لا يمكن الفصلُ
في مقاربة الحالة العربية بين انتشار مظاهر العنف والاقتتال من جهة؛ وبين الإطار
العام الذي وضعته الإدارة الأمريكية للمنطقة والمسمى "الحرب الكونية على
الإرهاب". هذه الحرب الأمريكية كانت فاتحة طور عالمي جديد كان الهدف الأساسي
من ورائه إرساء النفوذ الأطلسي في قلب المنطقة، عبر القواعد العسكرية التي ستكون
حارس مصادر الطاقة وأسواق المنطقة وممراتها البحرية الاستراتيجية.
في هذا النسق الجديد
تندرج محطات فارقة؛ منها حرب تحرير الكويت ثم أحداث برج التجارة العالمي ثم غزو
العراق وأفغانستان، وصولا إلى غزو سوريا واحتلال مناطق شاسعة منها بدخول فاعل جديد
إلى الساحة وهو الفاعل الروسي. عبر هذه المحطات كانت ذريعة "محاربة الإرهاب
الإسلامي" العنوان الأبرز لكل الحملات العسكرية والعمليات الميدانية التي أودت
بحياة الملايين من سكان المنطقة، بعد أن انتشرت هذه الحرب وصولا إلى مالي واليمن
والسودان.
تمدد العنف عربيا
لا تنفك بقعة
العنف التي صُنعت صناعة في العراق منذ بداية التسعينات تتمدد يوما بعد يوم، مهما
كانت طبيعة الوضع السياسي في البقعة التي تبلغها. فبعد اليمن وليبيا والعراق
وسوريا وفلسطين ها هو السودان يدخل نادي الفوضى، معلنا عن اتساع جديد لدائرة العنف
والاقتتال مع اشتداد المواجهات المسلحة بين الفرقين اللذين يتنازعان السلطة هناك.
إذا كانت بقعة العنف آخذة في التمدد فهل يعني ذلك أنها غير قابلة للتوقف والانحسار؟ ما هو مداها وما هي أقصى الحواضر التي يمكن أن تبلغها؟ ما هي المحركات الداخلية والخارجية الضامنة لهذا التمدد؟
حواضر أخرى كثيرة
مرشحة هي الأخرى للالتحاق بها مدفوعة بتأزم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وغياب
أية حلول داخلية ممكنة، مثلما هو الحال في لبنان. بناء
على ما تقدم تُطرح أسئلة هامة: إذا كانت بقعة العنف آخذة في التمدد فهل يعني ذلك
أنها غير قابلة للتوقف والانحسار؟ ما هو مداها وما هي أقصى الحواضر التي يمكن أن
تبلغها؟ ما هي المحركات الداخلية والخارجية الضامنة لهذا التمدد؟
قد يكون من
الضروري الجزم بأن هذه الموجة لا تتوقف عن التفاعل لسبب أساسي وهو أن كل المؤشرات
الداخلية والخارجية تؤكد على غياب أية بادرة لحل جذري قادر على إيقاف النزيف. فالمؤسسات
العربية الرسمية تكاد تكون مشلولة وعاجزة عن مجاراة الانحدار الكبير الذي ساهمت هي
فيه بشكل أو بآخر، حيث تقف المنطقة برمتها على فوهة بركان، وليست المساعي الفردية
من هنا وهناك لنزع فتيل
الأزمات والتوسط في صراعات كثيرة أو تطبيع العلاقات مع هذه
الدولة أو تلك إلا محاولات متأخرة لتدارك وضع قد استفحل بقوة.
قد يرى بعض
المراقبين من جهة مقابلة أن انفجار حالات الفوضى عربيا وبلوغها مستويات عالية مسار
طبيعي لموجة واحدة لا بد لها من استكمال دورتها حتى تأخذ في الانحسار تدريجيا بعد
أن تستوفي شروط وجودها، بل إن تفاقم الأزمة دليل على أنها بلغت مراحلها الأخيرة
ولن تستطيع التمدد إلى مساحات أكبر من المساحات التي بلغتها، بعد أن دفعت شعوب
المنطقة منذ عقود ثمنا باهظا للتحولات المرتبطة بالعنف والاستبداد والاقتتال
الداخلي.
استنزاف شماعة
الإرهاب
وفّرت هذه الحرب غطاء قانونيا دوليا لكل أشكال القمع وانتهاك حقوق الإنسان والتضييق على الحريات التي مارستها السلطة العربية الحاكمة على شعوب المنطقة، فباسم الحرب على الإرهاب تمت تصفية ثورات الربيع العربي وقُمعت كل الأصوات المعارضة ونُكّل بالصحفيين والمناضلين وفُتّحت السجون والمعتقلات وزنازين التعذيب
إذا كانت القوى
الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا قد حققت في سوريا والعراق
وليبيا واليمن الأهداف التي تطمح إليها، فإن النظام الرسمي العربي قد استفاد كثيرا
من الحرب الأمريكية على الإرهاب. لقد وفّرت هذه الحرب غطاء قانونيا دوليا لكل
أشكال
القمع وانتهاك حقوق الإنسان والتضييق على الحريات التي مارستها السلطة
العربية الحاكمة على شعوب المنطقة، فباسم الحرب على الإرهاب تمت تصفية ثورات
الربيع العربي وقُمعت كل الأصوات المعارضة ونُكّل بالصحفيين والمناضلين وفُتّحت
السجون والمعتقلات وزنازين التعذيب. تم ذلك تحت غطاء الحرب على الإرهاب، واستعانت
السلطة العربية بحزام قانوني وتشريعي رهيب يعفيها من كل محاسبة ويطلق يدها في
التنكيل بكل الأصوات الحرة مهما تذرعت بالسلمية وبالقانون الدولي.
لكن مؤشرات كثيرة
اليوم تؤكد أن مشروع الحرب على الإرهاب بأصوله الأمريكية قد وصل إلى نهايته، بعد
أن تحولت المطالب الشعبية إلى مطالب اجتماعية تتعلق بالشغل ولقمة العيش والحق في
التعبير أكثر من تعلقها بالمطالب السياسية. من جهة ثانية لم تساهم الحرب على
الإرهاب في الحدّ من موجات العنف والفوضى، بل فاقمتها وضاعفت من حدتها إلى درجة
أصبح التحكم فيها أمرا عسيرا اليوم.
في مصر مثلا أو
في العراق لم تعد تهم الإرهاب التي تجتهد السلطة الحاكمة في إلصاقها بالمعارضين
تقنع أحدا في الداخل أو في الخارج؛ لأن المطالب الاجتماعية طغت اليوم على المطالب
السياسية لهذه الجماعة أو تلك. صارت مطالب الطبقات الفقيرة متعلقة أساسا بتوفير
المواد الأساسية ومقاومة انفجار الأسعار وانهيار قيمة العملة المحلية، بعد أن صار
شبح الإفلاس يهدد دولا عربية كثيرة.
يبدو أن النهج الذي اختارته السلطة العربية للتعامل مع مطالب الشعوب يقود إلى طريق مسدود، بعد أن أفلست كل الذرائع التي كانت تستعملها لربح الوقت وإحكام السيطرة على المجتمع. لكن في المقابل ما هي البدائل المتاحة في حال إعلان الإفلاس الكبير والعالم كلّه يعاني من أزمات التضخم وارتفاع أسعار الطاقة والمراد الأساسية؟
فهل يمكن أن تقنع
الحرب على الإرهاب المواطنَ بفقدان مادة السكر أو الزيت أو الحليب من رفوف المتاجر؟
أليست الحرب على الفساد وعلى الاحتكار وتهريب العملة واستنزاف ثروات البلاد هي
الحرب التي يجب أن تُجند لها طاقات السلطة؟
يبدو أن النهج
الذي اختارته السلطة العربية للتعامل مع مطالب الشعوب يقود إلى طريق مسدود، بعد أن
أفلست كل الذرائع التي كانت تستعملها لربح الوقت وإحكام السيطرة على المجتمع. لكن
في المقابل ما هي البدائل المتاحة في حال إعلان الإفلاس الكبير والعالم كلّه يعاني
من أزمات التضخم وارتفاع أسعار الطاقة والمراد الأساسية؟
إن خيار الهروب
إلى الأمام لم يعد مجديا بل شارف على بلوغ آخر محطاته، مما يطرح على الأجيال
الجديدة أعظم التحديات المتمثلة في القدرة على تجاوز الخراب الذي خلفه الاستبداد
العربي؛ بإعادة ترميم قوى المجتمع الحية لصياغة بدائل اقتصادية تنقذ ما تبقى من
آمال الشعوب في استعادة أوطانها وإنقاذها من الانهيار الكبير.