نعيش
هذه الأيام لحظات عصيبة ونحن نراقب من بعيد ما يجري في إحدى أكبر الدول العربية
مساحة وثروات وهو
السودان العظيم، فنحن نشهد صراعا مؤلما بين جنرالات هذا البلد
بما قد يؤدي إلى تدميره وتقسيمه وتحويله إلى ساحة صراع جديدة للقوى الإقليمية
والدولية والكيان الصهيوني، وقد سبق أن فقدَ قسما من أراضيه بفعل انفصال جنوب
السودان عنه، والذي تحوّل أيضا إلى ساحة للصراعات والمواجهات بين أبنائه وأصبح
جسرا وممرا للتدخلات الغربية والإقليمية.
وبدل أن
يتوحد السودان ويتعاون مع مصر في مواجهة تحديات ما بعد بناء سد النهضة في إثيوبيا،
وبعد أن كان إحدى أهم الدول الداعمة للمقاومة والرافضة للتطبيع مع الكيان الصهيوني،
يتحول إلى ساحة مدمرة للقتال بين جنرالاته ويصبح الكيان الصهيوني إحدى الدول
المستعدة للتدخل من أجل وقف القتال ورعاية المفاوضات بين هؤلاء الجنرالات.
وكي
نتعلم من أخطاء الماضي ولكي لا تتكرر المآسي مجددا في بلادنا، من المهم العودة إلى
التاريخ القريب، وخصوصا في بلاد الشرق وحكايات الانقلابات والصراعات الحزبية
والعسكرية والاستعانة بالدول الكبرى في مواجهة أزمات الداخل، وكل ذلك حوّل بلادنا
العربية والإسلامية إلى ساحة للتدخلات الغربية وساهم في تأمين الظروف المناسبة
لقيام الكيان الصهيوني في العام 1948.
كي نتعلم من أخطاء الماضي ولكي لا تتكرر المآسي مجددا في بلادنا، من المهم العودة إلى التاريخ القريب، وخصوصا في بلاد الشرق وحكايات الانقلابات والصراعات الحزبية والعسكرية والاستعانة بالدول الكبرى في مواجهة أزمات الداخل، وكل ذلك حوّل بلادنا العربية والإسلامية إلى ساحة للتدخلات الغربية
وبين
يدي اليوم كتاب جديد صدر مؤخرا في بيروت بعنوان: "ضياء في ظلمات المشرق: من
مذكرات جولييت المير سعادة" للكاتبة اللبنانية ريجينا صنيفر وتقديم المفكر
الدكتور جورج قرم وتوزيع دار الفرات. والكاتبة صنيفر كانت مقاتلة في صفوف حزب
الكتائب وأجرت مراجعة لتجربتها في الحرب اللبنانية، وأصدرت كتابا بعنوان: "ألقيت
السلاح: امرأة في خضم الحرب اللبنانية".
والكتاب
الجديد يستند على مذكرات زوجة زعيم ومؤسس الحزب القومي السوري الاجتماعي أنطوان
سعادة، جولييت المير سعادة، التي سبق أن دوّنتها في الستينيات من القرن الماضي وأودعتها
في أحد بنوك سويسرا، وقام أفراد العائلة بإعادة طباعتها في العام 2003. وعمدت
الكاتبة ريجينا صنيفر لإعادة صياغة المذكرات بأسلوب روائي تجمع فيها بين المعلومات
التاريخية والمذكرات الشخصية والأسلوب الروائي والصحفي المميز.
وفي
هذا الكتاب الهام عرض للتطورات التي حصلت في بلاد المشرق (سوريا والاردن ولبنان
والعراق وفلسطين) وكذلك في منطقة الجزيرة العربية ومصر وذلك ابتداء من الحرب
العالمية الأولى وحتى منتصف الستينات، وكيف راهن العرب على التعاون مع الإنجليز
والفرنسيين للانقلاب على الدولة العثمانية طمعا بالحصول على الاستقلال، ومن ثم كيف
انقلب الإنجليز والفرنسيون ولاحقا الأمريكيون على العرب، وعمدوا إلى تقسيم الدول العربية
وإخضاعها للانتداب الفرنسي والإنجليزي ومن ثم تحت السيطرة الأمريكية، وكيفية تهيئة
الأجواء لقيام الكيان الصهيوني وانتصاراته.
ويتضمن
الكتاب عرضا دقيقا للانقلابات التي حصلت في الدول العربية في تلك الفترة بحجة
الانتقام لنكبة فلسطين وإقامة الجمهوريات العربية، ومن ثم تحولت تلك الانقلابات
إلى
صراعات على السلطة بين ضباط الجيش والأحزاب العربية القومية والشيوعية
والناصرية والإسلامية، وكانت النتيجة خسارة الاستقلال والحرية وتدخل المخابرات الأجنبية
في بلادنا.
ومع أن
الكتاب يركز على تجربة الحزب القومي السوري الاجتماعي وزعيمه ومؤسسه أنطوان سعادة
ومشروعه لقيام سوريا الكبرى والدولة العلمانية، فإنه يتعرض لتجارب بقية الأحزاب
ويكشف حجم الصراعات داخل هذه الأحزاب، وكيف يصبح الصراع على السلطة هو الأساس رغم أن
كل فريق يدّعي وصلا بليلى (أي فلسطين والحريات والوحدة والديمقراطية)، وتكون
النتيجة المزيد من القمع والديكتاتورية وتدمير البلاد.
ويتقاطع
هذا الكتاب مع غيره من الكتب والمذكرات التي أرّخت للثورات العربية وتاريخ المنطقة،
ومنها رواية فيصل للكاتب والمؤرخ اللبناني الدكتور خالد زيادة، والتي تحدثت عن
الثورة العربية ضد السلطة العثمانية والوعود بقيام الدولة العربية الكبرى بين
سوريا والجزيرة العربية، ومن ثم الانقلاب الفرنسي والإنجليزي على العرب ومحاربة
الفرنسيين لفيصل ومن ثم تعيينه ملكا على العراق وصولا للانقلاب عليه، وما جرى بعد
ذلك من انقلابات وأحداث في سوريا والعراق والأردن وفلسطين.
كل
تلك الذكريات والمذكرات التاريخية تجعلنا نقرأ الحاضر بعيون نقدية اليوم، وخصوصا
على ضوء ما يجري في السودان وما جرى سابقا في سوريا وما يجري في ليبيا وتونس
واليمن ودول عربية أخرى، فكل تلك الصراعات تجري تحت عناوين كبيرة وبحجة إقامة
الديمقراطية ومواجهة الديكتاتوريات والدعوة لمشاريع قومية وعربية وإسلامية تحررية،
ولكن للأسف تتحول الأحداث إلى صراعات على السلطة والانقلابات على الانقلابات،
وتكون النتيجة تدمير بلادنا وثرواتها وفتح الباب الواسع امام تدخل القوى الإقليمية
والدولية، والأخطر اليوم أن يصبح الكيان الصهيوني هو من يتبنى القيام بالوساطات
والمفاوضات بين الانقلابيين والجنرالات المتصارعين على السلطة.
العالم اليوم يشهد متغيرات كبرى ونتجه نحو نظام عالمي جديد قائم على التعددية القطبية وبروز قوى إقليمية ودولية جديدة، وبدل أن نستفيد من هذه المتغيرات لبناء نظام إقليمي جديد قائم على التعاون العربي والإسلامي، نغرق مجددا في الصراعات بين الجنرالات كما يجري في السودان، أو يحاول البعض استعادة النظام الديكتاتوري كما يجري في تونس من خلال قمع المعارضة ووضع قادتها في السجون، أو من خلال استمرار الصراعات الداخلية كما في لبنان وليبيا وغيرهما
فلماذا
لا نتعلم من أخطاء الماضي وكي لا تتكرر المآسي مرة أخرى في بلادنا ونوقف كل تلك
الصراعات، سواء داخل كل دولة، أو بين الدول العربية والإسلامية، ونعيد صياغة
المشروع العربي والإسلامي النهضوي القائم على الديمقراطية والتحرر والتنمية
والتكامل فيما بين الدول العربية والإسلامية.
العالم
اليوم يشهد متغيرات كبرى ونتجه نحو نظام عالمي جديد قائم على التعددية القطبية
وبروز قوى إقليمية ودولية جديدة، وبدل أن نستفيد من هذه المتغيرات لبناء نظام إقليمي
جديد قائم على التعاون العربي والإسلامي، نغرق مجددا في الصراعات بين الجنرالات
كما يجري في السودان، أو يحاول البعض استعادة النظام الديكتاتوري كما يجري في تونس
من خلال قمع المعارضة ووضع قادتها في السجون، أو من خلال استمرار الصراعات
الداخلية كما في لبنان وليبيا وغيرهما.
فهل
نعيد قراءة الأحداث ونستفيد من تجارب الماضي ونراقب ما يجري في الكيان الصهيوني من
أزمات لعل ذلك يشكل فرصة لإعادة النهوض في المنطقة، وخصوصا بعد الاتفاق السعودي-
الإيراني والتقارب العربي- التركي وإعادة العلاقات بين الدول العربية وسوريا عشية
القمة العربية التي ستعقد في الرياض.
نحن أمام
خيارين لا ثالث لهما: إما أن نتعلم من أخطاء الماضي ونعيد بناء أمتنا ودولنا على أسس
صحيحة ونردد مع الشاعر القومي خليل حاوي في قصيدته الجسر:
يعبرون
الجسر في الصبح خفافا
أضلعي
امتدّت لهم جسرا وطيد
من
كهوف الشرق، من مستنقع الشرق
إلى
الشرق الجديد
أضلعي
امتدّت لهم جسرا وطيد
.. أو
أن نغرق في الصراعات وتتحول بلادنا إلى ساحات للحروب وتدخل القوى الكبرى ونتجه
للتقسيم مجددا بعد مائة عام على مؤامرة سايكس- بيكو وقيام الكيان الصهيوني في
فلسطين.
فأي
الخيارات نختار؟
twitter.com/kassirkassem