لحكومة بنيامين
نتنياهو السادسة، اليمينية المتطرفة، مشكلة واضحة مع العدالة، ومن ثم مع
القضاء، فهي ردت على نجاح دولة فلسطين بالحصول على قرار أممي بالتوجه لمحكمة العدل الدولية لاستشارتها حول ماهية الاحتلال الإسرائيلي، بما يعنيه ذلك، من رد متوقع فحواه أن الاحتلال الإسرائيلي لم يعد مؤقتا، وأن سلطة الاحتلال تغير بالضد من القانون الدولي من طبيعة الأرض المحتلة، ولا تقوم بحماية أرواح الناس، بل بقتلهم، إلى آخر ما هنالك من انتهاكات، تفرض بالتالي على الأمم المتحدة، أن تتخذ موقفا، أو أن تقدم على فعل يضع حدا لاحتلال إسرائيل الذي يقوم بفعل الضم لأرض دولة فلسطين.
ردت حكومة نتنياهو بجملة «عقوبات» على الجانب الفلسطيني، شملت مزيدا من قرصنة الأموال الفلسطينية التي تذهب لسد رمق ملايين البشر في القدس والضفة والقطاع، كذلك بفرض تقييد إضافي على حركة وتنقل قادة ومسؤولي دولة فلسطين.
تمتعض، إذاً، حكومة إسرائيل، من وترفض أن تتوجه القيادة الفلسطينية للقانون الدولي، وللأمم المتحدة والمجتمع الدولي، لتحتكم لهم، وتشكو مظلمتها المستمرة منذ عقود طويلة، وهو أمر لا يفعله سوى قاطعي الطرق ولصوص البنوك، فإن لم يلجأ المظلوم للقضاء، وإن لم يحتكم من وقع عليه جور وظلم واحتلال للمجتمع الدولي، فماذا يفعل؟ أن يفيض به الكيل فيلجأ للعنف؟ أم يستكين ويستسلم، وفي هذا تشجيع للظالم ليستمر في غيه. وفي حقيقة الأمر، في دولة القانون، يلجأ المتخاصمون للقضاء، أفرادا وجماعات، وهذا ما تشجع عليه الدولة المدنية ودولة القانون وكل الدول الديمقراطية، ولو كانت إسرائيل دولة مدنية/ ديمقراطية تنتمي للمجتمع الدولي، لقبلت التحكيم الدولي فيما يخص صراعها أو حتى خصومتها مع الشعب الفلسطيني.
في الوقت ذاته، وبعد أقل من عشرة أيام فقط على تسلم تلك
الحكومة الإسرائيلية مهام عملها، كان وزير العدل فيها، الليكودي ياريف ليفين، يتقدم بجملة من التعديلات على منظومة القضاء الإسرائيلي، وصفها زعيم المعارضة، رئيس الحكومة السابق يائير لابيد بأنها محاولة إجرامية لتهديد القضاة، وذلك قبل يوم واحد فقط من عقد جلسة المحكمة العليا بشأن ما يسمى قانون درعي، وذلك للبت في عدة طعون ضد تعيين زعيم «شاس» وزيرا للصحة في حكومة نتنياهو الحالية، رغم إدانته في العام الماضي، بجرائم ضريبية جنائية مع حكم بالسجن مع وقف التنفيذ، وهو الذي سبق وأدين العام 1999 بالرشوة حيث أمضى عامين في السجن.
صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» وصفت تعديلات ليفين على القضاء بأنها أكثر التغييرات جذرية التي جرت على نظام الحكم في إسرائيل، وهي تحد بشدة من سلطة محكمة العدل العليا، وتمنح الحكومة السيطرة على اختيار القضاة، وتحد بشكل كبير من سلطة المستشارين القانونيين للحكومة. وحقيقة الأمر أن مشاعر الضغينة تجاه القضاء، تنتاب كلا من نتنياهو ودرعي، ذلك أن المعارضة الإسرائيلية، إبان حكومات نتنياهو السابقة، اعتمدت كثيرا في محاولتها التي نجحت قبل عامين في إخراجه من الحكم، على القضاء، وكانت التهم القضائية الموجهة ضده مادة دعائية للمعارضة للنيل منه، أما درعي فكان قد اشترط على نتنياهو حتى ينضم لحكومته ويمكنه بالتالي من تشكيلها، أن ينزع عنه وصمة العار التي تحول دون أن يتولى منصب الوزير في الحكومة الحالية، وكان بالتالي متوقعا أن تبدأ حكومة التطرف اليميني الإسرائيلي ولايتها بالهجوم على القضاء، كونه أحد أضلاع مثلث أعداء الحكومة الإسرائيلية الحالية، إلى جانب عدائها للفلسطينيين وللمدنية والعلمانية واليسار الإسرائيلي عموما.
ولأنه لا يمكن فصل الأمور عن بعضها، وهي متداخلة، فلا يمكن التوقع من حكومة متطرفة أن يقتصر عداؤها للجانب الفلسطيني وحسب، والتطرف له أشكال عديدة ويمارس فعله في كل الاتجاهات وعلى كل المستويات، وهذه الحكومة الإسرائيلية، في الوقت الذي ستواصل فيه سن القوانين التي من شأنها أن ترسخ احتلالها لأرض دولة فلسطين، والتي من شأنها أن تزيد من القهر للشعب الفلسطيني، فإنه متوقع منها أن تقوم بسن القوانين واتخاذ القرارات التي تعزز من توجه دولة إسرائيل، إلى أن تتحول تماما إلى دولة شرعية دينية متشددة، تمارس العنف والإرهاب خارج حدودها ضد الآخرين وأولهم بالطبع الفلسطينيون، وداخل حدودها، ضد العرب
الفلسطينيين من مواطني الدولة، وضد العلمانيين واليساريين، أي ضد كل من هو ليس يمينيا ــ متطرفا، أو يمينيا دينيا، ولعل «الصهيونية الدينية» ببرنامجها السياسي وقيادتها تمثل طبيعة المحتوى الذي تذهب إليه إسرائيل بشكل متسارع، بعد أن قادتها حكومات مشكلة من اليمينيين والمتدينين عقودا متواصلة.
وحتى تتحول إسرائيل إلى دولة شريعة، أي إلى دولة دينية، فلا بد أن يتم تغيير منظومة قوانينها التي تعتبر العمود الفقري لنظام الحكم، تنزع عنها بالتدريج الطابع المديني، وحقيقة الأمر أن حرب اليمين الإسرائيلي المتحالف مع الحريديم طوال العقود الماضية، ضد مدنية وحتى ديمقراطية الدولة، مستمرة، وقد ظهرت نتائجها، أولا بإسقاط الشريك الفلسطيني في عملية السلام بعد قتل رأسه ممثلا بياسر عرفات في شرك الانقسام، وإضعافه، وكان هذا بفعل حكومات اليمين الإسرائيلي، وكذلك بتبديد وتلاشي اليسار الإسرائيلي، بعد ضمور حزب العمل، وفشل «ميرتس» حتى في تجاوز نسبة الحسم في الانتخابات الأخيرة، إلى أن بدأ هذا التحول يمس اليمين الليبرالي أو العلماني نفسه، أي «الليكود»، وكان أفيغدور ليبرمان وجدعون ساعر، قد أظهرا هذا المسار باحتجاجهما على شراكة «الليكود» مع الحريديم واليمين المتطرف، «البيت اليهودي» أولا، و»الصهيونية الدينية» ثانيا، وهذا يعني أن «الليكود» نفسه قد يبدأ في التآكل بعد نتنياهو، لصالح ورثة كاهانا من «قوميين متدينين»، فيرث نتنياهو كل من
بن غفير وسموتريتش، وليس أي أحد من «الليكود».
لهذا تعتبر ولاية الحكومة الحالية أمرا فاصلا ــ بتقديرنا ــ في تاريخ إسرائيل، ليس بما يخص فقط حل الدولتين، حيث بدأت تلك الحكومة «بمحو الخط الأخضر» وذلك بجمع الخرائط الموجودة في المدارس التي تشير له أو تتضمنه، مع، طبعا، تسليم مقاليد الوجود الاحتلالي لبن غفير وسموتريتش، وهكذا فإن خطر هذه الحكومة لا يقتصر على الفلسطينيين والجيران العرب والمسلمين عموما، ولا يتمثل فقط بضمها لأرض دولة فلسطين، بل يصل إلى تهديد حياة ومستقبل مواطني إسرائيل من العرب أولا ومن اليهود غير المتدينين وغير المتطرفين ثانيا، لهذا ومع تقدير المراقبين بأن تلك الحكومة لن تمضي ولايتها، أي الأربع سنوات، حيث ستعصف بها المشاكل الخارجية والداخلية، إلا أن كل يوم يمر على وجودها يمثل خطرا على مستقبل الشرق الأوسط، بما فيه إسرائيل كدولة قابلة للتعايش، ولهذا بدأت إسرائيل تتعرض للتظاهرات الصاخبة التي غابت عنها سنوات طويلة، ولعل أولها وأهمها، تلك التي جرت، مساء السبت الماضي، في تل أبيب، وشارك فيها الآلاف، يتقدمهم رئيسة حزب العمل، وأيمن عودة رئيس القائمة العربية، وجادي آيزنكوت رئيس أركان الجيش السابق، وتسيفي ليفني الليكودية السابقة زعيمة «كاديما» ووزيرة الخارجية السابقة، وذلك دفاعا عن الديمقراطية واحتجاجا على ما وصفوه بتحريض الحكومة ضد الإسرائيليين.
(عن صحيفة الأيام الفلسطينية)