تصدير:
"الدعاية الناجحة يجب أن تحتوي على نقاط قليلة وتعتمد التكرار" (جوزيف
غوبلز)
قد
يبدو من المبالغة أن نصدّر مقالنا بقاعدة من قواعد الدعاية النازية، فالوضع
التونسي -في أكثر الخطابات انضباطا مفهومي- لا يُفهم إلا بمصطلحاتٍ لها "سمعة
سيئة" أقل من النازية مثل الشعبوية (عند الحديث عن الرئيس وأنصاره) أو
الفاشية (المرتبطة أساسا بزعيمة الحزب الدستوري الحر) أو الرجعية (بشقيها الديني
والبرجوازي). ونحن لم نستدع غوبلز للحديث عن أشكال الدعاية التي تهيمن على المشهد
التونسي منذ رحيل المخلوع، بل لأننا نؤمن بأن هدف تلك الدعايات كلها -مهما اختلفت
مواقع أصحابها الحزبية وتباينت خلفايتهم الإيديولوجية "الحداثية"- إنما
هو هدف نازي ثاوٍ في البنية العميقة لأغلب خطاباتهم السياسية ألا وهو "الحل
الأخير". ولكنّه هدف لا يمكن التصريح به ولذلك يصاغ بطرق مخاتلة حتى لا يفقد
المؤمنون به -أمام الرأي العام التونسي وأمام رعاتهم في الخارج- صفات
"الديمقراطية" و"التقدمية" و"القوى المدنية".
ولا
يعني الحل الأخير بالضرورة "الإبادة الجماعية"، بل يعني "المحو
التدريجي" أو تكريس وضعية تُشبه وضعية "المنبوذين" في الهند، وذلك بقصد
تكريس الدونية "الأنطولوجية" للإسلاميين واختزالهم في ملفات أمنية (يكون
"الحداثيون" في أغلبها الجلاد والمحامي). ولتحقيق هذا الهدف، يتوسّل
أصحاب "الوعي النازي المُتَونس" بالوصم الاجتماعي لخصومهم، وبسياسة الإقصاء
والتهميش والاستهداف الأمني، والتحريض الإعلامي الممنهج على أساس الهوية بجميع
أبعادها المرئية والمسموعة (أي تلك المتعلقة باللباس وبالخطاب أو المعتقدات وأنماط
السلوك).
الأغلب الأعم من "الخطابات" أو الجُمل السياسية المتنازعة يقوم على ما يُسمّى بالعنصرية الثقافية أو التفاضلية التي تعني في الأصل "التحيز والتمييز" بين المجموعات العرقية الإثنية المختلفة على أساس ثقافي، ولكننا نعني بها -كما هو الأمر في تونس وبعض الأنظمة العربية- "التحيزَ والتمييز" على أساس ثقافي بين مكونات العرق الواحد أو مواطني الدولة الواحدة
فالأغلب
الأعم من "الخطابات" أو الجُمل السياسية المتنازعة يقوم على ما يُسمّى
بالعنصرية الثقافية أو التفاضلية التي تعني في الأصل "التحيز والتمييز" بين
المجموعات العرقية الإثنية المختلفة على أساس ثقافي، ولكننا نعني بها -كما هو
الأمر في تونس وبعض الأنظمة العربية- "التحيزَ والتمييز" على أساس ثقافي
بين مكونات العرق الواحد أو مواطني الدولة الواحدة، وليس بين السكان الأصليين
والمهاجرين كما هو الشأن في الغرب.
تحت
شعار "الدفاع عن النمط المجتمعي التونسي" -وما يؤسسه كمجلة الأحوال
الشخصية وبعض الحريات الفردية والجماعية الهشة- من خطر الظلامية والتطرف الإسلامي،
استطاع نظام المخلوع ومِن قبله نظام الراحل بورقيبة أن يؤسسا "جُملوكية"
(نظام رئاسي مدى الحياة لا فصل فيه بين السلطات ولا اعتبار فيه للإرادة الشعبية
إلا بعد "تدليسها").
وكانت
أجهزتهما الدعائية -في الإعلام والثقافة والتعليم- تُشرعن خيارات نظاميهما
باعتبارها خيارات "وطنية"، وما هي في الحقيقة إلا خيارات جهوية أسّست ما
يمكن أن نسميه بـ"الاستعمار الداخلي" وما كرّسه من تفاوت فئوي وجهوي
(وهو ما يمكن التوسع فيه بالاطلاع على الكتاب المرجعي للصغير الصالحي
"الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة").
لقد
كانت السردية الوطنية مجرد مجاز لنظام ريعي زبوني تابع توجد نواته الصلبة في جهة
الساحل، ولكنه كان يحرص على توسيع قاعدته الاجتماعية ببعض "المحاسيب" من
جهات أخرى. وكانت امتيازات هؤلاء الوكلاء ومساهمة أجسامهم الوظيفية في صناعة
القرار السياسي (عبر النقابات والإعلام والثقافة والمجتمع المدني والمؤسسات
الاقتصادية) تتحدد انطلاقا من مواقعهم في شبكات الرعاية المتبادلة والخدمات التي
يقدمونها للمركّب الجهوي- الأمني- المالي الحاكم في تونس منذ الاستقلال الصوري عن
فرنسا.
قبل الثورة وبعدها، كان تضخيم المخاطر التي تهدد "مجلة الأحوال الشخصية" والحريات الشخصية (أو ما يختزله تعبير "النمط المجتمعي التونسي"، وهو في الحقيقة "قيم الجمهورية الفرنسية" بعد تشويهها وإفراغها من أية شحنة مساواتية في نظام استبدادي) استراتيجية فعّالة على أكثر من مستوى
قبل
الثورة وبعدها، كان تضخيم المخاطر التي تهدد "مجلة الأحوال الشخصية"
والحريات الشخصية (أو ما يختزله تعبير "النمط المجتمعي التونسي"، وهو في
الحقيقة "قيم الجمهورية الفرنسية" بعد تشويهها وإفراغها من أية شحنة
مساواتية في نظام استبدادي) استراتيجية فعّالة على أكثر من مستوى. فقبل الثورة
كانت البكائيات "الحداثية" على "مجلة الأحوال الشخصية"
والحريات الفردية تدفع بباقي التشريعات السياسية والاقتصادية المقنّنة للاستبداد
وللنظام الريعي والنهب الخارجي لخيرات البلاد إلى خلفية السجال العمومي أو إلى
دائرة ما يُمنع التفكير فيه (مثل قانون الأحزاب وهيمنة الحزب الواحد، ومجلة
المحروقات أو نظام الرخص والاقتصاد الريعي، والفساد الإداري والنقابي والمالي،
والبنية الجهوية للسلطة وغياب مقومات السيادة.. الخ).
ولذلك
فإن الصراع ضد الإسلاميين كان صراعا أيديولوجيا في الظاهر، ولكنه في أعماقه كان صراعا
ضد تغيير بنية السلطة الجهوية الزبونية التابعة وتعبيرا عن رفض تلك السلطة
وملحقاتها الوظيفية؛ الاحتكامَ إلى الإرادة الشعبية في بناء الخيارات الاقتصادية
والثقافية المفروضة بقوة الأجهزة القمعية والدعائية. فالإسلاميون لم يكونوا يُمثلون
خطرا على عموم الشعب (وهو ما تشهد له شعبيتهم خلال الانتخابات التشريعية سنة 1989)، بل كانوا يُمثلون خطرا وجوديا على السلطة
الجهوية (لأنهم سيُوسعون القاعدة الجهوية للسلطة بالضرورة لتشمل المناطق المهشمة
والمقموعة تاريخيا)، وخطرا على ملحقاتها الوظيفية (لأنهم سيفرضون توزيعا جديدا
للسلطة وللثروة بمنطق محافظ أو ديني مما يهدد امتيازات تلك الملحقات
"الحداثية" ذات الامتداد الشعبي المحدود).
وقد
اقتضى التصدي السلطوي لهذا الخطر تزييفا معمّما للوعي وللوقائع، كما استدعى تكريسا
للعنصرية الثقافية ضد حركة
النهضة تحديدا (مع تسامح نسبي مع بعض التشكيلات
الإسلامية الأخرى، كالدعوة والتبليغ والصوفية بحكم عدم امتلاكها أي خطاب احتجاجي)،
حتى صار الحجاب تهمة و"السلام عليكم" شبهةً.
لم يكن الوضع مختلفا بعد الثورة، فمنذ الأيام الأولى لرحيل المخلوع عملت أغلب النخب "الحداثية" على حرف الصراع من مداراته الاقتصادية والاجتماعية إلى مدار هوياتي بائس، وذلك لفرض هندسة جديدة للحقل السياسي. وهي هندسة لا تقوم على التقابل بين "ضحايا" المنظومة السابقة وبين ورثة تلك المنظومة، بل على التقابل بين "القوى الحداثية" بما فيها ورثة التجمع وبين الإسلاميين بمختلف أطيافهم
ولم
يكن الوضع مختلفا بعد الثورة، فمنذ الأيام الأولى لرحيل المخلوع عملت أغلب النخب "الحداثية"
على حرف الصراع من مداراته الاقتصادية والاجتماعية إلى مدار هوياتي بائس، وذلك
لفرض هندسة جديدة للحقل السياسي. وهي هندسة لا تقوم على التقابل بين "ضحايا"
المنظومة السابقة وبين ورثة تلك المنظومة، بل على التقابل بين "القوى
الحداثية" بما فيها ورثة التجمع وبين الإسلاميين بمختلف أطيافهم.
ولعلّ
ما يسّر هذه الاستراتيجية الانقلابية هو ظهور المد السلفي المهدد لوجود الدولة
ذاتها. وبصرف النظر عن الجهات الداخلية والخارجية التي كانت تقف وراء السلفية،
وبصرف النظر عن استقلاليتها أو تبعيتها لجهات استخباراتية إقليمية ودولية، فإن
خطرها كان حقيقيا وكان قابلا للتوظيف السياسي. فعملت "القوى
الديمقراطية" على التسوية بين السلفية وحركة النهضة (رغم أن السلفية تكفر
النهضة بحكم قبولها بـ"الديمقراطية" التي هي عندهم مذهب كفري)، أو على
الأقل اتهام الحركة بالتساهل مع السلفية أو التواطؤ معها لأسلمة المجتمع. وقد نجح
هذا الخطاب في ابتزاز حركة النهضة في مرحلة أولى (خلال المرحلة التأسيسية وبمخرجات
الحوار الوطني وما أعقبها من مرحلة التوافق) ثم نجح في إخراجها من السلطة بعد 25 تموز/ يوليو.
إن
المتغير الأكبر في خطابات "
العنصرية الثقافية" بعد الثورة ليس هو تأكيد
مخاوفها من أسلمة الدولة بعد وصول حركة النهضة للحكم. فقد أثبتت الوقائع أن وجود
النهضة في السلطة قد قدّم للحداثيين ما كانوا سيعجزون عن تحقيقه لولا وجودها كشاهد
زور في منظومة الحكم (تقنين الجنسية المثلية وظهور منظمة "شمس"، رفع
الاحترازات عن اتفاقيات سيداو، رفع سقف الحريات حتى فيما يخص الاستهزاء بالمقدسات الدينية، مواصلة التضييق على المساجد وهيمنة أئمة المنظومة القديمة على المنابر..
الخ).
النهضوي في هذه الخطابات لم يعد هو ذلك الملتحي المتشدد الذي يهدد حقوق المرأة والحريات الفردية فقط، بل أصبح أساسا ذلك "الإخواني" الذي يهدد وجود الدولة ذاتها بحكم فساده وعمالته وكرهه للدولة- الأمة ومؤسساتها ورموز سيادتها وتاريخها. وهو ما يمكننا اعتباره الفكرة التوليدية لكل الخيارات السلطوية في اللحظة الأخيرة من لحظات الاستراتيجيات الانقلابية: انقلاب 25 تموز/ يوليو
ولذلك
فإن المتغير الجديد في خطابات "العنصرية التفاضلية" هو المطابقة بين
النهضوي وبين العجز الماهوي عن إدارة الدولة أحيانا، والفساد أحيانا أخرى.
فالنهضوي في هذه الخطابات لم يعد هو ذلك الملتحي المتشدد الذي يهدد حقوق المرأة
والحريات الفردية فقط، بل أصبح أساسا ذلك "الإخواني" الذي يهدد وجود
الدولة ذاتها بحكم فساده وعمالته وكرهه للدولة- الأمة ومؤسساتها ورموز سيادتها
وتاريخها. وهو ما يمكننا اعتباره الفكرة التوليدية لكل الخيارات السلطوية في اللحظة
الأخيرة من لحظات الاستراتيجيات الانقلابية: انقلاب 25 تموز/ يوليو.
لو
فكّكنا الخطاب الدعائي لأنصار 25 تموز/ يوليو وطوابيرهم الخامسة فإننا سنجده
يرتكز على التسوية بين منظومة الفساد -أو العشرية السوداء- وبين النهضة. ونحن لا
ننكر أن النهضة كانت جزءا من منظومة فاسدة بنيويا، ولكنّ اعتراضنا هو على التسوية
بين تلك المنظومة وبين حركة النهضة. فالنهضة -سواء في المرحلة التأسيسية أو في
مرحلة التوافق أو في المرحلة التي أعقبت انتخابات 2019-
لم تكن إلا جزءا من منظومة فاسدة يهيمن عليها ورثة المنظومة القديمة وحلفاؤهم في
اليسار الثقافي الوظيفي.
ورغم
أن ذلك لا ينفي مسؤوليتها السياسية والأخلاقية عن تلك المراحل جميعا، فإنه لا ينفي
كذلك مسؤولية باقي الشركاء السياسيين والاجتماعيين والفاعلين الجماعيين في مختلف
الحقول. إننا أمام مسؤولية جماعية تسعى خطابات "العنصرية الثقافية" (ومن
يقف خلفها في المركّب الجهوي- الأمني- المالي لمنع تشكل أي "كتلة
تاريخية") إلى اختزالها في فاعل مفرد كي تُخرج أصحابها من دائرة المساءلة
والمحاسبة، وكي يجد هؤلاء "المتلونون" موقعا في سردية تصحيح المسار
ومقاومة منظومة الفساد، رغم أن أغلبهم كان صاحب قرار في "العشرية
السوداء" أو على الأقل من المستفيدين منها ماديا ورمزيا.
twitter.com/adel_arabi21