومن التاريخ الفعلي، لذلك فإنه يسعى
إلى تحويل الزبال على صورة فلكلورية، كما يفكر مورافيا، أو يجعل منه نموذجا
متفرداً يعجب البرجوازيين ويضحكون من طريقته في الكلام ويستضيفونه في الصالونات،
وتنشا بينهم وبينه علاقة لطيفة كالعلاقة بين الشخص وكلبه.
يهاجم بازوليني هذا التصنع البرجوازي
الذي يتعمد أن يخفي الواقع، بإنكاره أو بطلاء مزركش يحجب الحقيقة تحت ستار
التجميل.
هذا ما شعرت به في تقديم مشاهد الهتاف
وشعارات الثورة ومحاولات إثارة الحنين لأيام ميدان التحرير، وطريقة حوار الشخصيات
التي تنطق بالفلسفة والحكمة ومواثيق حقوق الإنسان واتفاقية جنيف بشأن أسرى الحرب،
وعظمة انتماء الفلاحين ونصوع فكرة المقاومة، وجرأة الحب في زمن الاحتلال.
ويبقى السؤال: ماذا يخفي كل هذا الطلاء
في "سره الباتع"؟
من يكون العدو؟
وهل يتشابه العدو القديم مع العدو الجديد؟
ومن يكون المقاوم؟
وما هي دوافعه؟
وكيف اختلفت معايير المقاومة لنمدح
المجاهد الإسلامي في زمن نابليون، ونلعنه في الزمن الأمريكي؟!
أعود إلى الملعون بازوليني الذي عاش
يهاجم البرجوازيين واحتيالهم على الواقع وخوفهم منه، وأتوقف عند إشارته إلى فكرة
الانتقاء كوسيلة لتزييف الواقع بغطاء واقعي، يقول بازوليني:
الزبّال في "فيلم معيّن" هو
زبّال ميت، لأننا نذبح حياته ونقص منها ما نرغب فقط، فالزبال الحي يعيش آلاف
الأفعال والتعبيرات والأصوات والكلمات، لكنه عندما يموت وتتذكّره زوجته أو أصدقاؤه
فإنهم يذرفون دمعةً ويلخصونه في كلمات قليلة، تلك الكلمات تخص قائلها ومن يتذكرها
وتختلف من شخص لآخر، فالموت يؤدي بالضرورة لتأليف حيوات متعددة للميت من وجهة نظر
كل من يحكيها، ومع التكرار يغيب الواقع الفعلي وتحضر الروايات المؤلفة، وهذه خطورة
الفن على الواقع وعلى التاريخ، فمعظم هذا الهراء وهذه الأكاذيب التي تفرضها
الدراما ستحتل مع الزمن مكانة التاريخ وترسم شكل الغد الذي يهيمن على حياة
البرجوازيين المتواطئين ضد الواقع والحقائق، ولا شك أن مشاهد مثل حديث الممثل
محمود قابيل وهو يقول: لا يوجد ثوري إلا إذا كان عاشقاً، أو روجيه كيلمان وهو يشيد
بعظمة مصر، ستنفصل عن الواقع وتصبح "أيقونات نصر" يتناقلها الناس في
المستقبل باعتبارها "أمجاد حضارية" وكفاح للأجداد الذين عاشوا تلك الأزمنة،
بينما التاريخ الخفي يحمل آلام وهزائم نفس الشعب تحت الطلاء البراق المخادع، وتلك
هي الخدعة التي يمررها المثقف البرجوازي من جيل إلى جيل، فيتحدث عن انتصارات بينما
هزيمتنا الحضارية والعسكرية ممتدة في أعماق تاريخنا وتهيمن على حاضرنا، وتهدد
مستقبلنا، فمتى يأتي الوقت الذي يظهر فيه "الزبال" على حقيقته، ليحدثنا
عن حياته الواقعية بدون طلاء فلكلوري أو حكمة مستعارة؟