لم يمر أسبوع على المصادقة على تشكيل حكومة
نتنياهو السادسة، حتى طلع وزير
القضاء الإسرائيلي الجديد يريف ليفين، بما سماها «المرحلة الأولى للإصلاح القضائي»، وشملت تغييرات جوهرية في إدارة وفي قوانين الجهاز القضائي، تؤدّي عمليا إلى تقليص صلاحيات السلطة القضائية، وإلى إخضاعها للمستوى السياسي. كل التجديدات التي اقترحها ليفين هي باتجاه واحد وهو سحب الجهاز القضائي برمّته من الوسط نحو
اليمين المتطرّف الفاشي. وتحمل خطة التغيير الجديدة مخاطر جدّية على
الفلسطينيين في الضفة والقدس والداخل وغزّة، ولكن ما يثير الانقسام الداخلي في إسرائيل هو قضايا أخرى تتعلّق بالدين والدولة والحريات الفردية والفصل بين السلطات. ولعل أكثر ما يزعج المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، هو أن الحماية القانونية في المحافل الدولية لإسرائيل وقياداتها السياسية والعسكرية ستضعف كثيرا تبعا لسقوط الادعاء بأن عند إسرائيل «جهازا قضائيا مستقلا ومستقيما وقويّا» يقوم بالتحقيق بنفسه في أي جريمة، وأي مخالفة للقانون الدولي، ما يسقط، تبعا للأبواق الإسرائيلية، الحاجة إلى تدخل دولي. وعلى الرغم من أن مخططات حكومة نتنياهو خطيرة ولها آثار سلبية واضحة على الشعب الفلسطيني، فهي توفّر في المقابل فرصا كثيرة لاستغلال نقاط ضعفها ولتوظيف نفور العالم في محاصرة وعزل الدولة الصهيونية وسياساتها.
سحب القضاء إلى اليمين
تندرج حملة تقويض الجهاز القضائي الإسرائيلي، التي شرعت بها حكومة نتنياهو، ضمن مسعى اليمين المتطرف للهيمنة المطلقة على مفاصل الحكم، وللسيطرة على الدولة العميقة، بادعاء مستعار من ترامب، بأن «الدولة يحكمها موظّفون غير منتخبين، ينتمون الى المعسكر الليبرالي، ولهم سلطة كبيرة في مفاصل الحكم لا يستحقونها ويسيئون استعمالها باستهداف رأس الدولة المنتخب». ويسود في اليمين الإسرائيلي شعور بأنه يصل إلى الحكم ويشكّل الحكومات، لكنّه يبقى عاجزا عن تنفيذ سياساته بالكامل، بسبب سيطرة نخب اليسار والوسط على مفاصل الدولة العميقة. وقد شرح وفصّل ذلك الكاتب إيريز تدمور في كتابه «لماذا تصوّت لليمين وتحصل على اليسار». الهدف الأول لخطّة ليفين هو المحكمة العليا الإسرائيلية، بحجّة أنها تلغي قوانين تسنها الكنيست وبأنّها تدافع عن حقوق الفلسطينيين، وتمنع الحكومة المنتخبة من تنفيذ سياساتها. في الحقيقة المحكمة العليا هي أداة طيّعة للسياسات الاستعمارية الصهيونية، ولم تقف في يوم من الأيام ضدها. وينطلق القضاء الإسرائيلي، بما فيه المحكمة العليا، من المبادئ الصهيونية ولا يحيد عنها، ولديه في بعض الأحيان تفسيرات مختلفة لهذه المبادئ، لا تتطابق بالكامل مع سياسات الحكومة. وخلال متابعتي لجلسات المحكمة لعليا الإسرائيلية بشأن قانونية إبعاد قيادات حماس إلى مرج الزهور في لبنان، سألت محامي الدفاع، هل من المعقول أن يقوم رابين (رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها) بخطوة الإبعاد دون الحديث مسبقا مع رئيس المحكمة العليا؟ فأجابني «هو ليس بحاجة للحديث معه، لأن بينهما توارد أفكار ومبادئ مشتركة»، فالتفاهم الضمني في القضايا «المبدئية» هو من القوّة بمكان ولا يلزمه تنسيق مباشر. غاية حكومة نتنياهو ليس جعل القضاء الإسرائيلي أكثر صهيونية، بل سحبه الى حظيرة اليمين الفاشي، ليتبنّى التأويلات المتطرّفة للصهيونية، ولوأد أي محاولة مهما كانت بسيطة لفرض تقييدات على عمل الحكومة والكنيست الواقعتين تحت هيمنة يمينية طاغية. وقد شرع الكنيست الإسرائيلي في سن سلسلة من القوانين لإحكام سيطرة اليمين المتطرف على المجالات كافة، ما أثار جدلا حادّا في الرأي العام وفي المجتمع الإسرائيلي، دفع القاضي المتقاعد أهرون باراك، أهم شخصية قضائية في تاريخ الدولة الصهيونية، إلى القوال بأن إسرائيل تتجه لتصبح «دولة غير ديمقراطية» وبأن «الانقلاب القضائي لا يختلف عن الانقلاب بالدبّابات».
القوانين العينية
ما هي هذه التغييرات القانونية الجديدة؟ في الواقع هي كثيرة ومن المتوقّع أن تتكاثر لاحقا، فقد أعلن وزير القضاء الإسرائيلي الجديد أن «هذه هي المرحلة الأولى فقط». ويكفي، هنا، أن نذكر بعض هذه القوانين:
قانون سيموتريتش، الذي مرّ رسميا في الكنيست، ويقضي بتعيين هذا الوزير اليميني الفاشي وزيرا في وزارة الأمن، تخضع لصلاحيته الإدارة المدنية في الضفة الفلسطينية، وهو مسؤول عن المستوطنات وعن التخطيط والبناء في منطقة «ج»، وهو لم يخف نيّته بضم المستوطنات الى إسرائيل وتكثيف البناء في المستوطنات مقابل تكثيف هدم المنازل الفلسطينية.
منح الاعتراف القانوني والحكومي للبؤر الاستيطانية غير الشرعية، ويبلغ عددها 67 بؤرة موزّعة في أنحاء الضفة كافة، ويقطنها غلاة المستوطنين من «فتيان التلال»، الذين يعتدون على المواطنين الفلسطينيين ويقومون باقتلاع الزرع وتخريب الممتلكات بشكل يومي. وسيؤدّي الاعتراف بها إلى توسيعها على حساب أراضي المواطنين الفلسطينيين. والجدير ذكره أن هذه الخطوة هي جزء ملزم من الاتفاق الائتلافي، الذي نص على تنفيذها خلال 60 يوما من تشكيل الحكومة.
تغيير طريقة انتخاب القضاة، بحيث يكون للحكومة أغلبيه مطلقة تمكّنها من تغيير القضاة على هواها. والهدف المعلن هو انتخاب قضاة «محافظين»، أي قضاة من اليمين المتطرف، فحتى القضاة من اليمين التقليدي لا تقبل بهم حكومة نتنياهو الجديدة. ومن الواضح أن القضاة الجدد سيقومون بتلميع عمل الحكومة بدل انتقادها، وهم بالتأكيد سيكونون أكثر تطرّفا من القضاة الحاليين.
قانون التغلب، الذي ينص على أن الكنيست يستطيع التغلّب على قرارات المحكمة العليا بشأن إلغاء قوانين تناقض القوانين الدستورية. وهذا يعني فتح المجال لسن أي قانون مهما كان منافيا للقانون الدولي ولقوانين الأساس الإسرائيلية. النتيجة ستكون حتما سلسلة من قوانين المصادرة والقمع والاضطهاد وحصار الوجود الفلسطيني.
قانون سحب جنسية الأسرى الفلسطينيين، وقد مرّ بالقراءة الأولى بدعم من الائتلاف والمعارضة، وهو يقضي بسحب جنسية من قام بعملية «إرهابية» وبإبعاده إلى مناطق السلطة الفلسطينية. وقد امتنع الكنيست، سابقا، من المصادقة على مثل هذا القانون خوفا من أن تقوم المحكمة العليا بإلغائه، لأنّه يتعارض مع القانون الدولي، الذي ينص بشكل قاطع «ممنوع بتاتا سحب جنسية أي إنسان ليس لديه جنسية أخرى، وممنوع ترك أي إنسان بلا جنسية». وتكمن خطورة القانون أيضا بأنّه يضع علامة استفهام على مواطنة فلسطينيي الداخل ويزرع بذور الترانسفير.
قانون صلاحيات وزير الأمن القومي، وقد جرى إقراره في الكنيست الأسبوع الماضي. وينص على توسيع صلاحيات الوزير بكل ما يخص سياسات وأولويات عمل الشرطة وإتاحة تدخله في نشاطها الميداني العملي. كما ينص على أن وحدات «حرس الحدود» الموجودة في الضفة الفلسطينية تخضع للوزير الجديد، إيتمار بن غفير زعيم حزب «العظمة اليهودية»، ما يعني تحويلها رسميا إلى ميليشيات للمستوطنين. لقد مُنحت كل هذه الصلاحيات لوزير هو من تلاميذ مئير كاهانا، صاحب مشروع تهجير الفلسطينيين من وطنهم. وقد شرع بن غفير بطرح جزء من مشروعه «الأمني» بإصدار أوامر بمنع رفع علم فلسطين، ودعوة الشرطة إلى قمع المتظاهرين واعتقالهم، واقتحام باحات المسجد الأقصى، وطرح خطّة لشطب حقوق الأسرى الفلسطينيين والقائمة طويلة. ويبدو أن أكثر المتضررين من سياسة بن غفير هم أهالي القدس والنقب ومدن الساحل الفلسطيني وبقية بلدات الداخل.
أبعاد خطيرة وفرص كثيرة
يمكن الاسترسال أكثر في طرح مضامين القوانين والإجراءات الإسرائيلية، التي لها كلّها تأثير لا يستهان به على قضية فلسطين، وعلى الحياة اليومية للمواطن الفلسطيني. لا يعقل الاستمرار بالعمل السياسي، كأن شيئا لم يكن، وهناك حاجة ماسة، تكاد تكون مصيرية، لاستنهاض وشحذ الهمم والمباشرة، موحّدين، بالفعل النضالي والعمل السياسي والارتقاء إلى مستوى تحدّيات الحدث الجاري والأحداث المقبلة. على المستوى الفلسطيني الداخلي، لا مجال للسأم من الحث ومواصلة الحث على الوحدة وعلى الشراكة وعلى الاصطفاف وعلى تشكيل جبهة فلسطينية واسعة وشاملة وشعبية، بغض النظر عن التسميات. لقد بدأت حكومة إسرائيل بشن هجمة غير مسبوقة على الوجود الفلسطيني، ويجب مواجهتها بوحدة نضالية غير مسبوقة. وينسحب ذلك على المستوى الفلسطيني العام، وعلى أجزاء الشعب كافة في الضفة والقدس والداخل وغزّة والشتات.
من جهة أخرى فإن التغيير الحاصل على الساحة الإسرائيلية يوفّر فرصا جديدة لمنازلة الدولة الصهيونية على الساحة الدولية، ولحشد الضغوط عليها وصولا إلى فرض عقوبات عليها وعزلها ومقاطعتها، عبر فضح قوانينها وسياساتها وتفنيد ادعاءاتها واستغلال النفور الدولي منها. فقد درجت إسرائيل على الادعاء بأن جهازها القضائي مستقل وقوي، وهو كفيل بالتحقيق في الجرائم، إذا كانت هناك جرائم، وقد صدّق المجتمع الدولي هذه الادعاءات الكاذبة، واعتبر المحكمة العليا الإسرائيلية ورئيسها التاريخي أهرون باراك نجوما «مضيئة» في عالم العدالة. وما من شك بأن العالم الذي يتابع التحوّلات الجارية في استقلالية القضاء وتغيير مكانة المحاكم وجعلها تابعة للحكومة، لن يصدّق الادعاءات الإسرائيلية التقليدية. وقد عبر مختصون إسرائيليون بشؤون الأمن والقضاء عن خشيتهم، تبعا لتقويض «استقلالية» القضاء، من تعرَض مئات من ضباط الجيش للمحاكمة الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب.
كما أن الدولة الصهيونية نفسها ستواجه وضعا أصعب بكثير في المحكمة الدولية التي ستبحث جرائم استمرار الاحتلال والاستيطان. القوانين الإسرائيلية الجديدة هي في الواقع تهديد يجب مواجهته وفرصة يجب استغلالها.
(عن صحيفة القدس العربي)