نشرت مجلة "
نيويوركر"
الأمريكية مقال رأي للكاتب ديفيد دي كيركباتريك، تحدث فيه عن اعتقال رئيس حركة النهضة في
تونس، الشيخ راشد
الغنوشي، ووصفه بأنه "زعيم استثنائي"
وقال الكاتب، في مقاله الذي ترجمته
"عربي21"؛ إنه بعد عقد من الحرية والديمقراطية، قام الرئيس الجديد قيس
سعيّد، في عام 2021 بإغلاق البرلمان، وبدأ بفرض دستور استبدادي واعتقال منتقديه.
وفي هذا الأسبوع؛ اعتقلت الشرطة راشد الغنوشي، زعيم أكبر حزب سياسي في تونس، والمفكر الأكثر نفوذا في العالم العربي حول التوليف المحتمل للديمقراطية
الليبرالية والحكم الإسلامي.
وأضاف الكاتب أن الغنوشي الذي ولد في
عام 1941 في جنوب تونس النائي، ودرس في القاهرة ودمشق وباريس، والذي عمل في العديد
من الوظائف المتدنية في أوروبا، قد عاد إلى تونس في عام 1971. وفي ذلك الوقت؛ كانت
الحركات السياسية الإسلامية على غرار الإخوان المسلمين تتصاعد في جميع أنحاء
المنطقة، كبديل للأنظمة الاستبدادية في السلطة. وفي عام 1981، شارك الغنوشي في
تأسيس حركة إسلامية تونسية، وتم سجنه وتعذيبه لمدة ثلاثة أعوام. وفي عام 1987، تم
اعتقاله مرة أخرى وحُكم عليه بالإعدام والنفي إلى لندن.
أدت تجربة الغنوشي للديمقراطية الليبرالية
في بريطانيا من منظور إسلامي إلى تمييزه عن غيره من المثقفين العرب؛ فمنذ فترة
طويلة، استنتج علماء الإسلام أنه يجب على المسلم أن يشعر بالأمان في حريته
وممتلكاته ودينه وكرامته، وهو ما تطرق إليه الغنوشي في أطروحته البارزة:
"الحريات العامة في الدولة الإسلامية"، التي بدأ كتابتها في السجن
ونُشرت باللغة العربية في عام 1993. فلماذا وجد الأمن في الغرب فقط؟ وخلص إلى أن
الدولة الإسلامية الحقيقية يجب أن تقوم على "حرية الضمير" للمسلمين وغير
المسلمين على حد سواء. ونقلا عن عالم محترم من القرن الثاني عشر، حث الغنوشي
الإسلاميين على التعلم من
الديمقراطية الغربية؛ للاستفادة "من أفضل التجارب
البشرية، بغض النظر عن أصولهم الدينية؛ لأن الحكمة هي توأم الشريعة".
في عام 2011؛ عندما دفعت موجة عفوية من
الاحتجاجات الرئيس الذي حكم طويلا إلى المنفى وأطلقت ثورات الربيع العربي، عاد
الغنوشي إلى تونس وساعد في جعل الانتقال السياسي في البلاد أكثر ليبرالية، وبذل
قصارى جهده لإنقاذ احتمالات الديمقراطية في أماكن أخرى. وفي أواخر ربيع 2013؛ سافر
إلى مصر لتقديم المشورة لأول رئيس منتخب ديمقراطيا، محمد مرسي، الذي ينتمي لجماعة
الإخوان المسلمين.
من الصعب الآن تذكر حالة الأمل في تلك
الشهور. عقدت تونس ومصر وليبيا انتخابات نزيهة في ذلك الوقت وبدأت في كتابة فصول
جديدة في حياتها. اعتبر الخبراء الغربيون اليمن مثالا على الانتقال السلمي للسلطة.
حتى في سوريا، كانت غالبية "المتمردين" لا تزال تتظاهر تحت لافتة
الديمقراطية وليس "الإسلام المتطرف"، ولم تكن الانتفاضة قد تحولت لحرب
أهلية طائفية بعد. ولكن عاصفة رملية كانت تثار تجاه "ميدان التحرير"،
حيث استطاعت اعتصامات ألهمت من تونس قبل سنتين واستمرت ثمانية عشر يوما، أن تسقط
الرئيس حسني مبارك وتعبد الطريق أمام الرئيس مرسي. أما الآن، فإن معارضي مرسي
يطالبون باستقالته، بينما يرسل قائد القوات المسلحة إشارات متضاربة حول ولائه.
وأضاف الكاتب أن الغنوشي أمضى أكثر من
عقدين من الزمن يفكر ويكتب عن نفس الوعود التي أطلق الإخوان المسلمون في مصر
حملتهم على أساسها: الجمع بين الحكم الإسلامي والانتخابات الديمقراطية والحريات
الفردية. وتابع، أخبرني الغنوشي في مقر حزبه في تونس، أنه حاول إقناع مرسي بالتخلي
عن بعض السلطة طواعية من أجل تحقيق هذه الأهداف، وقد أكد لي أحد مستشاري مرسي
لاحقا معظم ما قاله الغنوشي. وبعد ثورات مثل تلك التي حدثت في مصر وتونس، يجب على
حزب الأغلبية أن يفهم الأقليات السياسية أو الدينية، مثل الليبراليين ذوي العقلية
العلمانية في مصر، والمسيحيين الأقباط الذين كانوا يتمتعون ببعض الحماية في ظل
النظام الاستبدادي القديم.
ولكن مرسي رفض تلك النصيحة، مقتنعا بأن التنازل عن السلطة تحت التهديد بالاحتجاجات سيكون استسلاما للابتزاز السياسي
وسابقة خطيرة. وعلى الرغم من قتل أكثر من ألف إسلامي مصري في الشوارع لمعارضتهم
الانقلاب، وسجن عشرات الآلاف، ومطالبة أولئك الذين يعملون بالسر أو في المنفى
بمعاقبة الفصائل الليبرالية المفترضة، التي دعمت في البداية استيلاء السيسي على
السلطة، لا يزال الغنوشي يحث على المصالحة قائلا: "السفينة المصرية بحاجة إلى
ضم جميع المصريين وعدم التخلي بعضهم عن بعض. ولا ينبغي أن يكون هناك عقاب جماعي. ليس
هناك أي علاج للديمقراطية الفاشلة سوى المزيد من الديمقراطية".
وبعد الانقلاب المصري، تعثرت ثورات
الربيع العربي واحدة تلو الأخرى؛ حيث أشار الكاتب إلى تونس باعتبارها الاستثناء،
ويرجع ذلك جزئيا إلى أن الغنوشي اتبع نصيحته الخاصة هناك في العام التالي، حيث
فاز الحزب الإسلامي الذي شارك في تأسيسه وقيادته "النهضة". وبحلول أواخر
عام 2013؛ أدى اغتيال اثنين من السياسيين العلمانيين ذوي الميول اليسارية إلى وقف
العملية السياسية وصياغة الدستور؛ وقد اشتبه المعارضون في قيام متطرفين إسلاميين
بتنفيذ عمليات القتل، وألقوا باللوم على النهضة لفشلها في منع حدوث ذلك. وتحدى
الغنوشي، الذي لم يكن يشغل أي منصب منتخب في ذلك الوقت، الكثيرين في حزبه للتوصل
إلى اتفاق لتقاسم السلطة مع الزعيم الرئيسي للمعارضة العلمانية. الأمر الذي قلل من
حدة المأزق. واحتفلت الثورة التونسية بالذكرى السنوية الرابعة - حيث كانت انتفاضة
الربيع العربي الوحيدة التي بدا أنها نجحت-، وحصلت منظمات المجتمع المدني التي
ساعدت في رعاية المحادثات بين الغنوشي والمعارضة على جائزة نوبل للسلام. وخلال
زيارته لواشنطن قال الغنوشي: "نحن لسنا ملائكة؛ نود الحصول على السلطة،
ولكننا نعتقد بشدة أن الدستور الديمقراطي أكثر أهمية".
وأشار الكاتب إلى أن النهضة تحت قيادة
الغنوشي كانت مثالا فريدا لما أسماه البعض الإسلاموية الليبرالية. ففي الواقع؛
ساعد الغنوشي في إقناع قادة النهضة بالتخلي عن مسمى "الإسلاميين" والبدء
في وصف أنفسهم بأنهم ديمقراطيون مسلمون. ودفع حزبه الذي قاد صياغة الدستور، بفصل
يضمن حماية صريحة لحقوق المرأة والأقليات الدينية. وقد أشار في عام 2014 إلى أن
تونس كانت واحدة من الدساتير العربية القليلة التي لم تشر إلى الشريعة الإسلامية،
مؤكدا أن تونس تضمن الحريات للمساجد والكنائس والمعابد اليهودية، وحتى
"الحانات".
ومع ذلك، لم يتعافَ الاقتصاد التونسي
المعتمد على السياحة تماما من صور الاضطرابات في أعقاب انتفاضة الربيع العربي،
كما أدت سنوات من التقاعس النسبي من قبل الحكومة المؤقتة التونسية وحلفائها إلى رد
فعل عنيف ضد الطبقة السياسية بأكملها، وخاصة ضد النهضة. وخلال الانتخابات في عام
2019؛ حصّل الغنوشي مقعدا في البرلمان ثم تم اختياره رئيسا، ليصبح بذلك سياسيا.
يعلق الأكاديمي المصري المتخصص بالإسلام السياسي عماد شاهين على ذلك بالقول:
"كان البرلمان بمنزلة سيركا، وليس مكانا لزعيم من عياره الفكري. لقد
استهلكته السياسة التافهة".
في انتخابات 2019؛ رفض الناخبون كل
مرشح رئاسي كان قد شغل مناصب عامة، وفاز الأستاذ
سعيد الذي كانت أفكاره في نواح
كثيرة عكس أفكار الغنوشي بأغلبية ساحقة. وقد نبذ سعيد أي فلسفة أو فصيل سياسي
معروف، وانتقد الغرب بشكل روتيني، ووجه انتقادات لاذعة خاصة إلى صندوق النقد
الدولي، الذي تحتاج تونس بشدة إلى دعمه. ويعد مشروع دستوره بأن الدولة
"ستعمل على تحقيق أهداف الإسلام الخالص".
وأكد الكاتب أن سعيد قد استخدم أزمة
وباء كورونا كذريعة لحل البرلمان والحكم بمراسيم رئاسية، حيث لم يمض وقت طويل حتى
بدأ في اعتقال قائمة طويلة من النقاد والمعارضين. وبلغت هذه الاعتقالات ذروتها هذا
الأسبوع مع الغنوشي؛ حيث تتعلق جريمته المزعومة بتصريح أدلى به في نهاية الأسبوع
الماضي: "تونس بدون النهضة، بدون إسلام سياسي، بدون اليسار أو أي من مكوناته،
مشروع حرب أهلية". وقال؛ إنه قبل وقت قصير من الغروب يوم الاثنين، داهم أكثر
من مائة ضابط شرطة يرتدون ملابس مدنية منزله. وبعد يومين في الحجز، تم استجواب
الغنوشي، البالغ من العمر الآن 81 عاما، لمدة ثماني ساعات، وحكم عليه قاض يوم
الخميس بالحبس الاحتياطي المطول. وقد اتُهم في البداية بالتحريض، ولكنه يواجه الآن
اتهامات بالتآمر ضد أمن الدولة؛ وهي جريمة يمكن أن يُعاقب عليها بالإعدام.
إن الضربة التي تتعرض لها الديمقراطية التونسية واضحة. لكن سجن زعيم مميز استثنائي مثل الغنوشي يمثل أيضًا نكسة للعالم الأوسع. بالنسبة للإسلاميين الذين يتبنون العنف ، فإن سجنه هو إثبات - دليل جديد على عدم جدوى صندوق الاقتراع. وإسكات صوته خسارة للغرب أيضًا.
أخبرني روبرت كاجان ، مؤرخ السياسة الخارجية الأمريكية ، أن "المزاوجة بين الإسلام والليبرالية والحكم الديمقراطي هو الحل لمشاكلنا في العالم العربي ، وهو الحل لمشكلتهم معنا". كان هذا أيضًا الأمل الذي حاول الغنوشي إنقاذه في مصر قبل عشر سنوات.
وحث الغنوشي ، في مقطع فيديو مسجل مسبقًا نُشر يوم الخميس ، على الصبر. وقال للتونسيين: "ثقوا بمبادئ ثورتكم ، وأن الديمقراطية ليست أمرا عابرا في تونس".