عندما قرأتُ عنوانها الملغوم، خِلْتُ نفسي أنني أمام
حركة وليدة في أحد بلدان الشرق الأوسط، الذي يغصّ بالأزمات والحروب والسلاح
المُدجّج، ويشهدُ حالات لجوء نحو الخارج هروبا من الفلتان والفقر المُدقع، ولكنّ
مُخيّلتي لم تأخذني مأخذا صحيحا هذه المرة، لأنّ هذه الحركة التي تطلق على نفسها
اسم "ِنُغادر البلد معا"، هي حركة
إسرائيلية حديثة العهد، تتكتم
السلطات الإسرائيلية على أخبارها؛ لأنها تهدف بحسب تغريدات الأشخاص المؤسّسين لها
إلى تشجيع الإسرائيلي على
الهجرة العكسية، ونقل ما يقارب عشرة آلاف إسرائيلي من
فلسطين المحتلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية كمرحلة أولى، وصولا إلى مرامها
المنشود، ألا وهو إيجاد الوطن البديل للصهاينة بعدما تدهورت الأوضاع السياسية والأمنية
داخل دولة الاحتلال..
وعلى صعيد التحليل، استوقفتني في نشأة هذه الحركة (المُباركة)
نقطتان اثنتان، أُولاهما؛ أنّ أحد مؤسسي هذه الحركة هو رجل الأعمال الإسرائيلي
مردخاي كوهانا، الذي نشط تاريخيّا في جلب المستوطنين الإسرائيليين إلى فلسطين. أمّا اليوم، فقد بات مقتنعا بأنه أخطأ في تحديد الهدف والوجهة، ولا بد من الرحيل
عن أرض الميعاد، ولأنه مُصمّم على تحقيق هدفه كما هو في السابق، فقد عرضَ مردخاي
مزرعته في أمريكا على زبائنه من أجل الاستيطان، مُعلّلا ذلك بالخطر المحدق الذي
يحيط بدولة الاحتلال؛ إثرَ تحالف رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو مع الأحزاب
اليمينية المتطرفة، ما ينذر بتحول دولة الاحتلال إلى دولة أصولية متطرفة.
أحد مؤسسي هذه الحركة هو رجل الأعمال الإسرائيلي مردخاي كوهانا، الذي نشط تاريخيّا في جلب المستوطنين الإسرائيليين إلى فلسطين. أمّا اليوم، فقد بات مقتنعا بأنه أخطأ في تحديد الهدف والوجهة، ولا بد من الرحيل عن أرض الميعاد.
ولهذا، كتبَ مردخاي كاهانا أنه بعد سنوات من تهريب
اليهود من مناطق الحرب في اليمن وأفغانستان وسوريا وأوكرانيا إلى دولة الاحتلال،
يقرر اليوم مساعدة الإسرائيليين على الانتقال إلى الولايات المتحدة. وأضاف أيضا؛ "إنّ
أعضاء الحزب الإسرائيلي الأمريكي اعتقدوا أنني متطرف بعض الشيء، وقلت لهم إنّ
الوقت قد حانَ لتقديمِ بديل للحركة الصهيونية في حال استمرار تدهور الوضع، فأنا
لا أتمنى أن يتم تدمير بلدنا، ولكن ماذا سيحدث لو تم تدميرها؟!
وبهذا التصريح، يمكن أن نعرف السبب الحقيقي وراء تأسيس
هذه الحركة، وهو أنّ هناك مخاوف أمنية حقيقية داخل أجهزة الاحتلال، والخوف ليس من
صاروخ هنا وصاروخ هناك، بل من حالة السقوط والفشل الحقيقي في منظومة الاحتلال
التي يشهد بخرابها مردخاي كوهانا ومسؤولون أمنيون إسرائيليون، كانوا يتعاملون
مؤخرا وبشكل مباشر مع العمليات الفلسطينية ضد الاحتلال، التي تُعتبر أكبر خرق
أمني وعسكري في صميم الاحتلال الإسرائيلي..
النقطة الأخرى التي أودّ الإشارة إليها، أنّ السبب
الآخر لتأسيس هذه الحركة هو حالة الانقسام الداخلي والمجتمعي داخل الاحتلال، لأنّ
هناك صراعا طبقيا ملحوظا هناك. وواهمٌ من يظن أنّ لديهم مجتمعا مثاليا، بل هو
مجتمعٌ مُتفكّك ومتآكل، يعيش على التمييز العرقي بين يهود أوروبا وروسيا من جهة، ويهود
الفلاشا ذوي البشرة السوداء، الذي يخرجون بين الفينةِ والأخرى في مظاهراتٍ حاشدة، يطالبون فيها بإعطائهم الحقوق ذاتها التي يتمتع بها الآخرون، من جهة أخرى، ومن ثم فإنّ هذه الكراهية الأخوية هي التي دفعت مردخاي كوهانا، حسب قوله، إلى تأسيس هذه
الحركة..
ليست الكراهية ووصول الأحزاب المتطرفة هما السببان الوحيدان لحالة القلق هذه، بل إنّ هناك أسبابا أخرى باعتقادي، يتصدرها مشهد المواجهة الحديثة بين الفلسطينيين أصحاب الأرض، والاحتلال الإسرائيلي.
ولم يكن مردخاي هو الوحيد الذي فضح هذه الكراهية، فقد
سبقه إلى ذلك الكثيرون، ومنهم رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق إيهود باراك الذي
اعتبر هذه الكراهية الطبقية هي أكبر خطر يهدد مصير دولة الاحتلال، وقد شبّه الواقع
الإسرائيلي بفيلم "أسطورة الخراب"، ما يُثبت الحقيقة التي تبنّاها مؤسس
الحركة الإسرائيلية الوليدة التي شهدت تفاعلا كبيرا على منصات التواصل الاجتماعي،
وكأنّ الإسرائيليين وجدوا فيها فرصة سانحة لإيجاد مُتنفّس لهم في أدنى التقديرات..
وليست الكراهية ووصول الأحزاب المتطرفة هما السببان
الوحيدان لحالة القلق هذه، بل إنّ هناك أسبابا أخرى باعتقادي، يتصدرها مشهد
المواجهة الحديثة بين الفلسطينيين أصحاب الأرض، والاحتلال الإسرائيلي، ذلك المشهد
الذي تبنّته جماعة عرين الأسود، التي أقضت مضاجع صُنّاع القرار الإسرائيلي ووجدوا
أنفسهم أمام مواجهة مفتوحة، اخترقت منظومتهم وجيشهم الذي لا يُقهر، وأحدثت حالة من
الهلع والخوف في صفوف المستوطنين الذين صبّوا جامَ غضبهم على شرطة وجيش الاحتلال،
بعد حالة الفشل الذريع في التعامل مع هجمات كهذه، ولهذا تزايدَ الشعور بالإحباط
لديهم، ذلك الإحباط الذي دفعهم ربّما إلى تبنّي الهجرة العكسية..
كثيراً ما اعتقد الإسرائيليون أن فلسطينيي 48 أصبحوا جزءا من المجتمع الإسرائيلي، وألّا خوف منهم بعد اليوم، وإذ بهم يضربون الأمثلة في انتمائهم إلى وطنهم الحقيقي فلسطين، وهذا الأمر زاد من حالة القلق أيضا.
وكثيرا ما اعتقد الإسرائيليون أن فلسطينيي 48 أصبحوا
جزءا من المجتمع الإسرائيلي، وألّا خوف منهم بعد اليوم، وإذ بهم يضربون الأمثلة
في انتمائهم إلى وطنهم الحقيقي فلسطين، وهذا الأمر زادَ من حالة القلق أيضا. ولعلنا
نستشهد هنا بما أورده الكاتب الإسرائيلي شوبان في صحيفة معاريف الإسرائيلية، حيث
تحدث عن تجربة فلسطينيي 48 في مونديال قطر 2022، حينما شهدَ أصعب موقف في
المونديال بحسب المقال الذي قال فيه؛ "إنني التقيت بأحد فلسطينيي 48، الذي
سمعنا نتحدث اللغة العبرية، فاقترب منا، وأخبرنا أنه من مدينة أم الفحم، وعندما
وصلت صديقته فجأة، كانت ملفوفة بالكامل بالأعلام والرموز الفلسطينية، فسألته
مستنكرة: لماذا تتحدث معهم؟ فافترق الرجل بسرعة، ورأينا على ذراعه شارة فلسطين
الشائعة جدا في الملاعب. كما أننا شاهدنا مجموعة كاملة من فلسطينيي 48 قد لفّوا
أنفسهم بالأعلام الفلسطينية أمام وسائل الإعلام".
وبعد شهادة هذا الكاتب الإسرائيل،ي يمكن القول بأنّه
سواء استمرت هذه الحركة الإسرائيلية الوليدة أم العكس، فقد أدّت الرسالة باعتقادي؛ لأننا أصبحنا على يقين تام أنّ الاحتلال يَأْلَمُ كما أننا نألم، ويبحث عن حلول سريعة لتفادي الخطر، ولكنه لن يفلح؛ لأنّ شلّال العودةِ قادمٌ بإذن الله، ولن تقبلَ
القدسُ إلّا أهلها الحقيقيين، أمّا النزلاء والغرباء، فهم سيكونون أرقاما في سجل "لنغادر
البلد معا"..