يقولون إن المبدأ السياسي المعتمَد في العلاقات والتعاملات الدولية
يستند إلى مراعاة أموريراها بعض الناس حقائق، منها:
1 ـ أنه لا يوجد أخلاق في السياسة وإنما
يوجد مصالح هي الأساس الذي تُبنى عليه العلاقات بين الدول.
2 ـ أنه لا يوجد عداوات دائمة ولا صداقات
دائمة، وإنما مصالح تتحكَّم بالمواقف والعلاقات وتحكُم تغيير المواقف والعلاقات
والتحالفات، وأن هناك معطيات ومستجدات ومتغيرات يجري التعامل معها وفق حسابات قد
تضيق وقد تتسع، حسب الظروف والأشخاص والاستراتيجيات والأيديولوجيات والمصالح
والمطامع.
3 ـ أنه لا توجد ثوابت ومرجعيات مبدئية
تحكم العلاقات الدولية بصورة مستمرة ــ مع وجود استثناءات لا تشكل قاعدة ثابتة في
هذا المجال ـ ولا توجد قوانين يمكن أن تضحي دولة ما بمصالحها من أجلها أو تخوض
صراعاً من أي نوع للدفاع عنها، بما في ذلك القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني
وميثاق الأمم المتحدة ـ مثال: الحرب على
العراق والمواقف منها، قضية فلسطين وما يجري لشعبها وما تم بشأنها، المسألة
السورية وعقابيلها، الحرب الروسية
الأوكرايينية/ الغربية. وقضايا أخرى كثيرة في آسيا وإفريقيا وأميركا
اللاتينية ــ ويبدو أن الثوابت المبدئية لا تصمد طويلاً حيال الضغوط الكبيرة
والمصالح الكثيرة والقوة الغاشمة، وقد تصل المرونة في مجالات عديدة إلى تنازلات،
وحبل التنازل لا نهاية له.
ولا أريد أن أذهب في هذا الاتجاه إلى حدود التسليم بصحة كل ما قيل
فيه، وإلى النظر إلى هذا على أنه من المسلَّمات أو الثوابت الأبدية، ذلك لأن تاريخ
العلاقات السياسية والتحالفات والصراع بين الدول والشعوب، يشير إلى مواقف أملت
مبادئ مبادئ أملت مواقف، وإلى أيديولوجيات ولَّدت صراعات دامية، وإلى أخلاق حكمت
ملوكاً وقادة وساسة، وأدى ذلك إلى قرارات ومواقف ومواجهات باردة وساخنة مُكلفة
وذات تبعات وعقابيل وما هو أكثر من وبيل.
وبمناسبة انعقاد القمة العربية ـ الصينية في الرياض، في إطار منتدى
التعاون العربي ـ الصيني الذي أسس بعد أن بدأت العلاقات العربية الصينية الدخول
في مناخ الانفتاح الدولي، وتوجهت الصين بصورة عامة إلى إنشاء منتديات مع أوروبا
وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ودول الآسيان 01 + 0 و 01 +4، أُعلِن عن إنشاء
منتدى التعاون الصيني العربي خلال زيارة الرئيس هو جينتاو لمقر الجامعة العربية
في القاهرة مطلع عام 2004 والتوقيع على الإعلان وبرنامج العمل في القاهرة في
14نيسان 2004. وسبقه في عام 1996 أن قال الرئيس الصيني جيانغ تسه مين، في أثناء
زيارته لمقر جامعة الدول العربية: " إن الصداقة بين الصين والبلاد العربية
أبدية".
وقد عقد المنتدى أكثر من قمة، وقد بدأ دور رئيس مؤثر ومؤسس للثقافة،
اختار الجانبان في المنتدى العربي ـ الصيني التركيز عليه وتفعيل دوره والاستثمار
فيها، وتوجهت القيادات العليا في الصين منذ " المؤتمر السابع للحزب الشيوعي
الصيني ـ 15 ـ 21 / تشرين أول / أكتوبر 2007"، وفي الوطن العربي منذ "القمة
العربية في الرياض 28 ـ 29 آذار / مارس 2007 م"، نحو ذلك بقرارات وتوصيات
واستراتيجيات تضمنها إعلان الرياض، نعلق عليها أهمية كبيرة ونتمنى لها النجاح.
والقمة المنعقدة هذه الأيام في الرياض ليست القمة الأولى ولن تكون
الأخيرة.. وحرصاً على استمرار العلاقات العربية الصينية وثباتها واستمرارها
وتطورها، وعلى قيام المنتدى العربي ـ الصيني ذي التاريخ، بجهود ونشاطات لتحقيق
أهدافه.. أرى من المفيد أن نستفيد من كل المعطيات والدروس والتجارب، لتحسين
العلاقات وتحصينها باستمرار، في إطار مراجعات نقدية دورية ومصارحات بنَّاءة، مع كل
دورة قمة وفلكة مغزل ودورة فَلَك ووقوع حدث ذي تأثير.. ومن ذلك حدث السنتين
الماضيتين المستمر بصورة ما، أعني ما يجري للفيغور في شينجيانغ وغيرهم من المسلمين
في جمهورية الصين الشعبية. وسوف أتوقف قليلاً عند ما أراه حول تحسين العلاقات
العربية الصينية وتحصينها بمناسبة انعقاد قمة عربية - صينية في الرياض هي كما
أسلفت ليست القمة الأولى بين الطرفين، وليست المرة الأولى التي يزور فيها رئيس
صيني دولة عربية لحضور القمة في إطار المنتدى.. ولن تكون الأخيرة.
إن تحسين العلاقات ينبغي أن يشمل التدقيق في النصوص والخطاب والأداء
والنيات والفعاليات والمصالح، وفي المؤسسات التي تعمل على تنفيذ إعلان المبادئ
والبرنامج العملي على أساس الاحترام التام لرغبة الشعب في كل من الطرفين في إقامة
علاقات سليمة دائمة ونافعة، تأخذ بالاعتبار المبادئ والمصالح والاستراتيجيات
البعيدة المدى التي تخدم كلاً منهما، في إطار يساعد على تحقيق العدالة والاستقرار
وتثبيت السلام والأمن الدوليين بما لا يخل بالحقوق التاريخية لأي من الطرفين أو
لأطراف ثالثة يستدعي العدل والسلم الوقوف إلى جانبها. ومن ثم فالبرامج والأداء
والمؤسسات والعناصر البشرية التي تتولى التنفيذ، ومردود هذه العلاقات على الطرفين
وسعة التعريف بها وبأهميتها وجدواها، من المهام الرئيسة الملقاة على عاتق الطرفين.
إن الدول التي اعتادت على الاستعمار ونهب الشعوب، وعلى التدخل في شؤون الآخرين.. والاحتكارات العالمية الكبرى، والشركات المافوق قومية أو العابرة للقارات المحمية من دول وقوى كبرى، أصبحت قادرة على التحكم بالكثير من الأسواق والمصالح والقرارات والسياسات الدولية في العالم، وهي مهيمنة في مناطق وتسعى لتوسيع هيمنتها ونفوذها بقوة تَدَخّل وضغط وتهديد
أمَّا تحصينها فيتم في اتجاهين: داخلي وخارجي، ولكل من الاتجاهين
الخارجي والداخلي شُعَبٌ ومجالات ومفاصل دقيقة، ومداخل ملائمة أو غير ملائمة ينبغي
التدقيق فيها.
ففي التحصين الداخلي: تأتي أهمية الحوار الصريح البناء مع من يمكن أن
يناوئ تلك العلاقات: "إمَّا جهلاً، أو تفضيلاً لرؤية أخرى، أو تضليلاً
وتخريباً كي لا تقوم بين الطرفين علاقات بناءة".. حيث يقوم أشخاص أو جهات
بخدمة دول وتحالفات لا يروق لها قيام علاقات عربية صينية متينة. فالحوار في هذا
المجال يبيِّن حقائق ويعمق معرفة ويكشف أخطاء، ويعري مواقف.. فالحقائق قد تُقنع
والأخطاء يمكن أن تُعَالَج والدسائس يمكن وضع حد لها. ومن الأهمية بمكان وضع عناصر
بشرية تتمتع بالكفاءة المهنية والمعرفة والمنهجية العلمية والكفاءة والخُلُق في
المؤسسات والجهات والمفاصل التي تتولى الإشراف وتنفيذ الخطط والبرامج العملية،
تكون معنية فعلاً بنجاح تلك العلاقات ومقتنعة بأهميتها وحريصة على استمرارها
ومتابعة لتطويرها. وعندما لا يسفر الحوار مع من لا تروق لهم تلك العلاقات فإنه
ينبغي إبطال مفعولهم السلبي بتحييدهم وجعلهم غير مؤثرين في مجراها. إن خلق مناخ
داخلي، نظري وعملي، فكري ومادي، يجعل هذه العلاقات صلبة ومردودها إيجابياً
وملموساً، ويستقطب قطاعات بشرية متزايدة الكم والحجم والاقتناع والرغبة في استمرار
العلاقات وتطويرها. ومما يساعد على ذلك:
1 ـ إبراز العائد العام من هذه العلاقات
على الطرفين بصورة مقنعة وملموسة.
2 ـ التركيز على المصالح المشتركة
بموضوعية وإنصاف وتكافؤ عادل ومن دون ألغام.
3 ـ البحث عن سبل توسيع دائرة المشمولين
بها، وزيادة قيمة المردود المادي والمعنوي المنتظَر منها، وإظهار ذلك.
4 ـ القيام بالمراجعة النقدية الدورية،
وإصلاح الخلل إن وجد، وتلافي كل ما يمكن أن يوظَّف توظيفاً سلبياً ضد أي من
الطرفين.
5ـ إجراء مراجعة دورية للمصالح المشتركة
وأساليب الأداء والعائدات والصعوبات أو العقبات، وتطوير تجربة المسؤولين عن ذلك،
وزيادة تأهيلهم المهني والعلمي والتقني، والاتفاق على معايير ومقاييس وروائز
مدروسة للوقوف على سلامة الأداء وجديته وفائدته ومردوده.. وإيجاد التشريعات
والقوانين التي من شأنها أن تذلل العقبات وتحل المشكلات المستعصية وتفتح آفاقاً
جديدة ومجالات استثمار ذات عائدية ملموسة.. وإسناد المسؤلية لأشخاص قادرين على
القيادة وإزالة الصعوبات والمعوقات وتخطي أشكال الروتين، وتفعيل المرونة التي من
شأنها، إذا ما استندت إلى خبرة ومسؤولية والتزام، أن تزيل الكثير مما يمكن أن يعوق
تنفيذ البرامج والخطط، ويفعِّل الطاقة البشرية ويحسِّن الأداء ومناخ العمل
باستمرار، ويعمل كل ما من شأنه أن يعزز الثقة المتبادلة والاعتماد المتبادل بكل صوره
وأبعاده.
وبذلك يزداد المقتنعون بتلك العلاقات اقتناعا، ويقبل عليها آخرون
نتيجة الاقتناع، ويتوقف مفعول تشكيك من يطيب له التشكيك بإضعاف حججه أو إبطالها.
حيث تتحقق المصلحة العليا للطرفين في تنمية دائمة للعلاقات، وتنمية للوعي المعرفي
الذي يعمقها ويشعر بأهميتها ويشكل أحد أسباب وعوامل حمايتها ورسوخها.
أما في مجال التحصين الخارجي فإنني أرى أن يشمل:
ـ معرفة أهداف ومصالح وأساليب من يتدخلون بصورة مباشرة أو غير مباشرة
لتعطيل العلاقات أو تسميمها بهدف قطعها. ومعرفة من له مصلحة في ذلك من أعداء الصين
وأعداء العرب، أو أعداء الطرفين معاً، ومن تتضرر
مصالحهم أو تضعُف أو تتعطل بقيام علاقات نشطة بين الصين والدول العربية،
لذا يعملون على إضعاف تلك العلاقات والتشكيك في جدواها.
ولا شك في أن أفضل أساليب التحصين الداخلي والخارجي هو المردود
المادي والمعنوي الجيد للعلاقات على طرفيها، وحسن الأداء في كل مجال من مجالات
العمل والتبادل والتعاون المشترك، بحرص ينبع من الحس الوطني ويخدم المصلحة القومية
العليا لكل من الطرفين، ويحافظ على المبدئية في المواقف التي يمكن أن تُفسَّر
وتسوَّغ أية تضحيات يقدمها طرف للطرف الآخر، على أرضية الحرص على عدل وسلم وحقوق
متساوية في المستويين المادي والمعنوي، القومي والإنساني، وعلى استقلال وسيادة
وقرار وإرادة تحاول قوى ودول واحتكارات مناوئة أو معادية أن تصادرها، بأساليب
متعددة، وتحت ذرائع وشعارات معروفة الأهداف مكشوفة الأغراض.
إن تحسين العلاقات العربية الصينية وتحصينها ليس موجهاً ضد أحد، ولا ينبغي أن يوجه إلا لمصلحة الطرفين، ولا يمنع ذلك من إقامة علاقات على المستوى ذاته من الجودة والمصداقية والجدية مع أطراف أخرى..
إن الدول التي اعتادت على الاستعمار ونهب الشعوب، وعلى التدخل في
شؤون الآخرين.. والاحتكارات العالمية الكبرى، والشركات المافوق قومية أو العابرة
للقارات المحمية من دول وقوى كبرى، أصبحت قادرة على التحكم بالكثير من الأسواق
والمصالح والقرارات والسياسات الدولية في العالم، وهي مهيمنة في مناطق وتسعى
لتوسيع هيمنتها ونفوذها بقوة تَدَخّل وضغط وتهديد.. إن تلك الاحتكارات والشركات
العملاقة تريد هي والقوى التي تقف وراءها أن تفرض مصالحها وهيمنتها وسياستها على
الآخرين وعلى حسابهم، وتتدخل في شؤونهم بأساليب متعددة، وبصور مباشرة أو غير
مباشرة.. لذا تفتعل المواقف وتختلق الذرائع، وتثير الأزمات، وتلفق ما تشاء من ظروف
عند اللزوم لتقضي على علاقات، مستخدمة سِلَعاً سياسية مثل: حقوق الإنسان، والحريات
العامة، والديمقراطية، ومحاربة الإرهاب ورعاته - وهي تستثمر فيه - وتستخدم غير ذلك
من الأساليب التي تصل لحقوق المثليين والشواذ و.. و.. إلى آخر ما هنالك من ذرائع
أصبحت معروفة وموصوفة ومكشوفة. وعلى الرغم من أن هذا النوع من الأفعال والممارسات
لا يساهم في خلق مناخ سلمي سليم يتحقق فيه الأمن و العدل والاستقرار والازدهار،
وتنمو في ظله الثقة المتبادلة والاعتماد المتبادل بين الدول والشعوب، إلا أن هناك
من يقوم به ويعتمده مدخلاً للكسب والنهب أو للهيمنة والضغط، أو حتى للحرب. فهناك
حيتان ضخمة تبتلع السمك الصغير والكبير وتبقى شهيتها مفتوحة بلا حدود.
إن العولمة التي تنادي بالأسواق المفتوحة وحرية تنقل الأشخاص
والأفكار والبضائع والأموال وتشجع الاستهلاك.. أفرزت مع انفتاح السوق أخلاقَ
السوق، على مستوى الأفراد والمجموعات والأحزاب والدول.. وهي ليست بالضرورة القيم
والأخلاق والمعايير التي تحقق العدالة والاستقرار، وتحمي المجتمعات، وتحافظ على
الهوية والخصوصية والثقافة والحضارة والعلاقات السلمية للشعوب، وتراعي مصالحها
وخصوصياتها وتقاليدها وما ترعاه وترتضيه من عقائد وعادات وأعراف وقواعد وأصول
وعلاقات، ومقومات وقيم للأسرة والفرد والمجتمع.
وفي مثل هذه المفاصل الدقيقة من العلاقات والقيم والمعايير وأساليب
التعامل والتدخل، تتم عملية الفرز والتصنيف، الرفض والقبول، المنع والإباحة،
والحماية وعدم الحماية لقيم مجتمعات وهوياتها وخصوصياتها ومصالحها، ومن ثم القبول
بهذا النمط أو ذاك من التدخل والحكم على السلوك والعمل، وتحديد الخيارات، وتقديم
التضحيات على أسس تلك الخيارات.. إذ لا بد من الاختيار في نهاية المطاف.. ولكل
اختيار قيمة وثمن.
إن تحسين العلاقات العربية الصينية وتحصينها ليس موجهاً ضد أحد، ولا
ينبغي أن يوجه إلا لمصلحة الطرفين، ولا يمنع ذلك من إقامة علاقات على المستوى ذاته
من الجودة والمصداقية والجدية مع أطراف أخرى.. ولكن تدخل أية أطراف بأية أساليب
وتحت أية ذرائع وحجج، بهدف الإساءة إلى العلاقات العربية الصينية ينبغي أن يكون
متوقَّعاً، وأن يدخل في الاحتمالات القائمة، ومن ثم توضع كيفية التصدي له
بالاعتبار.
وتدخل في الأدوات والوسائل والأساليب: المعرفة، والوعي، والمسؤولية
المبدئية والخلقية، والانتماء الواعي لأصوله وأهدافه ووسائله، والحوار المفاتحة
والمصارحة. قد يقول فريق من الناس والباحثين والسياسيين: إن هذه العلاقات محكومة
بسياسات، والسياسة مصالح وليست مبادئ، ومن ثم فهي عرضة للتحول والتغير وفق
المنافع.. وأقول: إن الإنسان مادة وروح، مصلحة ومبدأ، ومن يضع في سلم خياراته
وأهدافه "المبدئي والعادل والصحيح والإنساني"، لا بد أن يضع في الاعتبار
أن ذلك اختيار مُكلف وقد يتطلب التضحية.. وإن لكل اختيار قيمة وثمناً.
هل تغلب المزيج الجيواقتصادي والثقافي الصيني العربي على نظيره الأمريكي؟
مقاربة لوضعٍ مُزمنٍ.. مِن أَغرب وأَسوأ ما يكون