بورتريه

"حكيم الثورة" الجزائرية سُلخ وجهه بالكامل ولم يخن رفاقه (بورتريه)

العربي بن مهيدي قتل تحت تعذيب ضباط فرنسيين ليلة الثالث إلى الرابع من آذار/ مارس عام 1957- عربي21
أحد شهداء الثورة الجزائرية، كان مناضلا وقائدا وأسطورة الثورة حتى إنه لقب بـ"قاهر جنرالات فرنسا"، ولقب أيضا بـ"حكيم الثورة الجزائرية". 

خضع لتعذيب بشع جدا، ورغم ذلك بقي ملتزما بالصمت ورفض خيانة ثورة "ألقى بها إلى شعب الجزائر"، كما قال ذات مرة. وقال لجلاديه: "أمرت نفسي ألا أبوح بسر". 

صاحب المقولة الشهيرة: "إذا ما استشهدنا دافعوا عن أرواحنا، نحن خلقنا من أجل أن نموت لكي تستخلفنا أجيال لاستكمال المسيرة". و"أريد أن أُعذب حتى أتأكد من أن جسدي الفاني لن يخونني". 

عُرف العربي بن مهيدي الذي ولد في مدينة عين مليلة الواقعة في شرق الجزائر عام 1923 بتدينه مبكرا. وفي عام 1939 انضم إلى صفوف الكشافة الإسلامية "فوج الرجاء" ببسكرة، وبعد بضعة أشهر أصبح قائد فريق الفتيان والشباب. وتوقف عن الدراسة بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، واشتغل بمهنة التجارة خاصة تجارة التمور التي كان يمارسها والده، بالإضافة إلى بعض الأعمال الحرة. 

ثم بعد ذلك انتقل إلى قسنطينة وهناك احتك بالشيخ مبارك الميلي و"جمعية العلماء المسلمين"، ثم انضم إلى حركة "أحباب البيان والحرية" التي أسسها فرحات عباس وعين فيها كاتبا بإحدى نوادي الحركة. 

كان ملتزما بواجباته الدينية والوطنية، إلا أن هذا لم يمنعه من حب الفن فكان يهوى أغاني المطربة فضيلة الجزائرية. وكان أيضا يحب الموسيقى خاصة الأندلسية، وكان أيضا عاشقا للسينما ومشاهدة الأفلام الحربية والثورية. 

وكان بن مهيدي يهوى المسرح والتمثيل، فمثل في مسرحية "في سبيل التاج" التي ترجمها إلى اللغة العربية الأديب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي وكانت المسرحية مقتبسة بطابع جزائري بهدف نشر الفكرة الوطنية والجهاد ضد الاستعمار.  

وكان أيضا لاعبا في كرة القدم فكان أحد المدافعين الأساسيين في فريق الاتحاد الرياضي الإسلامي لبسكرة الذي أنشأته الحركة الوطنية. 

لم يترك العربي أي مجال أو طريقة إلا وسلكها لخدمة الجزائر، وقد كتب عنه في عام 1957 في صحيفة "المجاهد" التي كانت تتحدث باسم الثورة الجزائرية آنذاك بأنه "شاب مؤمن، بر وتقي، مخلص لدينه ولوطنه، بعيد كل البعد عن كل ما يشينه. كان من أقطاب الوطنية ويمتاز بصفات إنسانية قليلة الوجود في شباب العصر، فهو من المتدينين الذين لا يتأخرون عن أداء واجباتهم الدينية، لا يفكر في شيء أكثر مما يفكر في مصير بلاده الجزائر، له روح قوية في التنظيم وحسن المعاملة مع الخلق ترفعه إلى درجة الزعماء الممتازين. رجل دوخ وأرهق الاستعمار الفرنسي بنضاله وجهاده على بلاده ودينه". 

انضم العربي في عام 1942 لصفوف "حزب الشعب" بمكان إقامته، ما تسبب في اعتقاله مع معتقلين آخرين ثم أفرج عنه بعد ثلاثة أسابيع قضاها في التحقيق والتعذيب بمركز الشرطة.  

لكن المجزرة التي ارتكبتها فرنسا بحق الجزائريين حين قتلت 45 ألف جزائري في عام 1947، زادت من تصميمه على الانخراط بالعمل الوطني، فكان في عام 1947 من بين الأوائل الذين التحقوا بصفوف "المنظمة الخاصة" التي أصبح مسؤول الجناح العسكري فيها بمنطقة سطيف وفي نفس الوقت نائبا لرئيس أركان التنظيم السري على مستوى الشرق الجزائري الذي كان يتولاه يومذاك محمد بوضياف. 
 وارتقى في عام 1950 إلى منصب مسؤول التنظيم بعد أن نقل محمد بوضياف للعاصمة.  

اختفى عن الأنظار بعد أحداث عام 1950 واكتشاف الاحتلال الفرنسي للتنظيم العسكري السري. وواصل نشاطه بأسماء مستعارة، وكان بارعا في تقمص الشخصيات حتى أصبح يعرف بـ"الرجل ذي العشرين وجها"، فصدر على إثرها في حقه حكم غيابي بالسجن 10 سنوات. 

 وعند تكوين "اللجنة الثورية للوحدة والعمل" في عام 1954 مع مصطفى بن بولعيد، وديدوش مراد، ومحمد بوضياف، ورابح بيطاط. أصبح من بين عناصرها البارزين ثم عضوا فعالا في "جماعة 22" التاريخية التي ضمت كبار قادة الثورة والتي أخذت على عاتقها التحضير لانطلاق الثورة. 

لعب دورا كبيرا في التحضير للثورة المسلحة، وقال مقولته الشهيرة: "ألقوا بالثورة إلى الشارع سيحتضنها الشعب"، وأيضا: "أعطونا دباباتكم وطائراتكم وسنعطيكم طواعية حقائبنا وقنابلنا". وكان من بين الذين عملوا بجد لانعقاد "مؤتمر الصومال" في عام 1956 الذي جمع قادة الثورة والذي اعتمد استراتيجية حربية وسياسية جديدة، تهدف إلى تدويل القضية الجزائرية في المحافل الدولية، من أجل تلقي الدعم المادي والمعنوي من مختلف شعوب العالم. 

 وكلف العربي بن مهيدي بالعمليات الفدائية في جيش التحرير الجزائري، ليشرع مباشرة في تنظيم خلايا فدائية في جميع أنحاء العاصمة التي شهدت عمليات فدائية عديدة أرهبت الاحتلال الفرنسي وأربكته. 
كما أنه نجح في تنظيم عصيان مدني، وإضراب شامل لمدة 8 أيام من شهر كانون الثاني/ يناير من عام 1957 عبر كل مناطق الجزائر. 

لكن الاستعمار الذي كان يتتبعه تمكن في عام 1957 من اعتقاله وتفرغ للتحقيق معه كبار قادة جيش الاحتلال الفرنسي للحصول منه على معلومات عن الثورة، لكن بن مهيدي لم يبح بأي معلومة عن الثورة والثوار ورفض خيانة رفاقه. 

ولما فشل التحقيق بالحصول على معلومات جاء الأمر من باريس بتعذيبه حتى يعطي المعلومات. 
وقتل تحت التعذيب ليلة الثالث إلى الرابع من آذار/ مارس من نفس العام الذي اعتقل فيه.  

وقال فيه الجنرال الفرنسي مارسيل بيجار بعد أن يئس هو وجلاديه أن يأخذوا منه اعترافا أو وشاية برفاقه بالرغم من العذاب المسلط عليه لدرجة سلخ جلد وجهه بالكامل: "لو أن لي 10 من أمثال العربي بن مهيدي لغزوت العالم". واعترف الجنرال الفرنسي بول أوسارس في عام 2001 لصحيفة "لوموند" بأنه هو من قتل العربي بن مهيدي شنقا بيده. 

وكان يعمد الاحتلال الفرنسي بعد إعدام أي مناضل كبير أو أحد قادة الثورة، إلى الترويج بأنه أقدم على الانتحار.. وذلك لهدفين، الأول لرفع المسؤولية عن جنوده، والثاني للتقليل من قيمة الشهيد، لكن، عندما سألت ظريفة بن مهيدي شقيقة العربي، الجنرال بيجار، عن هذا الأمر أجابها: "إذن، أنت لا تعرفين شقيقك.. كيف لرجل شجاع مثله أن ينتحر؟". 

وفي عام 2001 قدم كبير سفاحي جنرالات فرنسا في الجزائر أوسارس شهادته عن الشهيد العربي والتي جاء فيها: "أسابيع من التعذيب، نزعنا أظافره.. جلده.. أجزاء من جسده.. ولا كلمة خرجت من فمه، بل واصل تحدينا بشتمنا والبصق على وجوهنا قبل تنفيذ حكم الإعدام". 

وتابع قائلا: "نزلت أنا وضابطي أمام قدميه وقدمنا له التحية الشرفية.. لن توجد امرأة في العالم كله ستنجب رجلا مثل بن مهيدي.. ولا امرأة". 

طريقة بشعة جدا في تعذيب مجاهد كان شعاره "نحن خلقنا من أجل أن نموت". 

بقي الشهيد العربي بن مهيدي حتى النفس الأخير يصرخ في وجه الجلادين القتلة: "ستهزمون لأنكم تريدون وقف عجلة التاريخ، وسننتصر لأننا نمثل المستقبل".
 
وكان ما توقع العربي الذي أطلق عليه زملاؤه لقب "صندوق الأفكار".. فقد أصبحت فرنسا الماضي والثورة هي المستقبل، وبقي الصندوق مقفلا لصناعة التاريخ.