نشرت مجلة "
كاونتر بانش" الأمريكية تقريرًا للكاتب ريتشارد وولف ناقش من خلاله أربعة
تطورات رئيسية تعكس
التحول الاقتصادي في
العالم الجديد.
وقالت المجلة، في تقريرها الذي ترجمته "
عربي21"، إن الاقتصاد العالمي الجديد الناشئ يضم الكثير من التناقضات التي يمكن أن تتضح من خلال أربعة تطورات رئيسية. فأولاً، أصبح نموذج العولمة النيو ليبرالي هو النموذج القديم الآن، في حين باتت القومية الاقتصادية هي النظام الجديد. وبدافع الربح؛ استثمرت الرأسمالية في مراكزها القديمة (أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية واليابان) بشكل متزايد لأسباب منها رخص القوى العاملة والنمو السريع للأسواق ناهيك عن ضعف القيود البيئية؛ وتسهيل الحكومات بشكل أفضل التراكم السريع لرأس المال.
وذكرت المجلة أن هذه الاستثمارات حققت أرباحًا كبيرة للمراكز القديمة للرأسمالية، التي ازدهرت أسواقها المالية وبالتالي اتسعت التفاوتات في الدخل والثروة، وقد تعزز هذا النمو من خلال نقل المراكز القديمة. لقد نقلت ديناميكية الرأسمالية في وقت سابق مركز إنتاجها من إنجلترا إلى القارة الأوروبية، ثم إلى أمريكا الشمالية واليابان، وقد اتبعت الديناميكية ذاتها المدفوعة بالربح إلى البر الرئيسي لآسيا وما وراءها خلال نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين.
وذكرت المجلة أن العولمة النيوليبرالية، نظريًّا وعمليًّا، تعكس وتشرح هذا الانتقال للرأسمالية، وقد جنت أرباحا طائلة حققتها كل من الشركات الخاصة والمملوكة للدولة التي تديرها في جميع أنحاء العالم. لقد قللت من أو تجاهلت أهمية الجوانب الأخرى للعولمة في ظل تزايد عدم المساواة في الدخل والثروة داخل معظم البلدان؛ وتحول الإنتاج من المراكز الرأسمالية القديمة إلى المراكز الجديدة للرأسمالية ناهيك عن النمو السريع للإنتاج والأسواق في المراكز الجديدة مقارنة بالمراكز القديمة.
وأوضحت المجلة أن هذه التغييرات هزت مجتمعات المراكز القديمة مما ساهم في تقلص الطبقات الوسطى وانتقال الوظائف الجيدة بشكل متزايد إلى المراكز الجديدة للرأسمالية، واستخدمت فئات أرباب العمل في المراكز القديمة قوتهم وثروتهم للحفاظ على مكانتهم الاجتماعية، وأصبحوا أكثر ثراءً من خلال جني الأرباح الأكبر المتدفقة من المراكز الجديدة.
في المقابل؛ أثبتت العولمة النيوليبرالية أنها كانت ذات تداعيات كارثية على معظم الموظفين في المراكز الرأسمالية القديمة، وأدت التخفيضات الضريبية للشركات وتدني الأجور، وتخفيضات الإنفاق في الخدمات العامة، وإهمال البنية التحتية إلى اتساع عدم المساواة. وقد أعربت الكثير من الطبقات العاملة في جميع أنحاء الغرب الرأسمالي عن استيائها من الأوهام التي روجت لها العولمة النيوليبرالية باعتبارها من الأنظمة التي ستخدم مصالحهم. على خلفية ذلك؛ تصاعدت الاحتجاجات العمالية في جميع أنحاء الولايات المتحدة، مثل الانتفاضات الجماهيرية في فرنسا واليونان. وتجدر الإشارة إلى أن الرأسمالية نفسها تتعرض للاهتزاز والتشكيك والتحدي.
وبحسب المجلة؛ فإن التطور الثاني جاء من خلال المشاكل المتصاعدة للعولمة النيوليبرالية الرأسمالية - على مدى العقود الأخيرة - التي دفعت إلى إجراء تعديلات في نظامها، فعندما فقدت العولمة الليبرالية الجديدة شعبيتها في المراكز القديمة للرأسمالية؛ استولت الحكومات على مزيد من الامتيازات وأجرت المزيد من التدخلات الاقتصادية للحفاظ على النظام الرأسمالي. باختصار؛ نهضت القومية الاقتصادية لتحل محل النيوليبرالية، وبدلاً من أيديولوجية وسياسات عدم التدخل القديمة، سعت الرأسمالية القومية إلى ترشيد قوة الدولة المتوسعة. وفي مراكز الرأسمالية الجديدة؛ أدى تعزيز نفوذ الدولة إلى تحقيقها نموًّا اقتصاديًّا أكثر من المراكز القديمة.
وبينت المجلة أنه غالبًا ما أظهرت العبودية تعايش المؤسسات الخاصة والحكومية التي تشترك في تحديد العلاقة بين السيد والعبد. وعلى نحو مماثل؛ كان للإقطاع مؤسسات خاصة وحكومية لها نفس العلاقة بين السيد والعبد. ولا تختفي الرأسمالية عندما تظهر الشركات الخاصة والحكومية المنظمة نفس العلاقة بين رب العمل والموظف. وبالتالي فإننا لا نخلط بين رأسمالية الدولة والاشتراكية.
ووفق المجلة؛ ففي نهاية المطاف، يحل نظام اقتصادي مختلف غير رأسمالي محل منظمة أرباب العمل والموظفين في أماكن العمل لصالح منظمة مجتمعية ديمقراطية في مكان العمل كما هو الحال في تعاونيات العمال. إن الانتقال إلى الاشتراكية بهذا المعنى هو أيضًا نتيجة محتملة للاضطراب الذي يحيط اليوم بتشكيل اقتصاد عالمي جديد.
ويحقق المزج بين المؤسسات الحكومية والخاصة في الصين معدلات نمو عالية ودائمة للناتج المحلي الإجمالي والأجور الحقيقية، والتي استمرت حتى الآن على مدار الثلاثين سنة الماضية، ويؤثر هذا النجاح بعمق على القوميات الاقتصادية في كل مكان للتحرك نحو هذا المزيج كنموذج.
حتى في الولايات المتحدة؛ تصبح المنافسة مع الصين العذر المناسب للتدخلات الحكومية الضخمة؛ حيث يمكن أن تلقى حروب الرسوم الجمركية - التي رفعت قيمة الضرائب المحلية - تأييدًا قويًّا من السياسيين الذين بشروا بأيديولوجية عدم التدخل. وينطبق الأمر نفسه على الحروب التجارية التي ترعاها الحكومة، واستهداف الحكومة لشركات معينة للعقاب أو الحظر، والإعانات الحكومية للصناعات بأكملها مثل العديد من الحيل الاقتصادية المناهضة للصين.
وأضافت المجلة ثالثًا، خلال العقود الأخيرة، بلغت الإمبراطورية الأمريكية ذروتها وبدأت في التراجع. وهكذا يتبع النمط الكلاسيكي لكل إمبراطوريات أخرى (يونانية، ورومانية، وفارسية، وبريطانية) للنمط الكلاسيكي للولادة والتطور والانحدار والموت. ونشأت الإمبراطورية الأمريكية وحلت محل الإمبراطورية البريطانية خلال القرن الماضي وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية.
وفي وقت سابق؛ في سنة 1776 ومرة أخرى في سنة 1812، حاولت الإمبراطورية البريطانية وفشلت عسكريًّا في منع أو وقف الرأسمالية الأمريكية المستقلة من التطور. وبعد تلك الإخفاقات؛ اتخذت بريطانيا مسارًا مختلفًا في علاقاتها مع الولايات المتحدة بعد العديد من الحروب في مستعمراتها ومع الاستعمار المتنافس خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، اختفت الإمبراطورية البريطانية حاليًا.
وتساءلت المجلة عما إذا كانت الولايات المتحدة قد تعلمت أو حتى يمكنها تعلم الدرس الرئيسي من الانحدار الإمبريالي لبريطانيا، أم أنها ستستمر في تجربة الوسائل العسكرية - بشكل يائس وخطير أكثر من أي وقت مضى - للحفاظ على هيمنتها العالمية؟ وبعد كل شيء؛ خسرت الولايات المتحدة حروبها في كوريا وفيتنام وأفغانستان والعراق. وحلت الصين حاليا محل الولايات المتحدة باعتبارها صانع السلام الرئيسي في الشرق الأوسط.
وتم تنصيب الدولار الأمريكي باعتباره العملة العالمية المهيمنة. ويجب بالفعل مشاركة تفوق الولايات المتحدة في صناعات التكنولوجيا الفائقة مع صناعات التكنولوجيا الفائقة في الصين.
وقالت المجلة إنه رابعًا، يثير تراجع الإمبراطورية الأمريكية التساؤل عما سيحدث لاحقًا مع تعمق الانهيار؛ هل أصبحت الصين القوة المهيمنة الجديدة الناشئة؟ هل ستحل محل الإمبراطورية الأمريكية مثلما حلت الولايات المتحدة محلّ بريطانيا؟ أم أنه سيظهر نظام عالمي جديد متعدد الجنسيات ويشكل اقتصادًا عالميًا جديدًا؟ والاحتمال الأكثر إثارة للاهتمام وربما الأكثر احتمالًا هو أن الصين ومجموعة دول البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) سوف تتولى بناء وصيانة اقتصاد عالمي جديد.
وبحسب المجلة؛ فلقد عززت الحرب الأوكرانية بالفعل احتمالات مثل هذه النتيجة من خلال تعزيز تحالف البريكس، وتقدمت العديد من الدول الأخرى أو ستتقدم قريبًا للانضمام إلى تحالف بريكس. إن لديها السكان والموارد والقدرة الإنتاجية والروابط والتضامن لتُكوّن قطبًا جديدًا للتنمية الاقتصادية العالمية. وفي حال لعبوا هذا الدور، فإن الأجزاء المتبقية من العالم من أستراليا ونيوزيلندا إلى أفريقيا وأوروبا وأمريكا الجنوبية سيتعين عليها إعادة التفكير في سياساتها الاقتصادية والسياسية الخارجية.
واختتمت المجلة التقرير بالقول إن مستقبلهم الاقتصادي يعتمد جزئيًا على كيفية تنقلهم في المنافسة بين المنظمات الاقتصادية العالمية القديمة والجديدة. ويعتمد مستقبلهم الاقتصادي أيضًا على كيفية تفاعل نقاد وضحايا كل من الرأسمالية النيوليبرالية/ العولمة والرأسمالية القومية داخل جميع الدول.