رغم
أهمية الأطروحات التي أوردها الفيلسوف الكندي آلان دونو في كتاب "نظام
التفاهة" (2015)، فإننا نرى أن النقد الجذري الذي يمكن أن
يوجه لهذا الكتاب المرجعي -في مستوى "اللامفكر فيه" بخيار شخصي من
المؤلف، أو "ما يُمنع التفكير فيه" بحكم هيمنة اللوبي الصهيوني على
الجامعات والإعلام- هو علاقة "نظام التفاهة" بما أسميناه بـ"الإمبريالية
في مرحلتها المتصهينة".
فسيطرة
"التافهين" على مفاصل السلطة ومراكز إنتاج القرار وعلى أدوات توجيه
الرأي العام لا تعكس البنية العميقة للنظام العالمي، وليست مجرد مصادفة أو رمية من
غير رام. ونحن نذهب إلى أن ما أسماه الكاتب بـ"نظام التفاهة" هو مجرد
سطح أو هو أثر مقصود لاستراتيجية "عقلانية" بالغة التعقيد والقوة، ماديا
وفكريا. وهي استراتيجية مُعولمة تجعل من الصعب على أي تفكير -بما في ذلك التفكير
المعادي للصهيونية- أن يُفكر خارج سقفها إلا عند توفر شروط "إيمانية"
وفكرية ومراجعات جذرية مؤلمة؛ تتحقق فيها معاني الكتابة
المقاومة باعتبارها النقيض
الحقيقي للكتابات/السرديات المتصهينة.
خلافا
لآلان دونو الذي يركز على السياقات الغربية لتأكيد مقولاته التحليلية، فإننا
معنيون في هذا المقال بالمجال العربي الإسلامي باعتباره الحاضنة الأولى للمقاومة،
بل باعتباره موضوع سلطة أولئك "التافهين" الذين يحكمون مراكز القرار
الغربي عبر وكلاء يمكن وصفهم بأنهم "تافهون من الدرجة الثانية". فإذا
كان "التافه" في الغرب ينتج "المعرفة" و"التقنية"
وينتج أيضا النماذج التفسيرية (البراديغمات)، فإن صنيعته -أي "التافه"
العربي أو المسلم- لا ينتج شيئا غير تقديس "التافه الأصلي" باعتباره
مرجعا نهائيا للمعنى وخالقا أوحد للكلمات النهائية، أي تلك الكلمات التي ليس
وراءها إلا الموت أو الجنون أو الصمت على حد عبارة أحد الفلاسفة.
إذا كان "التافه" في الغرب ينتج "المعرفة" و"التقنية" وينتج أيضا النماذج التفسيرية (البراديغمات)، فإن صنيعته -أي "التافه" العربي أو المسلم- لا ينتج شيئا غير تقديس "التافه الأصلي" باعتباره مرجعا نهائيا للمعنى وخالقا أوحد للكلمات النهائية، أي تلك الكلمات التي ليس وراءها إلا الموت أو الجنون أو الصمت على حد عبارة أحد الفلاسفة
ولعل احتفاء أغلب
النخب الجامعية و"المثقفين" و"الإعلاميين" بكتاب آلان دونو -رغم
اعتباره مراكز البحث الغربية والجامعات الكبرى والصحافة أعمدة لنظام التفاهة- هو
أكبر دليل على حالة البؤس التي تعيشها تلك النخب.
لقد
قرأت النخب العربية "نظام التفاهة" باعتباره شأنا غربيا، أو باعتباره
توصيفا عاما لا ينطبق عليهم بالضرورة. وإذا كان دونو نفسه يعلن صراحة أن "قطب
الرحى في سيطرة التافهين على كل مفاصل الحياة المعاصرة يبدأ وينتهي بالميادين
الأكاديمية" (بلال رامز بكري، مدونات الجزيرة)، فإن النخب الأكاديمية -من
أساتذة وخبراء ومثقفين- لم يجدوا في هذه الملاحظة ما يدعو إلى التفكير في أدواتهم
المعرفية وأدوارهم الاجتماعية. وعوض أن يكون الكتاب مناسبة لنقد الذات أو لمراجعة
علاقتها بالمرجع الغربي "المتصهين"، تحوّل "نظام التفاهة" إلى
أداة للتمركز حول الذات وتأكيد تناقضها مع "التافهين المحليين"، أي
تناقضها مع عامة الشعب ومع كل المخالفين سياسيا وأيديولوجيا.
لم
تكن صيحة الفزع التي أطلقها آلان دونو في كتابه كافيةً لإيقاظ أغلب النخب العربية
من نرجسيتهم واستعلائهم المعرفي الكاذب المبني على التذيل المطلق لـ"مركز
التفاهة المُعولمة". وإذا كان الفيلسوف الاسكتلندي دافيد هيوم قد أيقظ
الفيلسوف الألماني كانط من سباته الدوغمائي، فإنّ دونو -من باب المفارقة- قد وفّر
للنخب "الوظيفية" ترسانة نظرية لشرعنة سُباتها وتأبيد أساطيرها لإعادة
إنتاج أدوارها التقليدية المضادة جوهريا للثورة والديمقراطية ولمشروع "الحكم
معا"، والاعتراف المتبادل بين الإسلاميين والعلمانيين.
ومهما
كانت الأسباب التي حالت بين دونو وبين الدفع بتحليلاته إلى تدبر العلاقة بين
"نظام التفاهة" والصهيونية (أي إلى نقد الإمبريالية في لحظتها
المتصهينة)، فإن طوفان الأقصى قد وفّر للنخب العربية والإسلامية مناسبة لفعل ذلك.
فإذا لم تكن الصهيونية تاريخيا هي منبع "نظام التفاهة"، فإنها قد أصبحت
قاطرته الأساسية وارتبطت معه بعلاقة تلازمية، خاصة بعد تأسيس الكيان. ولذلك لا
يمكن لنا الآن-وهنا أن نفهم "نظام التفاهة" في الغرب أو في هوامشه
الوظيفية التي تُسمى مجازا دولا وطنية إلا باستحضار تلك العلاقة.
لمّا
همّش آلان دونو قضية العلاقة الانصهارية بين نظام التفاهة وبين الإمبريالية في
لحظتها الحالية (أي لحظتها المتصهينة)، فإنه لم يطرح على نفسه البحث في الاستعارة
الخفية أو التوليدية لذلك النظام "الدهري" (أي المعارض بالضرورة للتعالي
وللغيبيات باعتبارها موجهات أساسية للتفكير وللسلوك). فإذا كانت الإمبريالية في
لحظتها المريكانتلية (التجارية) وفي بداياتها الرأسمالية قد استندت إلى استعارات
"إنجيلية" صريحة أو معلمنة بدرجات متفاوتة، فإن الإمبريالية في لحظتها
المتصهينة محكومة أساسا باستعارات يهودية جلية أو خفية. ونحن نذهب إلى أن "عبادة
العجل الذهبي" (المال، السلطة، الوجاهة الاجتماعية، الجنس.. الخ) ليست
إلا الدين المرئي للإمبريالية المتصهينة عند الغوييم (غير اليهود)، أما
الديانة الخفية لمن يتحكمون في هذه الإمبريالية فهي مرتكزة على "البقرة
الحمراء" وما تحمله من دلالات قيامية في اليهودية أو المسيحية المتهوّدة
(خاصة عند البرتستانت). وهو ما يعني أن الإمبريالية في لحظتها المتصهينة ليست سوى
مشروع ديني لا يمكن أن يستويَ على سوقه إلا بعولمة نظام التفاهة (عبادة العجل
الذهبي) وتسليط التوافه على "الغُوييم".
ونحن
لا نعني بالتوافه هنا الأشخاص الطبيعيين فقط، بل نعني أيضا الأشخاص غير الطبيعيين
(مثل الجمعيات والمنظمات المدنية والأحزاب، بل الأيديولوجيات والسرديات الكبرى).
إن
"التفاهة" لا تحكم الفضاء العام ولا تهيمن على الوعي الجمعي بالأشخاص
الطبيعيين مباشرةً، بل هي تحتاج إلى "أجسام وسيطة" ومؤسسات وسرديات
وظيفية وأدوات دعاية. ولا شك في أن الصهيونية -عبر وكلائها المحليين الصرحاء أو
عبر "التافهين" الذين يخدمونها بلا وعي- قد عملت منذ إنشاء الكيان -بل
قبله- على الدفع بالتافهين إلى مركز القرار ومراكز إنتاج المعرفة عبر حلفائها في
القوى الاستعمارية. ولا شك أيضا في أن هؤلاء "التافهين" قد حولوا كل
الكلمات/القضايا الكبيرة (مثل العدالة، التحرر، التحديث، الديمقراطية، الوحدة
العربية، الخلافة، المواطنة، الإسلام، حرية المرأة، المجتمع المدني، الأحزاب..
الخ) إلى كبائر في خدمة قضاياهم الصغرى، كما يقول المناضل الاجتماعي والمفكر
الديكولونيالي التونسي الأمين البوعزيزي.
أكد الطوفان أن التوافه الأخطر على "الإسلام المقاوم" هم الطائفيون ومنتحلو التنوير والتحديث، وهو ما يعني ضرورة مراجعة علاقتنا بهاتين السرديتين. فإذا كانت السردية الطائفية تشدنا إلى البنية الاستبدادية الدينية وإلى شيوخ السلاطين باعتبارهم الآلة الأيديولوجية لتأبيد الظلم والتخلف والتبعية، فإن السردية التنويرية تشدنا إلى البنية الاستبدادية المُعلمنة وإلى عبادة العقل الغربي
ونحن
نعني هنا بالقضايا الصغرى تلك القضايا التي تفيض عن المصلحة الشخصية لأصحابها
لتشمل مصلحة الطائفة أو التنظيم أو الجهة أو الفئة المهنية (الجيش مثلا)، أي كل
شبكات الرعاية المتبادلة التي تُشرعن امتيازاتها بنسق حجاجي زائف مداره
"المصلحة الوطنية العليا".
إذا
صحّ لنا اعتبار "طوفان الأقصى" مدخلا للاستبدال العظيم في مستوى الأشخاص
والسرديات والكيانات -وهو أمر مؤكدٌ كيما كانت مخرجات الصراع الحالي بين الكيان
وجناحي المقاومة أو الإسلام المقاوم- فإن أوكد معاني الاستبدال هو تغيير ما
بالعقول والقلوب، أي تغيير ما في أنفسنا بالمصطلح القرآني. لقد أكد الطوفان أن
التوافه الأخطر على "الإسلام المقاوم" هم الطائفيون ومنتحلو التنوير
والتحديث، وهو ما يعني ضرورة مراجعة علاقتنا بهاتين السرديتين. فإذا كانت السردية
الطائفية تشدنا إلى البنية الاستبدادية الدينية وإلى شيوخ السلاطين باعتبارهم
الآلة الأيديولوجية لتأبيد الظلم والتخلف والتبعية، فإن السردية التنويرية تشدنا
إلى البنية الاستبدادية المُعلمنة وإلى عبادة العقل الغربي؛ باعتباره أداة ترسيخ
الانقسام والتخلف والتراتبيات الاجتماعية المرتبطة وظيفيا بالمركز الغربي.
رغم
أننا لا نعتبر "الإسلام المقاوم" إسلاما ما بعد الطائفي (رغم انفتاحه
استراتيجيا على هذا الإمكان)، فإنه يطرح إجابة "ميدانية" من المفروض أن
تدفعنا -نحن "التافهين من الدرجة الثانية"- إلى مراجعة علاقتنا
بمقدساتنا الطائفية وأوهامنا الحداثية على حد سواء. ولكنها مراجعة تبدو مؤجلة عند
أغلب "النخب" الطائفية والتنويرية التي ما زال سدنتها يرون أنفسهم خارج
نظام التفاهة بل عدوه الأساسي. ولن نجانب الصواب إذا ما قلنا بأن "آلية
الإنكار" قد حوّلت تلك "النخب" موضوعيا إلى أجسام وظيفية في خدمة
الصهيونية "المستعربة"، بصرف النظر عن ادعاءات أصحابها ومزايداتهم على
بعضهم بعضا.
x.com/adel_arabi21