أظهرت بيانات أوروبية ارتفاع نسبة المهاجرين من
مصر عبر المراكب المتهالكة، باتجاه
أوروبا، وسط تساؤلات حول الأسباب التي تدفعهم للمخاطرة بحياتهم وركوب البحر في ظروف بالغة الخطورة.
وكشف تقرير لـ"
ميدل إيست آي"، ترجمته "عربي21" أن المصريين يشكلون الجنسية الأكثر شيوعاً من بين من يعبرون وسط البحر المتوسط، بنسبة تصل إلى عشرين بالمائة من الجنسيات التي اتخذ حاملوها هذا الطريق على مدى الأشهر الخمسة الأولى من عام 2022. وفق بيانات وكالة الحدود التابعة للاتحاد الأوروبي.
في شهر شباط/ فبراير من عام 2022، وصل عدد المصريين الواصلين إلى إيطاليا ذروته، حيث كانوا يعدون واحداً من بين كل ثلاثة تطأ أقدامهم شواطئ إيطاليا.
ولفت الموقع البريطاني إلى أن
الفقر المدقع هو العامل المشترك في حكايات عدد من المهاجرين، حيث لم تبق أزمة تكاليف المعيشة على شيء من شبكة الأمان الضعيفة أصلاً في مصر، ما نزل بستين مليون مصري إلى ما دون خط الفقر، وألجأ الكثيرين منهم إلى أن يتجهوا نحو الحدود مع ليبيا، قبل أن يغادروا بالقوارب نحو سواحل أوروبا الجنوبية.
وشدد الموقع على أن
العنف عامل مهم في تحفيز المهاجرين على الخروج، إذ يوثق مركز رصد النزوح الداخلي ألف حالة جديدة من النزوح بسبب العنف في مصر.
ووثقت منظمة هيومان راتيس واتش، انتشاراً واسعاً لحالات الإخفاء القسري والإعدام خارج إطار القانون، كجزء من الأساليب التي تنتهجها وكالة الأمن الوطني في "الحرب على الإرهاب".
في شمال سيناء، نجمت الحرب التي تدور رحاها منذ ما يقرب من ثماني سنين بين القوات المسلحة المصرية وتنظيم ولاية سيناء، عن إزهاق أعداد هائلة من الأرواح، وعن نزوح ما يقرب من مائة ألف من السكان الذين يبلغ تعدادهم 450 ألف نسمة.
وتاليا نص تقرير "ميدل إيست آي" الذي أعدته الكاتبة كاثرين هيرست:
وجد روماني، مورد الخشب السابق في مصر، نفسه يستقل قارباً لا يصلح لشق عباب البحر، طوله لا يتجاوز الثمانية أمتار، ومعه 48 آخرون، عندما عبر أخطر حد بحري في العالم: وسط البحر المتوسط.
بعد أن خسرت تجارته وباءت بالفشل أعماله، وهو يتحمل مسؤولية إطعام عائلة من خمسة من الأطفال، باع كل شيء كان يملكه قبل أن يعبر الحدود إلى ليبيا، ثم يخرج إلى البحر.
تحدث موقع ميدل إيست آي مع روماني ومع اثنين من الرجال الذي تمكنوا أخيراً من إتمام العبور الخطير من مصر إلى ليبيا ثم من ليبيا إلى إيطاليا.
تحدثوا من داخل مأوى صغير للمهاجرين في ميلانو من خلال شكري، أحدالمترجمين، وهو نفسه مهاجر مصري.
قال روماني متحدثاً لموقع ميدل إيست آي: "مرت بنا لحظات كانت فيها الأمواج ترتفع مثل الجبال، وكاد الناس يفقدون الأمل... فراحوا ينهمكون في الدعاء. وها أنذا الآن في ملجأ أبحث عن عمل... لابد أن أعمل حتى أحصل على المال وأرسله إلى أطفالي. لا يمكنني العودة، على الأقل ليس قبل أن أضمن معيشتي".
كان الرجلان الآخران، محمد وأحمد، قد التقيا في مركز اعتقال في امساعد بليبيا، في شهر أغسطس/ آب من عام 2022. كلاهما جاءا من مدينة أبنوب على الضفة الشرقية لنهر النيل في جنوب مصر. وقال محمد إنه هارب من ثأر قبلي، حيث تشيع الخلافات والنزاعات الدموية في الجنوب الريفي الذي يعاني من الفقر.
تمكن محمد من الحصول على تأشيرة دخول إلى ليبيا، بينما سلك أحمد طريق التهريب وتجاوز الحدود مشياً على الأقدام.
لا مجال للاستراحة في الجانب الليبي من الحدود، حيث الطرقات خارج القانون، والأجواء تزخر بأصوات الطلقات النارية، ويتربص بالناس خطر الخطف على مدار اليوم والليلة. لم يجد محمد بداً من أن يلقي بنفسه في أحضان شبكة للتهريب، عسا أن تمكنه من عبور القناة.
قبل مغادرته، احتجز محمد لمدة ثلاثة أشهر داخل مركز في مدينة امساعد على الحدود بين ليبيا ومصر، يديره المهربون، وكان ذلك هو المكان الذي التقى فيه بأحمد. كان الانتظار مؤلماً جداً، تتخلله المخاوف المستمرة من تعرض المكان لمداهمات من قبل الشرطة.
بعد أشهر من الانتظار، استقلا قارباً من امساعد في جوف الليل. ومع طلوع الشمس أسفر النهار عن سفينة متهالكة طولها خمسة وعشرون متراً، بالكاد يتسع سطحها المتعفن لمن زج بهم ليحتشدوا فوقه، والذين بلغ عددهم 620 شخصاً.
وبعد أن صاروا عند نقطة بعيدة في عرض البحر توقف محرك القارب عن العمل. وطالب بعض الركاب بالعودة، وأصر آخرون على المضي قدماً. اندلعت الشجارات بينهم، وأخيراً اتخذ القرار بالعودة لإنزال مائة من الركاب على السواحل الليبية.
يتذكر محمد ذلك قائلاً: "سادت حالة من الفوضى العارمة. كثيرون منا انتظروا شهوراً طويلة داخل مركز الاعتقال. كان الناس يصرخون، يقول قائلهم لا يهمني إن مت، لكني لن أغادر القارب".
ارتفاع أعداد المغادرين
حكايات هؤلاء الرجال ليست حوادث معزولة وإنما هي جزء من ظاهرة تتمثل في ارتفاع أعداد المصريين الهاربين من بلدهم عبر طرق التهريب، أولاً إلى شوارع ليبيا التي مزقتها الحرب، ثم عبر وسط البحر المتوسط على متن زوارق صغيرة متهالكة.
في شهر فبراير/ شباط من عام 2022، وصل عدد المصريين الواصلين إلى إيطاليا ذروته، حيث كانوا يعدون واحداً من بين كل ثلاثة تطأ أقدامهم شواطئ إيطاليا.
وبحسب ما صدر مؤخراً من بيانات عن وكالة الحدود التابعة للاتحاد الأوروبي، والتي تسمى فرونتكس، فقد كان المصريون يشكلون الجنسية الأكثر شيوعاً من بين من يعبرون وسط البحر المتوسط، بنسبة تصل إلى عشرين بالمائة من الجنسيات التي اتخذ حاملوها هذا الطريق على مدى الأشهر الخمسة الأولى من عام 2022.
هؤلاء الرجال الثلاثة الذين يجلسون أمام جهاز الآيفون داخل الملجأ في ميلانو هم من بين الأشخاص المحظوظين الذين تمكنوا بنجاح من تجاوز الحدود التي تشهد على مدار الساعة حراسة مسلحة مشددة، ثم نجحوا في عبور المياه الفتاكة وسط البحر المتوسط.
وبحسب مسح أجراه "آي أو إم" ما بين شهر ديسمبر/ كانون الأول من عام 2021 وشهر يناير/ كانون الثاني من عام 2022، فإن معظم المهاجرين المصريين في ليبيا جاءوا من الجزء الشمالي الشرقي من البلاد، وينحدرون بشكل رئيسي من محافظات المنيا وأسيوط والفيوم والبحيرة.
قضية الفقر المدقع هي المشترك في حكايات كل هؤلاء المهاجرين، حيث لم تذر ولم تبق أزمة تكاليف المعيشة على شيء من شبكة الأمان الضعيفة أصلاً في مصر، ما نزل بستين مليون مصري إلى ما دون خط الفقر، وألجأ الكثيرين منهم إلى أن يمموا بوجوههم تجاه الحدود مع ليبيا.
كما أن العنف عامل مهم في تحفيزهم على الخروج، إذ يوثق مركز رصد النزوح الداخلي ألف حالة جديدة من النزوح بسبب العنف في مصر.
ووثقت منظمة هيومان راتيس واتش، انتشاراً واسعاً لحالات الإخفاء القسري والإعدام خارج إطار القانون، كجزء من الأساليب التي تنتهجها وكالة الأمن الوطني في "الحرب على الإرهاب".
في شمال سيناء، نجمت الحرب التي تدور رحاها منذ ما يقرب من ثماني سنين بين القوات المسلحة المصرية وولاية سيناء، الفرع المحلي لتنظيم الدولة الإسلامية، عن إزهاق أعداد هائلة من الأرواح، وعن نزوح ما يقرب من مائة ألف من السكان الذين يبلغ تعدادهم 450 ألف نسمة.
"لا بد أنك محظوظ"
أحمد هو الشاب الأصغر سناً من بين الرجال الثلاثة الذين يقيمون في المركز، حيث لا يتجاوز عمره العشرين عاماً. مثله مثل كثير من المهاجرين، لم يجد بداً من اللجوء إلى عصابات التهريب حتى يتمكن من العبور إلى ليبيا، ودفع ما يعادل 150 دولاراً مقابل رحلة تستغرق خمس ساعات على الأقدام عبر الحدود المسامية.
تحدث حسين بيومي، الذي يعمل باحثاً في منظمة العفو الدولية، مع عدد من المصريين في ليبيا تمكنوا من القيام بنفس الرحلة، وكثير من هؤلاء هم من الشباب الصغار الذين قدموا من أفقر المحافظات في صعيد مصر.
قال حسين بيومي في حديث مع موقع ميدل إيست آي: "تحتاج لأن تكون محظوظاً جداً حتى تتمكن من إيجاد مهرب يوصلك إلى غرب ليبيا. تحتاج لأن تكون محظوظاً جداً حتى تتمكن من الحصول على ذلك النوع من المهربين الذين لن يبيعوك ويغدروا بك".
كثير من الرجال الذين تحدث معهم بيومي انتهى بهم المطاف في أسر عصابات المهربين، والذين يرتبط بعضهم بالجماعات المسلحة التي تشكل معاً ما يسمى بالقوات المسلحة العربية الليبية بقيادة خليفة حفتر.
يقول بيومي عن ذلك: "حدثوني عن تعرضهم للتعذيب، وعن احتجازهم في ظروف لا يمكن تصنيفها سوى بأنها إخفاء قسري وابتزاز. وبالطبع، فإن الغرض من التعذيب في العادة هو إجبار عائلات هؤلاء الشباب في بلدهم الأصلي على دفع الأموال فدية لهم".
لا يوجد بين مصر وليبيا سوى معبر رسمي واحد ووحيد، وهو معبر امساعد السلوم في الشمال، علماً بأن الحدود المصرية الليبية شاسعة جداً، ولكنها في مجملها عصية على الاختراق بسبب صعوبة التضاريس. أما الجزء المتبقي في الشمال، ويبلغ طوله 265 كيلومتراً، فهو خاضع لمراقبة وحراسة المليشيات الليبية والمصرية.
طرق التهريب هي في العادة السبيل الوحيد لعبور تلك الحدود. ومنذ عام 2016، وبعد أن تعرض العديد من القوارب للتحطم في البحر، فقد خصصت الحكومة مزيداً من الموارد لتأمين السواحل.
ومع تدفق المال وبفضل الدعم المقدم من دول الاتحاد الأوروبي، فقد تعززت الحمايات العسكرية المسلحة على جانبي الحدود، وبذلك ارتفعت وتيرة العنف ضد الناس الذين يحاولون عبور الحدود.
وبحسب تقرير نشرته "ديسكلوز"، فإن المراقبة الجوية التي يوفرها سلاح الجو الفرنسي، والتي كان يقصد منها أساساً مراقبة وتعقب الإرهابيين، مكنت من شن ضربات جوية ضد المدنيين الذين يشك في ضلوعهم في عمليات التهريب.
الحد البحري الأشد فتكاً في العالم
عندما كان أحمد ومحمد عالقين في عرض البحر عند الحد المعروف بوسط البحر المتوسط، حلقت فوقهم طائرة مروحية، إلا أن العون لم يصلهم إلا بعد ثلاثة أيام.
منذ عام 2014، أصبح وسط البحر المتوسط أكثر طرق التهريب فتكاً في العالم، المكان الذي مات فيه ما يقرب من 24 ألف إنسان.
الرحلة طويلة وشاقة، وعادة ما تتم باستخدام قوارب متهالكة لا تصلح لخوض عباب البحر. وعمليات القمع والمطاردة كجزء من مهام البحث والإنقاذ استنفدت قدراتها. كما أن الحد البحري هو المكان الذي يشهد أكبر عدد من اختفاء المهاجرين، حيث يقدر عدد من غرقوا أو اختفوا في المياه بما يقرب من 12 ألف إنسان.
"الفجوات" التي تتواجد في قدرات البحث والإنقاذ حولت العبور إلى ما يشبه الصندوق الأسود، وإن كانت مسالك العبور بلا هوادة تخضع لحراسة ومراقبة مستمرة من قبل المسيرات والطائرات التي تديرها وكالة فرونتكس التابعة للاتحاد الأوروبي.
ترتبط هذه العمليات بشكل مباشر مع الأعداد المتزايدة لمهمات الاعتراض غير القانونية التي تنفذها قوات حرس الحدود وجماعات المليشيات المسلحة في ليبيا، والتي تمارس أعمالها دونما رقيب أو حسيب، وكثيراً ما تفضي إلى عمليات "دفع وإعادة" غير مشروعة.
ومؤخراً زاد الطين بلة ذلك المرسوم الجديد الذي سنته رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، والذي عقد الجهود التي تبذلها جهات مدنية لإنقاذ حياة المهاجرين عبر المتوسط.
يجبر القانون الجهات التي تقوم بتنفيذ مهمات إنقاذ بالنزول براً مباشرة بعد الانتهاء من عملية الإنقاذ، وهو تقييد يفاقم منه وجود سياسة تحدد "موانئ بعيدة" لمهمات الإنقاذ، ما يضيف أياماً إلى زمن الملاحة البحرية. وهذا يبدد وقتاً ثميناً كان يمكن أن يقضى في مراقبة المياه، ويستنفد جهود أسطول مدني ينوء كاهله بالأعباء.
تقول كارولاين وايلمان، من منظمة أطباء بلا حدود، في حديث مع موقع ميدل إيست آي، حول جهود الإنقاذ التي يقومون بها: "قبل أن يوضع المرسوم قيد التنفيذ كنا في المتوسط نقوم بما معدله 4.5 عمليات إنقاذ خلال دورة واحدة. كنا في المعدل ننقذ ما يزيد على الـ280 شخصاً، بينما الآن لا ننقذ سوى 80 شخصاً. ولذا فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو ما الذي يحدث لأولئك المائتين المتبقين من البشر؟".
خاطرت بحياتي لكي أصل إلى هنا
بعد ثلاثة أيام من التيه في عرض البحر المتوسط، جرى إنقاذ محمد وأحمد من قبل حرس السواحل الإيطالي.
ثم تم نقلهما إلى معسكر في صقلية حيث قدم لهما الطعام والشراب لأول مرة منذ أيام. يتذكر محمد ذلك قائلاً: "شعرنا بسعادة غامرة لا تصدق. وأخذونا إلى أسرتنا، وإن كنت سأقبل بكل سعادة بالنوم في الشارع لو اقتضى الأمر".
أما وقد انتهى بهما المطاف معاً في غرفة داخل ملجأ في ميلانو، فقد تبددت السعادة الآن، ومع ذلك يعرب الرجال الثلاثة عن تفاؤلهم بما هو قادم في المستقبل.
يقول أحمد: "لقد خاطرت بحياتي لكي أصل إلى هنا. ولذلك علي الإيمان بأن الحياة هنا ستكون أفضل".
لعل شكري، الذي أمضى خمسة عشر عاماً هنا، أفضل معرفة بما تؤول إليه الأمور. فبعد أن غادر الرجال، قال وعلامات الأسى مرتسمة على وجهه: "إنهم لا يدركون مدى ما ينتظرهم من صعوبات هنا".
فقد قضى هنا من الوقت ما يكفي للتعرف جيداً على منظومة بيروقراطية أشبه بالمتاهة يضطر المهاجرون في إيطاليا إلى المرور عبر دهاليزها، حيث يجب على طالبي اللجوء الانتظار عشرة أعوام قبل أن يصبحوا مؤهلين للتقدم بطلب الحصول على الجنسية.
تقدم شكري بطلب الحصول على الجنسية قبل أربع سنين ولكنه ما زال ينتظر. في هذه الأثناء يتوجب عليه أن يدفع مقابل تجديد تصريح إقامته وما يترتب عليه من رسوم قانونية ومن ضرائب.
يقول عن ذلك: "عليك أن تدفع مقابل كل شيء في هذا البلد، فالحياة ليست سهلة. واليوم غدت أصعب عليهم، لأن أوروبا لم تعد متاحة".
ويضيف شكري في حديثه مع موقع ميدل إيست آي: "فيما لو عدت إلى مصر فسيكون مصيري أن أغيب وراء القضبان. انتقلت إلى هذا البلد من أجل بداية جديدة، ولكن بعد بضع سنين أدركت أن لديها مشاكلها الخاصة بها".
ويقول وقد علت ثغره ابتسامة ساخرة: "ربما كنت أنا السبب. ربما كانت المشاكل ترافقني حيث كنت".
حاول موقع ميدل إيست آي التواصل مع وزارة الخارجية الليبية ومع السفارة المصرية في لندن للحصول على تعليق منهما على التقرير، لكنه لم يتلق رداً حتى وقت النشر.
(تم تبديل الأسماء حفاظاً على سلامة الأشخاص المعنيين).