خلال السنوات القليلة الماضية، انصبّ تركيزي في دراسة
تركيا على
السياسة الخارجية والدفاعية. ولأسباب عديدة، لم أرد إعطاء السياسة المحلّية مساحة
كبيرة من عملي على المستوى الشخصي والمهني، لذلك لم أكتب في الموضوع إلا بقدر ما
يرتبط بالبعد الخارجي أو الدفاعي والأمني. خلال تلك الفترة، شهد المجتمع التركي
حالة شديدة من الإستقطاب السياسي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأتراك في الخارج.
وعادة ما يأتي هذا الإستقطاب مصاحباً لعوارض أخرى من بينها التصلّب الأيديولوجي،
والتصنيف، والإختزال، والتنميط، إلى غير ذلك من السمات السلبية التي عادة ما تحجب
العقل وتغذي الغريزة وتؤدي إلى التخندق في متاريس ضيّقة.
لم يتغيّر الوضع الآن، لكن هناك
انتخابات في 14 أيار (مايو) المقبل
هي الأكثر تعقيداً وأهمّية في تاريخ تركيا الحديث، وهو ما قد يدفعني باتجاه تخصيص
بعض الوقت للسياسة المحليّة من الآن وصاعداً. البعض يقول بأنّ وصف هذه الانتخابات
بالمهمّة والمصيرية لا يخلو من "الكليشيهات" المعتادة، فكل انتخابات في
تركيا هي انتخابات مهمّة أو مصيرية الى ان تنتهي. هذا ما دأبنا على الاستماع إليه
في كل إستحقاق إنتخابي في تركيا. وإن كان هذا التوصيف فيه شيء من الصحّة، إلا أنّ الانتخابات
المقبلة ستكون بالفعل الأكثر أهمّية على الإطلاق. أمّا فيما يتعلق بكونها مصيرية،
فليس أقلّه لأنّها قد تحدد مصير حقبة بالكامل، وتغيّر النظام السياسي، وتضع حداً
للسياسة الخارجية المستقلة للبلاد.
ما يُميّز هذه الانتخابات هو أنّها تتضمن الكثير من المعطيات
والعناصر المتحرّكة التي تجعل من توقّع نتائجها أمراً محفوفاً بالمخاطر وينطوي على
ما يمكن تسميته بـ"ضرب المندل" أكثر من كونه إستقراءً للنتائج. بخلاف
المرات السابقة، لدينا تحالف واسع من الكتلة الصلبة من المعارضة التي لا يجمعها
شيء باستثناء الرغبة في الإطاحة بأردوغان. هذا النموذج تمّ تجربته على نطاق مصغّر
قبل حوالي 4 سنوات في الانتخابات البلدية، ونجح في أماكن مهمة في المدن الكبرى.
لقد شجّع هذا النموذج المعارضة وأعطاها الأمل في إمكانية تحقيق الفوز.
ما يُميّز هذه الانتخابات هو أنّها تتضمن الكثير من المعطيات والعناصر المتحرّكة التي تجعل من توقّع نتائجها أمراً محفوفاً بالمخاطر وينطوي على ما يمكن تسميته بـ"ضرب المندل" أكثر من كونه إستقراءً للنتائج.
أربعة مرشّحين للإنتخابات الرئاسية هم رجب طيب أردوغان، وزعيم
المعارضة كمال كيليتشدار أوغلو، ومحرّم إنجه، وسنان أوان. المرشّحين الأخيرين قد
يشقّان صفوف المعارضة على الأرجح وهو ما يفسر الجهد الكبير الذي بذلته المعارضة
لإقناع محرّم إنجه بالإنسحاب من السباق الرئاسي. وفق بعض التقديرات، فإنّ الرجلين
قد يسحبان ما نسبته حوالي 5% من أصوات المعارضة. وعلى الرغم من أنّ النسبة تبدو
صغيرة، إلاّ أنّ كل صوت محسوب في هذه الانتخابات. إذا ما حصل ذلك، فسيمنع مرشّح
المعارضة الرئيسي من إمكانية الفوز في الجولة الأولى (على الأقل هذا ما يطمح
إليه)، وسيدفع باتجاه جولة ثانية على الأرجح.
بعض استطلاعات
الرأي ك"متروبول" تشير إلى أنّ كيليتشدار أوغلو يتقدم بفارق حوالي نقطتين ونصف عن أردوغان في إستطلاعات شهر مارس، لكن أعضاء
من حزب العدالة والتنمية من بينهم نائب رئيس الحزب احسن إحسان يلماز يدّعون أنّ
أردوغان لديه حوالي 53% من الأصوات. إذا إستطاع الرئيس حصد هذه النسبة، فسيحسم ذلك
الصراع لصالحه من الجولة الأولى، وربما هذا ما يتمناه، لكنه إذا فشل في ذلك،
فسنشاهد حينها جولة ثانية من الانتخابات، وهو ما يتوقعه كثيرون حتى هذه اللحظة. في
مثل هذا السيناريو، سيكون الإستقطاب على أشدّه و1% من الأصوات قد يكون كافياً
لتغيير الموازين.
تحتل الانتخابات البرلمانية مرتبة أدنى بسبب طبيعة النظام السياسي
الرئاسية. لكنّها انتخابات مهمة أيضاً إما لكسر التراجع الحاصل في شعبية حزب
العدالة والتنمية منذ العام 2015 وتصحيح الوضع، وإما لتأكيد الخط العام المستمر
منذ ذلك الوقت. فوز حزب العدالة والتنمية في البرلمان سيكون امراً مهماً إن حصل
بالتوازي مع الفوز بالانتخابات الرئاسية، لكن الخسارة ليست كارثة كبرى اذا ما فاز
الرئيس بالرئاسة حينها. يمكن لبرلمان تحتل المعارضة فيه الأغلبية أن يسبب بعض
المشاكل للرئيس لكنّه لا يمكنه أن يمنعه أو يقيد صلاحياته.
ماذا إذا خسر حزب العدالة والتنمية الانتخابات الرئاسية؟ سيطلق هذا
السيناريو على الأرجح الخطّة (ب). أي محاولة للتعرّض لأردوغان من قبل المعارضة
(التي ستصبح السلطة حينها) سيُحفّز على الأرجح جمهوره ومحيطه وأنصاره للدفاع عنه.
قاعدته الشعبية لن تكون بسيطة وإن خسر، وهو ما يعني أنّه قد يسبب معضلة للسلطة،
وإذا ما أضيفت هذه المشكلة إلى المشاكل التي تحملها المعارضة في بذورها، فقد يتسبب
ذلك في حصول انتخابات مبكرة يحاول أردوغان من خلال استعادة المبادرة.
السيناريوهات مفتوحة على كل الإحتمالات. كل هذه الفرضيات تعني أنّ
الانتخابات المقبلة ستكون الأحمى وطيساً على الإطلاق. بعض المسؤولين الأتراك يعتقد
أنّ نسبة المشاركة في هذه الانتخابات قد تصل إلى حدود 90%. بغض النظر عمّا إذا كان ذلك سيصح أم لا،
التوقّع في هذه المرحلة صعب، لكن الأمور قد تبدو أوضح كلّما اقتربنا من الموعد
النهائي، ولن يخلو المشهد على الأرجح من مفاجآت لاحقاً.