على بعد 27 كم من الشمال الغربي لمدينة رام الله وسط الضفة الغربية المحتلة
تقع قرية
فلسطينية تاريخية مرت عليها العديد من الحضارات منذ العصر الحديدي حتى
يومنا هذا.
وتتمركز قرية "
دير غسانة" على أقدم جبال القدس الشمالية
"جبال غسان" في مواجهة الساحل الفلسطيني بموازاة مدينة يافا، وتشرف على
وادي بني زيد الذي يعتبر الحد الفاصل تاريخيا بين جبال القدس وجبال نابلس.
يعود أصل تسمية دير غسانة بحسب الباحث في التاريخ ابن القربة رامي
صخر البرغوثي إلى العرب الغساسنة الذين اقاموا مركزا لحكمهم في "جبال
غسان" وبنو فيها ديرا سمي "دير غسان الكبير" ومنه اشتق اسم القرية.
وقال البرغوثي لـ
"عربي21": "هناك اسم أقدم من دير
غسانة وهو الصريدة بحسب ما ذكر في معثورات المغارة الخامسة من مغاور قمران".
وأضاف: "مرت دير غسانة بمراحل تاريخية مختلفة وتمثلت فيها كافة
الحضارات من أبرزها وأكثرها وضوحا العصر الحديدي إلى الفارسي واليوناني والروماني
بشقيه والعصور الإسلامية المختلفة والتي تخللتها فترة حكم الفرنجة، ويتضح ذلك من
خلال العمارة والمدافن والخرب المجاورة والمعثورات الأثرية المختلفة في القرية".
رامي صخر البرغوثي.. باحث في التاريخ
وتابع: "مرت دير غسانة وشاركت تاريخيا بعدة أحداث، حيث لعبت دور
مركز القطاع لـ 19 قرية في زمن الأيوبيين وذلك من خلال قبيلة بني زيد التي أعطت
اسمها للمنطقة التي عرفت بهذا الإسم حتى الآن، وشاركت في حروب الفرنجة زمن
المماليك كما حكمت منطقة بني زيد كزعامة كرسي زمن الأتراك العثمانيين وشاركت في
الثورة ضد الحكم المصري زمن إبراهيم باشا".
وأوضح أن سكان قرية دير غسانة تعرضوا للتهجير خلال الحرب العالمية الأولى
لمدة تسعة أشهر قبل أن يعودوا لها، مؤكدا أنها تعرضت لقصف بالطائرات واجتياح عسكري
فترة الاحتلال البريطاني عام 1938م، حيث كانت تحتضن اجتماعا لقادة الثورة
الفلسطينية الكبرى آنذاك.
وأشار البرغوثي إلى أن القرية لعبت دورا مميزا في الحياة العلمية
والثقافية على مستوى المنطقة، فقد كانت من أوائل القرى التي بنت المدارس التي قدمت
المعرفة والتعليم للقرى المجاورة وذلك منذ عام 1912م.
وتطرق الباحث الفلسطيني إلى الأهمية المعمارية للقرية، مؤكدا أن
عمارتها تعكس مرحلة مهمة في تاريخ العمارة الفلسطينية وعمارة منطقة جبال الوسط من
خلال بروز ظاهرة العمارة المعروفة بـ "عمارة قرى الكراسي" من خلال ما
اصطلح على تسميتة بـ "قصور شيوخ النواحي".
وقال: "إن بلدة دير غسانة والأراضي المجاورة لها تحضن قرابة 20
مقاما وموقعا دينيا تراثيا، أهمها: مقام الشيخ خالد، الخواص، المجدوب، الشيخ، عبد
الله، الشيخ عصفور، العطيري، والرفاعي وهو أحد الأولياء الصالحين وأحد اقطاب
الصوفية وله بناء يعتقد أنه أقيم في مكان استراح فيه الرفاعي حيث كان تعرض لجرح في
إحدى المعارك وسال دمه مكان البناء".
وأضاف: "امتلكت البلدة مساحة واسعة من الأرض التي زرعت بشجر
الزيتون والتين والعنب، فيما أراضي الفلاحة فيها قاربت على الـ 16000 دونم، مما جعلها
تعتني بإنشاء معاصر الزيتون منذ القدم والتي تجد العشرات منها في محيط البلدة ضمن
الأراضي الزراعية منحوتة في الصخر وشاهدة على عراقة زراعة الزيتون والعنب فيها".
وتابع: "أما حديثا فقد أسست أول معصرة زيتون ومطحنة قمح في أوائل
عشرينيات القرن الماضي وضمت ثلاث معاصر ميكانيكية (بابور زيت) واثنين من البدود في
آن واحد، وفي سبعينيات القرن الماضي اسست اول معصرة حديثة كجمعية تعاونية".
وتحتضن دير غسانة بحسب البرغوثي وفي الاتجاه الشمالي والغربي محمية
"وادي الزرقاء العلوي" والتي تضم جزء من اراضي دير غسانة وعدة قرى وهي:
اللبن الغربي، عابود، دير بلوط، بروقين، كفر الديك، وكفرعين، وتنتهي عند حدود الأراضي
المحتلة منذ عام 1948م في أراضي بلدة رنتيس حيث تشغل هذه المحمية الضحمة ما مساحة
13340 دونم .
وأوضح أن محمية وادي الزرقا العلوي تضم عددا من المواقع الأثرية التي
تمثل التراث الحضاري الفلسطيني ومن بينها خربة البلاطة في وادي صريدة وهي بلدة
رومانية بيزنطية بها بقايا أبنية ومعاصر، وآبار ومدافن وجرون ونقوش في الصخر وتقع
ضمن تلة قليلة الارتفاع تأخذ شكل شبه الجزيرة من خلال إحاطتها بمجرى الوادي من
ثلاث جهات مما منحها مشهدا خلابا.
كما تضم المحمية بحسب البرغوثي خربة الدوير وهي بقايا بناء قلعة
ومعاصر ومدافن تعلو قمة تلة صغيرة تشرف على الوادي إلى الشمال منها ضمن نفس التلة
وفي تدرج أعلى تقع خربة زنعر والتي تضم بقايا مبان ومدافن وآبار وبركة ماء كلها
تعود للفترة الرومانية البيزنطية.
وأشار إلى أن خربة القلع والتي تعلو قمة تلة تقع بين دير غسانة وكفر
الديك وهي خربة تعود للعصر البرونزي والحديدي وتضم آبارا ومعاصر دائرية ومربعة
ومغاور ونقوش في الصخر إضافة إلى عدد من المواقع الأثرية المتعددة والتي تنتشر
بشكل مبعثر على شكل آبار وبقايا أبنية ومدافن ونقوش في الصخور على شكل جرون.
وقال الباحث في التاريخ: "تضم المحمية كذلك عددا من مصادر الماء
سواء الجوفية مثل مضخة واد صريدة قرب الشاميات أو الينابيع والأودية الموسمية التي
تقع في سفوح المحمية".
وأضاف : "إن وادي بني زيد يعتبر من الأودية المهمة تاريخيا
فيها، حيث شكل الحد الفاصل بين جبال القدس وجبال نابلس كما أنه شكل الحد الفاصل
بين الجيش البريطاني والجيش التركي في الحرب العالمية الأولى وشهد معركة كانت من
المعارك الفاصلة في الحرب العالمية الأولى، وهو وادي غزير في موسم الأمطار ويمتد
من واد البلاط قرب عين سينيا إلى وادي صريدا حتى يلتقي برأس العين في فلسطين
التاريخية".
وتتبع قرية دير غسانة إداريا إلى مجلس قروي بني زيد الغربية والذي
يضم قريتي دير غسانة وبيت ريما.
وأكد خالد باجس البرغوثي، عضو المجلس القروي لـ "بني زيد
الغربية" على أن البلدية تقدم كافة الخدمات للقريتين من بنية تحتية وخدمات
مياه وإنارة ومدارس وتنظيم الطرق والأراضي وغيرها من الخدمات المعتادة.
خالد باجس البرغوثي، عضو المجلس القروي لـ"بني زيد الغربية"
وقال البرغوثي لـ
"عربي21": "إن البلدية قامت بإعمار
منزل قديم في قرية دير غسان يطلق عليه اسم (دار خطاب)، والآن يشغله مركز تنمية
الطفل التابع لجمعية روان، حيث يقدم خدمات لمعالجة صعوبات التعلم وغيرها من
الصعوبات التي تواجه الأطفال".
وأضاف: "تدرس البلدية حاليا تقديم عروض لإعمار بعض المواقع
ولدينا أفكار سيعلن عنها لاحقا، وقد تم حديث أولي مع وزارة السياحة والآثار
وجمعيات ومؤسسات أخرى في نفس المجال".
وأوضخ أن البلدة تتعاون مع بعض المؤسسات لإقامة معارض منتجات محلية
وعروض فنية شعبية في وسط البلد القديمة بين البيوت التاريخية (الساحة) كما تم مع
جمعية أصالة ومركز الفن الشعبي والمرصد قبل شهرين تقريبا بهدف الترويج للمنطقة
وتشجيع المنتجات المحلية.
وأكد البرغوثي أن البلدية تعكف على إعداد خطة استراتيجية تستهدف
السياحة والمواقع الأثرية بالإضافة إلى باقي القطاعات الرئيسية في القرية.
واعتبر الإعلامي محمد الشعيبي وهو مصور وموثق الحياة البرية أن قرية
دير غسانة واحدة من أهم القرى الفلسطينية من الناحية التاريخية حيث أنها غنية في
المواقع الأثرية وتزينها محمية وادي عين الزرقاء التاريخية.
محمد الشعيبي.. إعلامي فلسطيني
وأوضح الشعيبي في حديثه لـ
"عربي 21" أنه تم في آب/ أغسطس
من العام 2021م إدراج القرية على قائمة التراث التابعة لمنظمة العالم الإسلامي
للتربية والثقافة والعلوم "الإيسيسكو".
واعتبر أن إدراج القرية على قامة التراث التابعة لـ "الايسيسكو"
إنجاز كبير يؤكد على
الهوية الفلسطينية لها ويعزز بعديها العربي والإسلامي، خاصة
في ظل ما تتعرض له من اعتداءات إسرائيلية ومحاولة تهويد للتراث الفلسطيني بجميع
مكوناته.
وشدد على أن هذا التسجيل سيساهم في ترويج هذه المواقع كمواقع تراث
تستحق الزيارة، لما تحتويه من قيم ثقافية وطبيعية وعناصر جذب سياحي، بالإضافة إلى
الإسهام في استقطاب مشاريع تطويرية من خلال المنظمة.
وقال الشعبي: "يمكن للزائر أن يتمعن في المقامات التاريخية التي
تشتهر بها دير غسانة، مثل (الرفاعي ـ المجذوب ـ الخواص) وفيما يقع مقام الخواص على
الجهة العلوية من المحمية وسمي بذلك نسبة لرجل دين يدعى الشيخ أبو إسحق بن أحمد بن
إسماعيل الخواص السامرائي والذي كان يعتزل الناس بهدف الصلاة والتقرب إلى الله،
وامتهن الخوص التي يصنع منها الأدوات المنزلية (صواني الخوص) والخوص عبارة عن نبتة
تشبه القصب، وفق ما يقول مؤرخو البلدة".
وأضاف: "هناك تسليط إعلامي جيد على هذه القرية التاريخية إضافة إلى
أنه يواكب توثيق الحياة البرية فيها من أنواع الطيور والحيوانات والعيون والينابيع
والمسارات البيئية فيها".
وقال: "تبدأ رحلة المسارات من وسط البلدة وباتجاه شمال غرب
القرية، بالهبوط نحو وادي يسمى (وادي العونية) وهو وادي يمتد نحو5 كم في أراضيها
التي يمتلك أهالي القرية منها ما يقارب 85%، وفي الوادي، ويمكن للزائر أن يرى على
يساره جبلا يسمى بالباطن، من سلسلة الجبال الوسطى في فلسطين، ويعتبر حدا فاصلا بين
جبال القدس ونابلس، والتي من خلالها تطل على السهل الساحلي الفلسطيني".
وأضاف: "يمكن للزائر المتجول أن يرى أوراق (زعتر البلاط ـ
القرنية) صغيرة وطولية الشكل، وهو ما يميز المحمية عن بقية محميات الوطن، نتيجة
تأثرها بمناخ منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، وسيرى الزائر نبتة الزعيتمان، وهو
ما يدلل بأن الأراضي كلسية وفيها نسبة من الرطوبة".
وتابع الشعيبي: "سيلاحظ الزائر خلال تجوله تنوعا نباتيا من
البداية حتى النهاية، بحيث تنبت بها شجرة البلوط والبطوم والقيقب والفيجم والزعرور
والميرمية واللبيد، والكتيلا ورجل الحمام، بالإضافة إلى كثرة أشجار الزيتون فيها
والزيتون الروماني القديم، وفيما يسكن المحمية الوبر الصخري والغزلان والخنزير
والثعلب والواوي والنسانس والنيص".
وأشار إلى أنه في وسط المحمية سيصعد الزائر قليلا نحو "وادي
صريدا"، ليصبح قريبا من قريتي اللبن الغربية ودير بلوط، حيث مملكة صريدا
والتي تقع في الثلث الأخير من المحمية، والتي يعود أصلها إلى "يربعام بن
نباط" أحد عمال النبي سليمان والذي انشق عليه فيما بعد وأسس له مملكة في شمال
فلسطين، ومنها يمكن للزائر في الجبل المقابل له "مغارة أم البابين".
وأكد الشعيبي أن المحمية تعاني من اعتداءات مستوطني مستوطنة
"بيت أريه" الإسرائيلية غير الشرعية والتي تبعد عنها حوالي 900 متر، مشيرا إلى أنهم يقومون بتسييج النبعة المائية لها بهدف تغيير معالمها
الطبيعية وبناء بركة مائية مجاوره لها لاستخدمها في تربية الأسماك.