تواطأت العديد من دول العالم الثالث مع الولايات المتحدة في حربها
على دول المعسكر الاشتراكي، خلال حقبة الحرب الباردة، وكان ذلك خوفا مما كان يسمى
بالمد الاشتراكي ـ الشيوعي، الذي بلغ ذروته في ستينات وسبعينات القرن الماضي، ولما
تسيَّدت أمريكا الساحة الدولية منفردة، وصارت القطب الأوحد كشرت عن أنيابها حتى في
وجوه من شاركوها في جهد تفتيت دول الكتلة الاشتراكية.
تدور حاليا رحى حرب ضروس على أرض أوكرانيا بعد تعرضها لغزو روسي،
وتدفقت التبرعات العينية على أوكرانيا في هيئة دبابات وصواريخ وقذائف وطائرات بدون
طيار، ولكن بمنطق "ليس حبا في علِي ولكن كرها لمعاوية"، ولا شك في ان
روسيا هي البادئة بالعدوان، ولكن لا شك أيضا أن واشنطن هي من جعلت أوكرانيا
"مرشحة" للعدوان الروسي، بعد أن زينت للقيادة الأوكرانية أمر ضم بلدهم إلى
الاتحاد الأوروبي وحلف النيتو، في سياق إحكام الحصار العسكري على روسيا بضم السويد
وفنلندا أيضا إلى الحلف.
وتعرضت أوكرانيا للغزو الروسي، فاهتبلت الولايات المتحدة وحلفاؤها
الأوروبيون الفرصة، وجعلوا أوكرانيا وكيلا لهم في محاربة روسيا بغرض تحطيمها أو
تقزيمها، فلا تقف ندا للتحالف الغربي، بينما جميع الشواهد تشير إلى أن أمريكا
وبهزيمة روسيا على أرض أوكرانيا تريد توجيه رسالة إلى الصين، بأن مساعيها للتحول إلى
قطب منافس ستواجه بالردع العسكري، وهو نفس أسلوب الأم التي ذهبت إلى روضة الأطفال
وقالت للمعلمة: إذا ارتكب ولدي خطأ، عاقبي الطفل الجالس بالقرب منه وسيرتدع ولدي البغي..
والعدوان جزء من كيمياء الولايات المتحدة، فقد ولدت بالبغي
الأوروبي على سكان البلاد الأصليين، ثم هاجمت جارتها الجنوبية المكسيك (1846 ـ
1848)، وانتزعت منها تكساس وكاليفورنيا وما يعرف اليوم بالجنوب الغربي، ثم جاءت
الحرب العالمية الثانية فوجدتها أمريكا فرصة لتحطيم ألمانيا النازية والإمبراطورية
اليابانية، وفرض هيمنتها على دول غرب أوروبا، ثم انتشرت وبائيا في كل القارات،
وعملت على إجلاء الأوروبيين من مستعمراتهم لتحل هي محلهم، ثم غزت الفلبين وكوريا
الشمالية وفيتنام وكمبوديا ولاوس وغرينادا وكوبا وأفغانستان والعراق، وفي أفريقيا
وحدها وطأ جنودها أراضي تشاد والصومال والجزائر وبوركينا فاسو وموريتانيا ومالي
والمغرب والنيجر ونيجيريا والسنغال وتونس ويوغندا وكينيا وجيبوتي، وبلغ عدد الدول
التي تعرضت لغزو وغارات أمريكية ما بين عام 1812 وعام 1980 تسعة وستين.
ما ولغت الولايات المتحدة في دماء مواطني بلد ما، إلا وتعللت بأنها فعلت ذلك لنصرة الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة، وابتذلت بذلك تلك القيم السامية التي تناضل معظم الشعوب لتكريسها،
ومارست واشنطن أشكالا من الغزو الناعم لعديد البلدان وذلك بأن تولت
مخابراتها المركزية ترتيب انقلابات عسكرية واغتيالات قادت إلى تشكيل حكومات موالية
لها، ففي عام 1953 ارتكب رئيس الوزراء الإيراني المنتخب محمد مصدق
"خطيئة" تأميم النفط، فكان جزاؤه الإطاحة به والزج به في السجن، وفي
غواتيمالا ارتكب رئيسها أربينز جاكوبو خطأ مماثلا عندما بدأ في تطبيق سياسة
الإصلاح الزراعي ومنح فقراء المزارعين حصتهم من الأراضي، فتم الانقلاب عليه وإطلاق
يد شركة الفواكه الأمريكية بما يضمن بقاء غواتيمالا "جمهورية موز" في
بيت الطاعة الأمريكي.
ثم نالت الكونغو استقلالها من بلجيكا وجاء باتريس لوممبا في 1960
رئيسا للحكومة فيها، وكما مصدق الإيراني وجاكوبو الغواتيمالي فقد ارتكب لوممبا
خطيئة وضع ثروات بلاده المعدنية في أيد وطنية، فـ "هندست" المخابرات
المركزية الأمريكية انقلابا عليه بالتواطؤ مع بلجيكا وتمت تصفيته، وبعدها رتبت تلك
المخابرات اغتيال رفائيل تروخيو رئيس جمهورية الدومينيكان، ثم وفي عام 1963 أثبت
الرئيس الفيتنامي الجنوبي نغو دنه دييم أنه ليس أداة طيعة في يد واشنطن، لأنه رفض
الصدام مع حكومة فيتنام الشمالية الشيوعية، فمولت المخابرات المركزية عملية قتله.
وفي عام 1964 أوكلت المخابرات الأمريكية إلى رئيس الأركان في الجيش
البرازيلي همبيرتو برانكو مهمة الانقلاب على رئيس بلاده المنتخب جواو غولارت، بعد
الاشتباه في أنه يحمل فيروسات اشتراكية، ومهدت المخابرات للانقلاب بمظاهرات وأعمال
شغب مدفوعة الأجور، وبقيت البرازيل محكومة بالعسكر حتى عام 1985، ثم جاء الدور على
تشيلي عندما ارتكب شعبها خطيئة انتخاب رئيس حكومة (سلفادور أيندي) ببرنامج اشتراكي
صريح، واستشعرت المصالح الأمريكية في تشيلي خطر التأميم المرتقب، فقامت شركة
الاتصالات الأمريكية العملاقة ايه تي آند تي بتمويل انقلاب عبر عملاء المخابرات المركزية،
فكان ان استولى الجنرال أوغستو بينوشيه على الحكم بعد قتل الرئيس أيندي.
وما ولغت الولايات المتحدة في دماء مواطني بلد ما، إلا وتعللت بأنها
فعلت ذلك لنصرة الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة، وابتذلت بذلك تلك
القيم السامية التي تناضل معظم الشعوب لتكريسها، ولعل الرئيس الأمريكي الأسبق جورج
دبليو بوش هو أول من أفصح من حيث لا يقصد نوع الديمقراطية التي تبشر بها بلاده،
فبعد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، وافتضاح أكذوبة أن ذلك كان ضروريا لأن
العراق يملك أسلحة الدمار الشامل، حاول بوش تبييض وجه حكومته عندما أعلن عن تخصيص
25 مليون دولار لنشر الديمقراطية في العالم العربي: يعني مليون و130 ألف دولار لكل
دولة، وبهذا يكون بوش قد صرح بأنه يريد للعرب ديمقراطية "رخيصة"
وبالأحرى عديمة القيمة.