بعد
أيام ستُعقد الانتخابات البرلمانية والرئاسية في
تركيا، وتوصف المنافسة الانتخابية
المقبلة بأنها الأكثر تنافسية في تاريخ تركيا الانتخابي، وتشهد هذه الانتخابات حدة
سياسية تشعَّبت خارج المقارِّ الحزبية وامتدت إلى الناخبين في عموم تركيا. واللافت
أن الاهتمام بهذه الانتخابات اهتمام دولي وإقليمي شديد الاتساع والترقُّب أيضا.
لا
يُقصد بلفظ المحافظين هنا ذلك التقسيم السياسي، بل هو توصيف يشمل المتدينين، أيضا
من يحيا بثقافة تنفر من التجاوزات الأخلاقية والقيمية، حتى لو كان يقع في التجاوزات
التي يرفضها، فالمحافظون ليسوا المتدينين فقط، بل هم فئة أكبر ينضوي المتدينون تحتها.
يرى
المتابع للانتخابات ومنهم
المحافظون العرب، أن هناك خطا واضحا لانتقاد
أردوغان
وحكمه في تركيا في الإعلام العالمي دون استثناء منصات كبيرة ورائدة في
"المهنية" الصحفية، لكن يبدو أن عين هذه المهنية ترى في أردوغان
ديكتاتورا فقط، ولا تذكر أنه نقل تركيا من دولة بائسة إلى دولة متقدمة، وكانت
المهنية تقتضي ذِكْر الانتقادات، مقرونة بالإنجازات. والغريب أن وضع تركيا العسكري
والصناعي باب من أبواب الإنجازات "الحديثة"، ولم تقف عند تاريخ 2002
الذي يتم ذكره من باب الاستخفاف وحصر الإنجازات في عقدين ماضيين.
نعاني من غياب عنصر الديمقراطية في أوطاننا، ووجود أمة ديمقراطية في محيطنا الثقافي والجغرافي وامتدادنا التاريخي، يجعلنا نفرح لوجود هذا النموذج، ونتطلع إلى اللحاق بهذه الحالة، ونعلم يقينا أن الديمقراطية بوابة حل مشاكلنا المزمنة وشديدة التعقيد
ورغم
هذه الآلة الإعلامية المحلية والإقليمية والدولية الضخمة، فإن المحافظين العرب لا
يزالون يتعاطفون ويدعمون أردوغان، فما السبب؟
تأتي
المفارقة من أن هذا الهجوم الإعلامي أحد أسباب دعم أردوغان في المنطقة، فشعوبنا
لديها موقف من الأنظمة الغربية المحتضنة لجلَّادينا، ولدينا أيضا تاريخ من الإرث
الاستعماري مع معظم دول الغرب الكبرى، فضلا عن التاريخ القريب للاحتلال الأمريكي
في العراق وأفغانستان، وفوق كل هذا دعمهم لكيان الاحتلال الصهيوني، فإذا كان هذا
إرث هذه الدول معنا، فكيف يمكن للمتابع العربي أن يثق تماما في توجه هذا الإعلام؟
السبب
الثاني أننا نعاني من غياب عنصر الديمقراطية في أوطاننا، ووجود أمة ديمقراطية في
محيطنا الثقافي والجغرافي وامتدادنا التاريخي، يجعلنا نفرح لوجود هذا النموذج،
ونتطلع إلى اللحاق بهذه الحالة، ونعلم يقينا أن الديمقراطية بوابة حل مشاكلنا
المزمنة وشديدة التعقيد.
ويتصل
بتلك النقطة التقدم الاقتصادي في تركيا، والشعور بالأخوّة الإيمانية والثقافية، فالتقدم
في تركيا مدعاة سعادة لمن يشعر بتلك الرابطة، ومدعاة تطلع كذلك. وبحسب تقرير منشور
في موقع "أوراق" الصادر من تركيا، الذي نقل بيانات صادرة عن وزارة
التجارة التركية، فقد "بلغت الصادرات التركية إلى بلدان الشرق الأوسط والخليج
العربي، 24.7 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2022، بزيادة
تصل إلى 24.8 في المئة عن العام الماضي". وهذه الأرقام تعطي مؤشرا على
الإقبال العربي على شراء المنتجات التركية، ولا يمكن إغفال أن التوترات السابقة في
العلاقات مع دول الخليج خفَّضت من الصادرات، وبدأت في الارتفاع مرة أخرى بعد التهدئة
السياسية التي تجريها تركيا في المحيط العربي، فهناك عاطفة تستدعي شراء المنتج
التركي، فضلا عن جودته أيضا.
ثم
هناك البعد الديني الذي يتملَّك العرب والمسلمين، وما جرى في تركيا من تمكين
للمحجبات مثلا محل اعتبار كبير في نفوس المسلمين، فضلا عن إتاحة المجال للدعوة
الدينية بعدما كان التدين جريمة، وكانت الدعوة إلى الأخلاق محل استنكار، وأصبحت
الدولة التي احتضنت آخر خلافة في تاريخ المسلمين متنكِّرة لتراثها وتاريخها. ومثل
هذه الاعتبارات "المعنوية" محل تقدير كبير للمسلمين والمحافظين من
العرب.
لا بد أن تستمر تجربة تركيا، وهي لن تستمر بشخص واحد، صحيح أن القدرات الشخصية أحيانا تكون استثنائية، لكن الأوطان تحتاج إلى وجود كوادر تستكمل المسيرة، ودائما ما يكون هناك تساؤل: ماذا سيحدث لو غيَّب القدر هذا الحاكم الاستثنائي؟ وما مصير التجربة إذا حدث هذا الطارئ؟
وهناك
تعاطف آخر يتعلق بمظلومية المضطهدين العرب عموما، والسوريين خاصة؛ فتركيا أصبحت
ملاذا للمعارضين العرب الذين يريدون أن يعيشوا مع أبنائهم في بيئة قريبة نسبيا من
بيئتهم الثقافية، دون خوف من اختطاف أبنائهم منهم تحت أي ذريعة كما تفعل دول مثل
السويد، ودون تغيير دينهم بعد هذا الاختطاف، فضلا عن الاطمئنان على وجود قدر كاف
من التعليم الديني الذي يساعد على تنشئة الأبناء، كما أن الكبار يجدون أبواب
المساجد وصوت الأذان أينما يمَّموا وجوههم، وهذه اعتبارات ذات قيمة أيضا، ويرويها
بعض الذين يعيشون في تركيا.
أما
اللاجئون خاصة من سوريا فقد وجدوا في الجارة الحدودية بوابة لهم، ورغم ما يعانونه فيها
من أحداث عنصرية، فإن تركيا تظل أأمن لهم من كثير من الدول العربية عامة، وأقرب
ثقافيا من كل الدول الأوروبية، ففي تركيا يمكنهم انتقاد نظام الأسد بحرية أكبر من
أي دولة عربية، خاصة بعدما زال داعي العلاقات السرية وتمت إعادته إلى الجامعة
المعبِّرة عن الأنظمة لا عن شعوبها، وفي تركيا يمكنهم التعبُّد بحريَّة، كما سبق.
رغم
العاطفة التي تربط العرب بأردوغان وحزبه، فإن هناك ممن يتمنون فوز أردوغان، يتمنون
أيضا ألا يترشح لولاية تالية، فلا بد أن تستمر تجربة تركيا، وهي لن تستمر بشخص
واحد، صحيح أن القدرات الشخصية أحيانا تكون استثنائية، لكن الأوطان تحتاج إلى وجود
كوادر تستكمل المسيرة، ودائما ما يكون هناك تساؤل: ماذا سيحدث لو غيَّب القدر هذا
الحاكم الاستثنائي؟ وما مصير التجربة إذا حدث هذا الطارئ؟ لذا بقدر ما يتمنى
كثيرون نجاح أردوغان وحزبه، يتمنون أيضا تغيير الوجوه مع استمرار النجاح.