الذي تابع ما جرى ويجري في «رمضان»
فلسطين هذا العام، بات يدرك أن اجتماعات التهدئة إياها قبل حلول الشهر الكريم، كانت خارج مجرى الحوادث بالجملة، اللهم إلا من وساطات عابرة لبعض أطرافها، في صورة نقل رسائل بين أطراف المعركة الأصليين على أرض فلسطين التاريخية، التي يعد موسمها الرمضاني واحدا من أعلى ذراها، فقد تضاعفت وتيرة الصدامات، بدءا من المسجد
الأقصى المبارك وما حوله، حيث توحشت اقتحامات المستوطنين الأكثر تطرفا وهمجية، وصلواتهم التلمودية، وخططهم لهدم المسجد وإقامة الهيكل المزعوم، وفي حماية شرطة وجيش
الاحتلال، الذي حول باحات المسجد العتيق ومصلياته إلى ميادين حرب، وأمطر المصلين والمصليات بالقنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي، ودهس سجاجيد الصلاة بالأحذية، وقد ووجه العدوان على «الأقصى» كالعادة، ببسالة المقدسيين والمرابطين والمرابطات وأيديهم الفارغة إلا من دعاء، ومن دون أن يكون من صدى يذكر عند أطراف اتفاقات التهدئة إياها، ومن في حكمهم، اللهم إلا في استنكارات باهتة ومناشدات عاجزة، تطالب بالحفاظ على الوصاية الأردنية، وعلى «الوضع الراهن» في المقدسات الإسلامية والمسيحية، مع ترك الشعب الفلسطيني وحده، يواجه البلطجة الإسرائيلية، وترديد المعزوفات البالية، التي تدعو واشنطن لردع تصرفات حكومة الإجرام الإسرائيلية، وكأن من طبع «الحدأة» أن ترمي الكتاكيت.
والنظرة للوهلة الأولى على سطح الحوادث، قد توحي بالانقباض وزوال الأمل، فأمة الملياري مسلم، لا تغضب للأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وتكاد لا تبالي بما يجري من عدوان متصل ومتصاعد على وجوده وحرماته، وصرخات المرابطات الفلسطينيات تحت هراوات التنكيل، لا تجد غيرة ولا مجيبا، اللهم إلا من الشعب الفلسطيني نفسه، وهو ما يحيي الأمل ويدفع للتفاؤل على الجانب الآخر. صحيح أن الوحشية والعدوانية الإسرائيلية بلغت طورا غير مسبوق، وصحيح أن الاستيطان والتهويد في القدس والضفة الغربية، يمضي بخطوات أسرع، وإلى حد تنظيم مسيرة بعشرات الآلاف لدعم الاستيطان جنوب نابلس، شارك فيها عشرون عضوا من «الكنيست» وسبعة وزراء في حكومة بنيامين نتنياهو، صحيح أن قطعان التهجم على الأقصى تتزايد وتصخب، وصحيح أن جيش العدو وشرطته وحرس حدوده، يمعنون في دهس الفلسطينيين وقتلهم واعتقالهم، ومنذ بداية العام الجاري، ارتقى أكثر من مئة شهيد فلسطيني وجرح وأسر عشرات الآلاف، وهدمت مئات منازل الفلسطينيين، لكن حيوية الشعب الفلسطيني في المقابل، تواصل صحوتها وتصميمها، وتدافع عن وجودها وحقوقها ووطنها ومقدساتها بكل ما أوتيت من قوة، ودونما انتظار عون لا يأتي من سلطة أو من حكومات عربية وإسلامية، وتوالي نهوضها في حرب الدم الذي سيهزم السيف حتما، ويتقدم فدائيوها لتنفيذ أجرأ العمليات، وبما ملكت الأيدي من حجارة ورصاص ومفاجآت الدهس المقابل، وعلى نحو ما جرى من «الحمرا» في الأغوار إلى قلب تل أبيب، وكان لافتا وإن لم يكن جديدا، أن منفذ عملية الدهس في تل أبيب، كان فلسطينيا من قرية كفر قاسم، القرية نفسها التي شهدت مجزرة شهيرة لأهلها قبل نحو سبعين سنة، كان فدائي كفر قاسم الجديد، يستلهم المدد من صمود وعذاب المرابطين والمرابطات في المسجد الأقصى والقدس المحتلة، فالمسجد الأقصى معلم ديني مقدس نعم، لكن المسجد والقدس صارا عنوانا للهوية الفلسطينية الجامعة الجديدة، التي وحدت الشعب الفلسطيني في الميدان، وأزالت الحواجز الافتراضية بين فلسطين المحتلة قبل 1967 وبعدها، ومزجت الساحات عبورا لما سمّته «إسرائيل» بالخط الأخضر، وأعادت قضية الشعب الفلسطيني إلى مداراتها الأصلية، ولم يعد مقطع النزاع والصراع محصورا في «
غزة والضفة»، ولا في كلام بلا معنى عن إقامة كيان فلسطيني على الأراضي المحتلة بعد عدوان 1967، أي بالحد الأقصى على 22% من جغرافيا فلسطين التاريخية، بل عاد الهدف إلى اتساعه الأصلي، أي إلى تحرير فلسطين كلها من النهر إلى البحر، وإقامة دولة ديمقراطية جامعة، فلسطينية الهوية بأغلبيتها السكانية المطردة، البالغة إلى غايتها قبل أواسط القرن الجاري بإذنه تعالى، ولم يأت التحول في سيرة الكفاح الفلسطيني الحاضر من فراغ، بل من تغيرات تراكمت، وصنعت الروح الجديدة، بينها أنه لم يعد من أفق لفكرة إقامة دولتين على أرض فلسطين التاريخية، ولا حتى لإقامة مفاوضات أو تسويات قريبة مع كيان الاحتلال، بعد تضاعف نفوذ اليمين الفاشي الصريح في تكوينه، وسيادة الأوهام «المسيحانية» والتوارتية في صفوفه، والرغبة في خوض معركة شاملة لطرد الفلسطينيين جميعا من ديارهم جميعا، وإقامة ما تسمى «إسرائيل الكبرى»، التي تضم فلسطين والأردن وأجزاء من سوريا ولبنان والسعودية، على نحو ما أظهرته خريطة قدمها بتسلئيل سموتيريتش زعيم «الصهيونية الدينية»، وعلى نحو ما يجاهر به رفيقه البلطجي إيتمار بن غفير زعيم حزب «العظمة اليهودية»، والاثنان هما الوزيران الأقوى في حكومة نتنياهو الراهنة، ودفعا الأخير إلى الموافقة على إنشاء قوة «الحرس الوطني» الجديدة، وعلى نشر السلاح بين 500 ألف مستوطن في القدس والضفة الغربية، وعلى خطط للقفز بعدد المستوطنين إلى المليون على الأقل، وتهيئة المسرح لحرب «خلاصية» أخيرة، يدفعهم إليها الفزع من تكاثر ملايين الفلسطينيين فوق أرضهم التاريخية، وتخطي أعداد الفلسطينيين لأعداد اليهود المجلوبين إلى الكيان، فوق انتشار الحضور الفلسطيني على الخرائط، ووحدته الكفاحية النامية على الصعيد الشعبي، والتقارب المتزايد في الحس اليومي والتحركات العفوية، وعلى نحو جعل «أم الفحم» و«اللد» و«الناصرة» و«سخنين» و«كفر قاسم» و«بير سبع» وغيرها، كأنها أخوات توائم في الهم اليومي نفسه، لما يجري في «نابلس» و«أريحا» و«جنين» و«الخليل» و«غزة» و«طولكرم» وغيرها، وعناوين تجمعها نشرة الأخبار اليومية نفسها، وعلى طريقة ما جرى ويجري متصاعدا متكاثفا في السنوات الأخيرة بالذات، ومنذ أن اجتمع الفلسطينيون في يوميات حرب «سيف القدس» عام 2021، التي جرت على إيقاع القدس ومسجدها الأقصى، ولم تكن مفاجئة أبدا هذه التطورات، بل سبقتها تمهيدات توالت عبر العشرين سنة الأخيرة، بعد توالي أمارات فشل اتفاقية «أوسلو» وأخواتها، وتفجر الانتفاضة الثانية على إيقاع اقتحام أرييل شارون للمسجد الأقصى، والطفرات في معدلات الاختلاط والتوازي الكفاحي الشعبي الفلسطيني على جانبي «الخط الأخضر» إياه، ثم تواري سيرة المفاوضات كلها، وتباعد الشقة بين «سلطة أوسلو» وشعبها الفلسطيني الجديد، وتدافع مواسم الصحوة الذاتية لأجيال الفلسطينيين الجديدة، وتنامي مشاعر الخيبة والتمزق في قلب الكيان الإسرائيلي، وعجزه رغم التفوق العسكري عن ضمان الأمن، أو عن تشكيل حكومات تحظى برضا واسع، وحلول حكومات المدى القصير العابر، وإجراء خمس دورات انتخاب مبكر في أربعة أعوام، ثم الهروب للأمام بتشكيل الحكومة الراهنة، الأشبه بتشكيل عصابي من أرباب السوابق، الذين يخوضون حربا مع شعب تستحيل هزيمته، هو الشعب الفلسطيني في طبعته الجديدة، الموحد الراسخ فوق أرضه، المتعلم من تجاربه وحتى من نكباته، المبدع المجدد في أساليب كفاحه، القادر على ردع إسرائيل، رغم فوارق السلاح الهائلة، وهو ما بدا ظاهرا في «رمضان» الفلسطيني بامتياز هذا العام.
وتأملوا ما جرى في الصدام الأخير، فقد واصلت قوات الاحتلال ومستوطنوها ومتطرفوها حروبهم الهمجية على المسجد الأقصى، وضاعفوا مظاهر البطش والعصف، وإخراج المصلين والمصليات من باحاته ومساجده، لكن شباب فلسطين مع النساء والشيوخ والأطفال، كانوا يعودون بعد كل هجمة إلى صلوات الفجر والجمعات، وبحشود جبارة من كل نواحي فلسطين كل صباح ومساء، وإلى أن أرغموا العدو على وقف اقتحامات الأقصى في العشر الأواخر من رمضان، ورد الفلسطينيون في «غزة» بقصفات الصواريخ، وردوا من الجنوب اللبناني بعشرات الصواريخ على مستوطنات شمال فلسطين المحتلة، واستنفرت إسرائيل قواتها كالعادة، وعقدت اجتماعات مجالسها الوزارية الأمنية المصغرة والمكبرة، وبدأ تنفيذ الردع الإسرائيلي المفترض، وسط مخاوف من حرب مضافة لتدمير «غزة»، وكانت المفاجأة، أن الرد الإسرائيلي جاء هزيلا، وفي صورة غارات ضالة على أراض فارغة غالبا، في «غزة» وفي جنوب «صور» اللبنانية، لم تسفر عن شهيد فلسطيني أو لبناني واحد، ليس لأن «إسرائيل» فاجأها مخاض الرحمة من تحت جذع نخلة، بل لأنها تخاف من قسوة رد معاكس، لم تعد تعرف من أين يجيئها على جبهات أربع متناغمة، جبهة القدس والضفة، وجبهة الداخل الفلسطيني، وجبهة الشمال الفلسطيني من جنوب لبنان، وجبهة غزة في الجنوب، فقد تآكلت قوة الردع الإسرائيلي كما لم يحدث أبدا من قبل، وأصابها الشلل والخرس الجبري حتى إشعار آخر .
(عن صحيفة القدس العربي)