نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية تقريرا تحدثت فيه عن الوضع في
جنوب السودان بعد سنوات من الحرب الأهلية والاشتباكات بين الطوائف.
وقالت الصحيفة، في
تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إن الدعوات للوحدة في جنوب السودان تضاعفت قبل زيارة البابا فرنسيس
جوبا ما بين الثالث والخامس من شباط/ فبراير رفقة رئيس أساقفة كانتربري لكنيسة إنجلترا والمسؤول عن كنيسة اسكتلندا. فهل يبشر ذلك بزخم جديد لعملية
السلام والمصالحة في أكثر دولة فتية في العالم؟
إثر الاستقلال في سنة 2011 بعد عقود من الحرب، عاد شبح الحرب الأهلية ليخيّم على جنوب السودان مجددا في سنة 2013 في ظل الخصومات القائمة بين الرئيس سلفا كير الذي ينتمي إلى قبيلة الدينكا، ونائبه ريك مشار من قبيلة النوير.
وتعد كل من قبيلتي الدينكا والنوير أكبر مجموعتين عرقيّتين في البلاد. واليوم، توحّد الخصمان في حكومة وحدة وطنية وانتقال بموجب اتفاق سلام سنة 2018، ولكنهما فشلا منذ ذلك الحين في وقف
العنف: حيث اندلعت اشتباكات مجتمعية على خلفية صراعات على السلطة أودت بحياة الآلاف وتشريد مئات الآلاف من الناس.
ونقلت الصحيفة عن رئيس بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان، نيكولاس هايسوم، أن "هذا العنف وهذا القتال الذي يتسم بنزعته القبلية المثيرة للقلق مدمر"، محذرًا من "إمكانية أن يعرقل عملية السلام"، كما أعرب عن قلقه من احتمال تصاعد هذا العنف مع اقتراب انتخابات سنة 2024.
حدد هايسوم خمس "نقاط ساخنة" في البلاد، مشيرا إلى أن بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان تلتزم بمواصلة إجراءات دعم الحوار "من خلال تنظيم" مؤتمرات من أجل السلام، معربا عن أسفه لاستئناف "حلقات النزاعات الطائفية".
إنفاق ملايين الدولارات
ازداد عدد مبادرات بناء السلام والمصالحة في جنوب السودان بشكل ملحوظ. وهي "صناعة سلام" حقيقية تُقدر قيمتها بملايين الدولارات منذ نهاية الحرب الأهلية السودانية الثانية سنة 2005 واستقلال البلاد سنة 2011، لكن نتائجها تركت شكوكا عديدة بدءا من إنشاء دولة جنوب السودان نفسها، التي تُعتبر الولايات المتحدة في الغالب المسؤول الرئيسي عن نشأتها.
ونقلت الصحيفة عن دبلوماسي طلب عدم الكشف عن هويته أن "هناك نقصا حادا في التنسيق بين مختلف الجهات الفاعلة في المصالحة"، بالإضافة إلى "حقيقة أن المجتمع الدولي يصمم برامج دون أن يأخذ بعين الاعتبار تطلعات شعب جنوب السودان". ترى عدة مصادر أن الأحكام المتعلقة بالعدالة الانتقالية والمصالحة في اتفاقية السلام لسنة 2018 ربما لن ترى النور.
وذكرت الصحيفة أن القس الكاثوليكي غريغور شميدت، زعيم مبعوثي القديس دانيال كومبوني في جنوب السودان، أمضى أكثر من عشر سنوات بين قبائل النوير في قرية فنجاك القديمة في ولاية جونقلي، وهو يشك في تأثير اتفاق السلام على المصالحة. وقال في أحد تصريحاته "يجب أن يكون نائب رئيس جمهورية جنوب السودان رياك مشار والرئيس سلفا كير أول من يشهد عملية الحقيقة والمصالحة. لكن هل سيفعلون ذلك؟ لا أعتقد ذلك".
وأشار إلى أن هناك "رغبة في الانتقام من الفظائع التي ارتُكبت ضد قبيلة النوير في بداية الحرب الأهلية، في كانون الأول/ ديسمبر 2013، في جوبا". وهو يرى أنه وحدها المبادرات المنبثقة من المجتمعات نفسها والمنفذة وفقا للتقاليد يمكنها حل النزاعات المتجذرة في التاريخ. وفي نظر غالبية سكان جنوب السودان، فإن التضحية بحيوان أكثر قيمة بكثير من التوقيع على وثيقة مكتوبة، على حد تعبيره.
الكنيسة في قلب عملية المصالحة
أوردت الصحيفة أن جاكلين ناسيوا، المتخصصة في سيادة القانون والمديرة التنفيذية لمركز الحكم الشامل والسلام والعدالة في جوبا عاصمة جنوب السودان، شاركت في المشاورة الوطنية التي أجريت في سنة 2022 لإنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة المخطط لها بموجب "اتفاقية السلام". وهي عملية بدأتها وزارة العدل في كانون الثاني/ يناير 2022 بدعم لوجستي من الأمم المتحدة.
أعربت ناسيوا عن ارتياحها لرؤيتها أخيرا تقدما في تنفيذ الفصل الخامس من اتفاقية السلام قائلة: "لقد أجرينا مشاورات عامة في الدول الإقليمية العشر ومنطقتين إداريتين ومخيمات النازحين واللاجئين. لقد تحدث الناس بوضوح شديد: إنهم يريدون وضع حد لإراقة الدماء ويريدون أن تقود الكنيسة عملية المصالحة وليس الحكومة".
ونقلت الصحيفة عن موريس أوكويرا، المكلف بالوساطة والمسؤول عن المصالحة في مجلس كنائس جنوب السودان، الذي يضم سبع كنائس كاثوليكية وبروتستانتية، أن "الناس يثقون في الكنيسة". وتجدر الإشارة إلى أن أوكويرا شارك في وساطة طويلة وصعبة في أعقاب
الصراع في قرية تومبورا في أيار/ مايو 2021، التي خلفت ما لا يقل عن 300 قتيل.
مع فريق من رجال الدين، عُقدت مجموعات من "الاجتماعات الخاصة" مع زعماء محليين، وسكان وحتى سياسيين متورطين في تصعيد التوترات. حيال هذا الشأن، قال أوكويرا: "في البداية، رفض ممثلا مجموعتي أزاندي وبلاندا الجلوس في نفس الغرفة. ولكن من جلسة إلى أخرى، "من خلال الصلاة والمشورة"، استقرت الأمور". بعد ذلك استغرق الأمر شهورا". وأضاف قائلا: "لقد تمكنا من جمع نفس الأشخاص معا واعترفوا بأفعالهم أمام الآخرين، وكانت لحظة حقيقة مثيرة وعظيمة".
وأوردت الصحيفة أن جهود الاسترضاء تظل هشة في مواجهة صراعات السلطة. تحدث الأب باولينو تيبو دينق، زعيم مبادرة أعالي النيل الدينية للسلام والمصالحة قائلا: "كنا ننظم أنشطة للتوفيق بين مجموعات النوير والشلك والدينكا والمابانيز والكوما لمدة ثلاث سنوات، ولكن الآن وصل كل شيء إلى ذروته".
وفي آب/ أغسطس 2022، تسبب الصراع بين جنرالين في تأجيج صراع طائفي بين قبيلتي النوير والشلك. لمحاولة مساعدة لاجئي الشلك من مدينة كوستي، الذين يعيشون في ظروف لا تليق بهم، هناك أمل أن يؤثر البابا بلغته على قلوب كل هؤلاء القادة، وربما إقناعهم بالتوقف عن الانتقام.