(آفان تيتر)
1- هذا المقال ليس
عن شيء.. إنه عن كل شيء، ويمكنك أن تكمل الوصف فتقول إنه عن كل شيء.. في كل مكان..
في الوقت نفسه.. دفعة واحدة، والإشارة لعنوان الفيلم الفائز بالجائزة الكبرى
للأوسكار هذا العام.. إشارة مقصودة ولها توابع في مقالات تالية.
2- كلمة
"بزنططت" الواردة في العنوان هي اجتهاد شخصي لتلخيص تعبير "حولت
حياتنا إلى حالة بيزنطية"، كأن نقول: مصّرَت أو فرنست أو أمركت أو لوّثَت..
إلخ، والمفهوم أن المقصود هو "عملية التحول من.. إلى.." وليس استخدام
الكلمة كفعل ماض بسيط.
3- يتضمن المقال إشارة إلى آراء ومعلومات
وأسرار من دون ذكر أو شرح أو توضيح، تطبيق لمبدأ قديم يحكم فن القول العام: ليس كل
ما يُعرف يُقال.
4- كما قلنا في التنويه رقم الواحد فإن
المقال ليس عن فيلم الشريكين "دانيالز"، ولا عن انتخابات نقابة
الصحفيين، ولا عن السيسي وأمه الحنون، ولا عن الأستاذ محمد أنور السادات ولا عن
الدكتور حمزة زوبع، ولا عن شيء، مع أنه عن كل هذا وأكثر.. عن كل شيء..
(هذا وأكثر)
ناقشني صديق مثقف في نتيجة
انتخابات نقابة الصحفيين مستخدما
تعبيرات: مفاجأة.. زلزال.. انتصار كاسح.. هزيمة النظام.. وسألني مستثمراً مناخ
الفرحة "الانبهارية": هل ممكن يحصل حاجة في انتخابات الرئاسة الجاية؟
كنت قد كتبت تهنئة بعنوان: "الأمل موجود" عن
رمزية هزيمة ما أسميته "المرشح الميري"، ويبدو أن التدوينة تورطت دون
ذنب في حالة المبالغة والتضخيم التي اصابت كل فعل في حياتنا، فخرج الحديث عن
"الأمل" من التبشير والتحفيز إلى نوع من الميتافيزيقا والتغني بالأمجاد
وسلوك "فاطنة اللبانة" التي كسرت وعاء اللبن، بعد أن كسرت قواعد الواقع
بأحلامها السائلة، فقد استرسل الصديق في حديث الأمل الذي يجعل من "انتصار
نقابة الصحفيين" نقطة التحول الديمقراطي العظيم للانتصار في معركة الرئاسة
وهزيمة السلطة بالصندوق.
سألت الصديق: هل خطر في بالك أن يكون النظام سعيدا
مثلنا بنتيجة الصحفيين؟
- كيف؟
* بقليل من الفهم فإن النتيجة تصب في مصلحة النظام (وليس
المواطن هذه المرة).. ألم يبعث الخبر نوعا من الأمل والفرحة والانتعاش؟.. ألا يوحي
بأن هناك فرجة ديمقراطية وعدم تزوير؟.. ألا يدخل ضمن "باكيج الجمهورية
الجديدة": إلغاء الطوارئ.. وثيقة حقوق الإنسان.. الحوار الوطني.. إلى آخر
الأكاذيب جميلة الأسماء قبيحة الأفعال؟..
قال: هل تقصد أن نتيجة الانتخابات مؤامرة ومقصودة من
جانب النظام؟
* لماذا نتطرف في تقييم أي فعل ونحبسه في "منطقة
أحادية"؟.. لقد أعجبتني إدارة المعركة من جانب تيار الاستقلال في نقابة
الصحفيين: النقيب الأسبق يشارك في قيادة معركة لصالح عضو سابق في مجاله، والصحفيون يظهرون عزما على الاختيار الحر المضاد
للتوجه الرسمي، ثم تأتي النتيجة بانتصار ديمقراطي للجميع: المستقلون والدولة
ومرشحها، وتصدر تصريحات جميلة عن
الديمقراطية والنزاهة وهذا يهنئ ذاك، ويلتئم شمل
الجماعة الصحفية تحت رئاسة نقيب لكل الصحفيين من هذا التيار أو ذاك.. كلام جميل
ومعركة حلوة لكنها لن تغير من واقع المهنة وواقع السياسة إلا ما غيرته الجمهورية
الجديدة في الجمهورية القديمة: الكلام المتداول المسموح به سلفا.
قال الصديق حائرا: هل هي معركة جيدة وانتصار أم لعبة
أم استكمال للحوار الوطني أم..
قلت: هذا وأكثر.. ولهذا التعبير قصة طويلة في فهم
السياسة وأحوال الحياة في هذه المرحلة: (هذا وأكثر) وهو تعبير لا يختلف من الناحية
الفلسفية عن "كل شيء.. في كل مكان.. في..".
قال: لماذا لم تكتب هذا الكلام في تعليقك؟
قلت: هناك أشياء مشكوك فيها، فمن الواجب ألا نقولها،
وهناك أشياء نعرفها ومن اللياقة ألا نقولها، وإذا قالها غيرنا فمن المعيب أن
نرددها.
قال: تقصد ما قاله الدكتور زوبع للتقليل من انتصار
الصحفيين.
قلت: لقد قال الأستاذ المعارض أنور السادات كلاما
جميلا عن الأمل يشبه ما كتبته، وقال الأستاذ المعارض حمزة زوبع كلاما يشبه ما فكرت
فيه ولم أكتبه، وتريث آخرون في المنطقة الوسطى مفضلين تجنب الأقوال وانتظار
الأفعال، وكما اتفقنا فإنني أفكر في كل هذا وأكثر، فكل شيء جائز حتى نتبين مصير
القطة.
- قطة؟!.. أي قطة؟
(عمر سليمان حي؟.. أم ميت؟)
بعد إعلان وفاة عمر سليمان مدير الاستخبارات
المصرية
ونائب الريس مبارك، تصاعدت أصوات كثيرة تؤكد أن سليمان لا يزال حياً، وتم نشر بعض
الصور تؤكد ذلك، وتشكلت حملة من المؤمنين بعودة "الوزير المحتجب" وحددت
موعدا لرجوعه إلى مصر وقيادته للحراك السياسي، ووصل الجدل بين الطرفين (من يقول
بموت سليمان ومن يؤكد وجوده) إلى صراع ونقاشات بيزنطية لخصها أحد الظرفاء بنشره
صورة لمدير الاستخبارات المخيف وتحتها تعليق: "المرحوم عمر سليمان ربنا يبارك
في عمره ويديله الصحة"..
طبعا فهمتم أن التعليق الظريف يشير إلى حالة العبث
ويسخر من المتصارعين (سليمان.. حي؟ أم ميت؟).
لكن التعليق لا يتضمن السخرية والعبث فقط.. هذا وأكثر.
فإلى جانب الهزل يوجد جانب علمي وفلسفي نتج عن مناقشات
عميقة بين اينشتاين وشرودنجر قبل أكثر من قرن، والحكاية تستحق استعادة القليل
وإهمال الكثير من مناقشات العالمين الحائزين على نوبل.
كان ارفين شرودنجر فيزيائيا متمردا بنكهة فنية
وفلسفية، ولما ظهرت ضجة "فيزياء الكم" وتورط فيها أينشتاين بمقاله
الشهير "إن الله لا يلعب النرد"، جرت مناقشات ومراسلات طويلة بينه وبين
عدد من العلماء، كان من بينهم شرودنجر، وكان يعاني في تلك الأيام من مشاكل
أكاديمية وعائلية ومجتمعية ودينية بسبب ارتباطه علنا بامرأتين: زوجته آني وعشيقته
هيلدا، وقد كشف في مذكراته بعد ذلك، أن "الثنائية العاطفية" أدت إلى
تعدد لا نهائي وتشظي في العلاقات النسائية، وقد شغلتني الحياة العاطفية لشرودنجر واستخدامها
كمدخل نفسي لتفسير مراسلاته مع أينشتاين عن القطة، وحكايتها ببساطة شديدة:
افترض شرودنجر أنه وضع قطة في صندوق مغلق ومعها مادة
قاتلة، احتمالات وصولها للقطة بنسبة 50 في المئة، ثم وجه سؤاله المحير: أنت الآن تقف
أمام الصندوق المغلق وعليك أن تجيب: هل القطة حية أم ميتة؟
بعد نشر المعضلة الفكرية تعدد الإجابات العلمية والفلسفية،
أولها اكتفى بالاختيار الحاسم لطرف من ثنائية: حية أم ميتة؟ وهو اختيار بسيط يتم
حسمه بمجرد فتح الصندوق ومعرفة الحالة التي صارت عليه القطة، وهو اختيار أحادي
يشبه الفوز في الانتخابات بالصندوق حسب قاعدة النصف + 1 بصرف النظر عن حالة الـ49
في المئة التي خرجت من المشهد!
لكن هناك من وصل بالأحجية الفلسفية إلى آفاق أبعد،
فهناك من قال: طالما أن الصندوق مغلق فإن القطة حية وميتة في الوقت نفسه، وقال
آخرون: إن اختلاف آراء العلماء الواقفين أمام الصندوق المغلق ستقودنا إلى وجود قطة
حية في عقل من يصدق أنها حية وقطة ميتة في عقل من يقول إنها ماتت، لكن مصير القطة
نفسه يظل غامضا طالما ظل الصندوق مغلقاً، وبالتالي فإن "حالة الإغلاق"
تؤدي بالضرورة لانقسام الآراء، وتعدد العوالم بحيث يصبح العالم "أكوانا
متوازية" تحدث فيها أفعال متضاربة في نفس الوقت، والآن أخرج القطة من الصندوق
وضع مكانها انتخابات الصحفيين أو الأحداث الكبرى التي عشتها أو العالم كله فماذا
ستجد؟
انتخابات الصحفيين انتصار للأمل في التغيير..
الانتخابات حيلة تجميلية رتبها نظام الجمهورية الجديدة، عمر سليمان حي.. عمر
سليمان ميت، السيسي بطل الإنجازات.. السيسي فاشل، يناير ثورة.. يناير مؤامرة، 30
يونيو ثورة.. 30 يونيو انقلاب، الحياة حلوة.. مين اللي قال إن الحياة حلوة؟!..
تحول مثال شرودنجر إلى "نقطة مركزية" يطوف
حولها العلم جنبا إلى جنب مع الفلسفة، كما يجتمع الموت والحياة في قطة واحدة، وهذه
الحالة الغائمة المتناقضة هي التي رأى فيها شرودنجر نفسه، فهو عالم عظيم ومتأمل
عميق وذئب اخلاقي يمضغ النساء كحبوب للاسترخاء والتنشيط العقلي.. عارض النازية
واتخذ منها موقفا ثم اعتذر ورضخ، ثم عاد فهرب وعاش في المنافي، هذا وأكثر.
(ذلك هو السؤال)
أشك أن مقالا كهذا يعجب الكثيرين، لذلك أكتبه: لأنني
لم أتأكد بعد من استيائكم منه.. فقط أشك، والشك في الفكر الطيب يتم تفسيره لصالح
المتهم، لذلك أدعو لتقبل رأي الدكتور زوبع بنفس الدرجة التي أشجع بها بيان الأستاذ
السادات، وإذا رأيتم مشكلة في الجمع المسالم بين نقيضين، فأنتم بحاجة لتحسين
مزاجكم الديمقراطي وقدرتكم على قبول التعدد في
الرأي ما دمنا نتحدث عن أوضاع في
صندوق مغلق لا يملك أحد حسم مصير ما بداخلها في كلمة واحدة وأحادية. وبالمناسبة أضرب
لك مثلا لطيفا وعجيبا عن قبول التناقض حتى في العلم بمنطق احترام الجهد واستحقاق
المكافأة عليه:
جلس عالم فيزياء اسمه جوزيف طومسون يشاهد ابنه جورج وهو
يحصل على جائزة نوبل لإثباته أن الإلكترونات عبارة عن موجات، والمفارقة العجيبة
هنا أن جوزيف كان قد حصل على جائزة نوبل قبل ابنه لإثباته أن الإلكترونات عبارة عن
جسيمات وليست موجات!
ولا أمانع إن شجعت هذه المفارقة أحداً منكم ليثبت أن
الالكترونات جسيمات وموجات في الوقت نفسه، أو بالتبادل حسب تغير الظروف، وهي ظاهرة
صارت معروفة نسبيا في العلم والفلسفة الحديثة معا.
لا شك أن طومسون الأب كان مندهشاً، لكنه لم يعتبر
الجائزة عن امتلاك الحقيقة، بل عن الجهد العلمي وتوسيع مساحة الكشوف العلمية، فما
يحدث كان يجب أن يحدث، أما تعريفه وهويته فهو مشروط باتجاهه، فهذا الحدث ثورة في
حال كذا.. وانقلاب في حال كذا.. وهذا السيسي "صاحب عقلية هندسية متميزة"،
و"الجيش رجالة من دهب" في حال كذا.. وخونة وانقلابيون في حال كذا..
رأيك ليس نهائيا، ولا يصح أن تصادر ما يخالفه، ومع ذلك
يمكنك التمسك به من دون أن تمنع غيرك من التمسك برأيه، لأنك ولأنه تقفان أمام
صندوق مغلق وتخمنان ما بداخله، فإذا انكشف لك ما بداخل الصندوق فسوف تنقلب أنت
نفسك على رأيك ليصبح "السيسي المؤمن صاحب التكون العسكري المتميز" (اللي
أمه حنينة ومراته محجبة) مجرد جنرال انقلابي ويصبح "الرجال اللي من ذهب"
مجرد عسكر فاسدين، أو تتحول في نظرك 30 يونيو من ثورة شعبية إلى انقلاب سافر وقبيح
على 25 يناير..
كل الحكاية أنك فتحت صندوقا ما، وتعرفت على ما بداخله،
ومن هنا تأتي عظمة السؤال الجيد والجاد، وأهمية دعم التعدد في الرأي والإجابات، وإظهار
الاحترام بين المختلفين حتى تتبين الحقائق، فنتفق عليها ونختلف في سؤال جديد، أما أن
نستمر في طرح أسئلة من نوع: الملائكة إناث أم ذكور؟.. ثورة أم انقلاب؟.. فهذه حالة
"البزنططة" التي تفكك المجتمعات وتسرق الزمن وتصرف الناس عن فتح
الصناديق المغلقة وتجاوز الأسئلة التي يجب حسمها بالمعرفة وليس بالتخمين، حتى لا
ندور في دوائر مغلقة ونواصل التكهنات ونستسهل الشائعات بدلا من السعي للحقائق
الممكنة وفتح المجال لألغاز جديدة وأسئلة جديدة في رحلة كفاح متصلة اسمها الحياة..
(من وضع السم للقطة؟)
بالمناسبة يحضرني سؤال من خارج الصندوق، ولا أحسبه
سؤالا بيزنطياً:
من الذي وضع السم للقطة وأغلق الصندوق؟ وهل كان يقصد
توريطنا في هذه
الثنائيات المهلكة: ثورة وانقلاب، أهلي وزمالك، عروبة وإسلام، يمين
ويسار، حداثة وتراث، صعيدي وللا بحيري، أمك وللا أبوك؟!
لا مانع من التأمل الحميد، ربما يساعدنا في التعرف على
المحتربين صناع التفتيت ومشعلي الحرائق..
رمضانكم رحمة، فكونوا لطفاء يلطف بكم اللطيف.
tamahi@hotmail.com