في مايو عام 1960، كانت هنالك طائرة استطلاع أمريكية من نوع يو2 تُحلّق فوق المجال الجوي الروسي، في مدى كان الأمريكيون يعتقدون أن رصدها غير ممكن. لكن الروس أسقطوا الطائرة وأسروا قائدها، ثم ظهر على التلفزيون الوطني معترفا بأنه كان في مهمة
تجسسية. يومها قالت الولايات المتحدة الأمريكية إن الطائرة كانت في مهمة علمية لدراسة المناخ. فهل مارست الصين اللعبة نفسها في الأجواء الأمريكية لكن بطريقة البالون؟ أم أن بكين صدقت لكن واشنطن اتخذت من البالون ذريعة لإلغاء زيارة وزير خارجيتها إلى بكين؟
تعتبر المناطيد من أقدم وسائل المراقبة والرصد وجمع المعلومات حول العالم، وقد استخدمه الأمريكيون في الحرب الباردة، فنشروا عددا كبيرا من المناطيد في كل المناطق القريبة من المعسكر الشرقي، وكانوا يطلقون عليها تسمية (عين السماء) أو (المخابرات الطافية). كما استخدموه في العراق بكثرة، حيث كان يرتفع فوق مقراتهم وقواعدهم العسكرية. تحوي المناطيد أجهزة إلكترونية خاصة تستلم أنواع الترددات كافة. كما فيها أجهزة تحليل صور ليزرية وحرارية وضوئية، يقع مساره على ارتفاع 60 ألف قدم وحمولته عالية جدا. وعلى الرغم من التحكم بحركته لكن في بعض الأحيان قد ينحرف عن مساره بفعل الرياح. كما أن سقوطه أو السيطرة عليه من قبل أية جهة لا يعد خسارة استخباراتية، لأن الأجهزة الموضوعة فيه موجودة في الأسواق المحلية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الكيان الصهيوني استخدم المناطيد بكثرة ضد الفلسطينيين، وقد سقط أحدها في غزة في شهر يونيو عام 2020 وسيطرت عليه حركة حماس.
وتعتبر المناطيد وسيلة ليست مُكلفة بالمقارنة مع وسائل تجسس أخرى، كما أنها أسهل من الطائرات المسيّرة، وسرعته البطيئة تعطي فرصة أكبر لمسح المنطقة التي يُراد رصدها، فكيف تعاملت كل من الصين والولايات المتحدة في موضوع المنطاد؟ لقد أصرت بكين على أن المنطاد هو لأغراض بحثية متعلقة بالطقس، وقد انحرف عن مساره لا إراديا فدخل الأجواء الكندية ثم أجواء الولايات المتحدة. وقد قدمت اعتذارها عن الذي حدث نافية بشدة أن يكون الغرض منه التجسس، لكن واشنطن أصرت على أن مهمة المنطاد هي المراقبة والرصد للمنشآت الحيوية الأمريكية. والدافع وراء هذا الإصرار هو أن ولاية مونتانا الأمريكية التي حلق في أجوائها المنطاد، يقع فيها جناح الصواريخ 341 في قاعدة ماسترون الجوية، وهي إحدى ثلاث قواعد جوية أمريكية تقوم بصيانة الصواريخ العابرة للقارات، لذلك من المتوقع أن تكون التصريحات الأمريكية في هذا الاتجاه، بالنظر إلى حيوية المنطقة، علما أن هذه ليست المرة الأولى التي يبحر فيها بالون صيني في الأجواء الأمريكية، لكن حساسية الموقف العسكري والاستراتيجي الحيوي للإدارة الأمريكية دفع للإعلان عن الحدث، واعتباره انتهاكا للمجال الجوي والسيادة الجوية الأمريكية، لكن الإنكار من جانب الصين، والتأكيد من جانب الولايات المتحدة لهما خلفية عدائية واضحة، فمنذ أيام قليلة صرّح وزير الدفاع الأمريكي بأن هناك اتفاقا سيتم إبرامه مع الفلبين، الجار والعدو اللدود للصين، يتم فيه تقديم تسهيلات في أربع قواعد عسكرية أمريكية في الفلبين. كما أن أحد الجنرالات الأمريكيين قال إنه يتوقع حربا مع الصين خلال عامين، لذلك فإن التحليل السياسي قد يذهب باتجاه تكذيب الرواية الصينية من أن المنطاد للأغراض السلمية. فليس مستغربا أن تقوم الصين برد فعل ما ضد الإدارة الامريكية، فيه رسالة تقول نحن هنا، وإن حاولتم الاقتراب من أجوائنا ومجالنا الحيوي، فنحن أيضا باستطاعتنا فعل ذلك ومن مسافات بعيدة جدا. في المقابل لم يقدم الأمريكيون أية معطيات يمكن الاستناد إليها في تصديق روايتهم، من أن الصين كانت تتجسس عليهم بالمنطاد، فالمنطاد كان يسير في الأجواء الأمريكية وتحت رصد الأجهزة العسكرية والاستخباراتية والفنية، كما أنه منذ دخوله كان هناك اعتراض على كل الرسائل والصور والفيديوهات التي تخرج منه، وهي قابلة للتحليل حتى لو كانت مشفرة، حسب رأي المختصين في مجال الاتصالات. وأرسلوا طائرة أف 22 وهي أعلى طائرة في التحليق، وصلت إليه وقامت بتصويره ونقلت البصمة الحرارية والبصمة الليزرية والبصمة الإلكترونية والرادارية التي فيه. أيضا كان هنالك تتبع له من قبل الأجهزة الأمريكية منذ خروجه من الصين لغاية تفجيره.
وبغض النظر عن مهمة المنطاد، وبعيدا عن السجال الدائر حول أي الروايتين هي الأصدق، الصينية أم الأمريكية، فإن السؤال المهم هو، لماذا لم تعلن واشنطن عن المنطاد إلا بعد يومين من دخوله الأجواء الأمريكية؟ والجواب على ذلك هو لأنها كانت تريد توريط الصين، واستثمار الحدث سياسيا لهدفين: الأول استخدامه كمبرر لإلغاء زيارة وزير خارجيتها إلى بكين، فالكثير من المصادر كانت تشير إلى أن الجانب الأمريكي سيتخلى عن هذا الموضوع، لأن مساعدة وزير الخارجية الأمريكي كانت قد ذهبت إلى بكين للإعداد للزيارة، لكن لم تكن هنالك أية نتائج إيجابية في كل الملفات التي تناولتها مع المسؤولين الصينيين، بالتالي فإن زيارة بلينكن إلى بكين لن تحقق الأهداف التي كانت ترغب فيها واشنطن. وهذه الأهداف كانت تريدها أهدافا ترويجية للداخل وللجمهوريين في الكونغرس، لذلك وجدت في أزمة المنطاد فرصة ذهبية لإلغاء زيارة بلينكن. أما الهدف الثاني فهو التشهير بسمعة الصين على الصعيد الدولي، وإظهارها بمظهر الدولة المارقة، التي لا تقيم وزنا لسيادات الدول والعلاقات الدولية. وهنا لا بد من القول بأنه في العلاقات الدولية لا يمر شيء من دون استثمار. ويبدو واضحا أن الجانبين قد وظفا أزمة البالون سياسيا منذ اللحظة الأولى. وبذلك أصبح ملفا خلافيا جديدا يضاف إلى ملفات خلافية سابقة مثل، ملف تايوان، وملف الحرب الأوكرانية، وملف التوتر في بحر الصين، وكذلك التنافس التجاري، وقد تمت في الفترة الأخيرة محاولة لإدارة هذا الصراع في لقاء الرئيسين الأمريكي والصيني في جزيرة بالي الإندونيسية، حيث وضع كل طرف خطوطا حمرا أمام الآخر. الصين وضعت استقلال تايوان خطا أحمر، بينما وضعت الولايات المتحدة مهاجمة تايوان من قبل الصين خطا أحمر، وبذلك يبدو اليوم أن هذا الصراع والتنافس المحموم بين بكين وواشنطن لم يعد حربا باردة فقط، بل هو أحد مسارات المجابهة العالمية، التي انطلقت من أوكرانيا مرورا بتايوان وتمتد أيضا في حقول الذكاء الصناعي، والحرب السيبرانية، وعسكرة الفضاء، وهذه ملفات مقلقة في العلاقات الدولية.
وماذا بعد أن تم إسقاط البالون الصيني فوق المياه الإقليمية الأمريكية؟ فهل ستكتفي بكين بالتعبير عن استيائها الشديد من خطوة رأت فيها مبالغة واضحة في رد الفعل، حسب تصريح المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية؟ أما أنها ستقوم لاحقا بخطوة مشابهة فتسقط أحد الأقمار الاصطناعية الأمريكية.
(القدس العربي)