كانت حياته قصيرة لم تتجاوز 41 عاما قضى أكثر من نصفها دفاعا عن العمال وعن حرية تونس وشعبها.
يوثق له بأنه أسس أول نقابة في العالم العربي وأفريقيا، "الاتحاد التونسي العام للشغل".
لم تقتصر سيرته على العمل النقابي فقد تزعم الكفاح المسلح ضد الاستعمار الفرنسي وساهم في حصول بلاده تونس على الاستقلال.
نشأ فرحات حشاد، المولود عام 1914 في بلدة العباسية الواقعة على ساحل مدينة صفاقس جنوبي تونس، في أسرة فقيرة إذ كان والده صيادا للسمك.
ولم يتمكن فرحات من مواصلة تعليمه بسبب وفاة والده فالتحق بالعمل بـ"شركة نقل الساحل" في سوسة، شرقي البلاد، عام 1930، دون أن ينسى تطوير وبناء شخصيته النقابية والثقافية والسياسية عن طريق المطالعة والبحث.
وأثناء عمله في شركة النقل، ترأس نقابة أساسية للعمال تابعة للمنظمة الفرنسية للاتحاد العام للعمل، ونتيجة لبعض المصاعب الاقتصادية، تطوع في الحرب العالمية الثانية للعمل مع منظمة الهلال الأحمر لرعاية الجرحى، ثم عمل موظفا حكوميا في قطاع الأشغال العمومية في مدينة صفاقس عام 1943.
وقد سمح له التحاقه المبكر بالشغل بتنمية وعي شديد بمعاناة الطبقة العمالية في ظل الاحتلال الفرنسي فأصبح مدافعا شرسا عن حقوق العمال.
لكن عدم اهتمام "الاتحاد العام للعمل" بمطلب الاستقلال دفعه للخروج منه وتأسيس اتحاد النقابات المستقلة في الجنوب عام 1944 والنقابات المستقلة في الشمال عام 1945.
وما لبث أن أعلن في عام 1946 عن تأسيس "الاتحاد التونسي العام للشغل"، أكبر منظمة نقابية في تونس، وأول منظمة نقابية في العالم العربي وأفريقيا، واُنتخب أول أمين عام له.
وانضمت نقابته إلى الاتحاد الدولي للنقابات الحرة (السيزل) وانتخب عضوا منتدبا لدى الأمين العام للمنظمة العالمية مكلفا بالشؤون الأفريقية.
وعلى الطرف الآخر من تاريخ وإرثه، فقد تبنى فرحات نظرية الكفاح المسلح لتحرير تونس بعد اعتقال الاستعمار الفرنسي أغلب الزعماء السياسيين التونسيين عام 1952.
وظهر اسم فرحات حشاد وطنيا ودوليا كزعيم وطني ومناضل سياسي ومصلح اجتماعي صلب، واكتسب هذه الشهرة عندما زار بعض الدول، ففي رحلة نضاله لتحرير تونس سافر إلى سان فرانسيسكو وواشنطن ونيويورك وبروكسل وفرنسا وغيرها من الدول وكانت رحلاته تهدف إلى تدويل القضية التونسية.
وبعد فشل محادثات الاستقلال بين تونس وفرنسا عام 1952، اعتقلت السلطات الفرنسية جميع الزعماء الوطنيين فوجد حشاد نفسه أمام مسؤولية قيادة المقاومة التونسية.
فتح حشاد باب الكفاح المسلح السري ضد الاستعمار الفرنسي، وشرع في تنظيم إضرابات وتحركات شعبية كان لها تأثير كبير على المستعمرين الذين تأكدوا أنه هو من يدير المقاومة، فأصبح مطلوبا لديهم.
واكتسب النقابي شعبية بين الطبقة العاملة وكل مكونات المجتمع التونسي، وكان أحد أهم رجالات حركة الاستقلال في تونس مع كل من الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف، وظهر ذلك في المناشير والمقالات والمراسلات التي كتبها مما جعل الشعب يلتف حوله.
وقد حركت هذه الشعبية غرائز الحقد والانتقام لدى المستعمر التي ظهرت عن طريق منشورات موقعة من منظمة "اليد الحمراء" التي كانت تعمل مع مخابرات الاستعمار الفرنسي، وازدادت عمليات التخريب والتهديد ضد منزله وأسرته وارتفعت الأصوات في فرنسا المطالبة برأسه وقتله.
وأثناء تحرك فرحات حشاد بسيارته تبعته سيارة في الطريق من الضاحية التي كان يقطنها خارج العاصمة تونس وأطلقوا عليه النار، لكن حشاد أُصيب في ذراعه وكتفه وتمكن من الخروج من السيارة، لكن بعدها بقليل ظهرت سيارة أخرى وأجهزت عليه بإطلاق النار على رأسه ثم إلقائه على جانب الطريق بعد التأكد من موته.
وعندما أُعلن نبأ اغتياله، اجتاحت المظاهرات مدن العالم من الدار البيضاء إلى القاهرة ودمشق وبيروت وكراتشي وجاكارتا وامتدت أيضا إلى مدن أوروبية مثل ميلانو وبروكسل وستوكهولم.
عثر على جثة فرحات حشاد في 5 كانون الأول/ ديسمبر 1952 في طريق بمنطقة نعسان قرب تونس العاصمة وعليها آثار طلقة نارية في الرأس ووابل من الرصاص في الجسم.
نقل جثمان فرحات إلى جزيرة قرقنة مسقط رأسه حيث قامت أسرته بدفنه هناك، وفيما بعد شيد مدفن رسمي آخر له في تونس ونقل رفاته إليه عام 1955.
وما زال التونسيون يحتفلون سنويا بذكرى اغتياله، كما أُنشئت باسمه جامعة في مدينة سوسة وبها أكبر مستشفى تعليمي في تونس باسم مستشفى فرحات حشاد.
وفي عام 2005 بنيت مدرسة في مدينة جنين في فلسطين المحتلة على نفقة نقابة العمال التونسية باسم "ذكور الشهيد فرحات حشاد الثانوية".
ولم توجه أية تهمة لأي جهة باغتيال حشاد، لكن في عام 1997، نشر عضو في منظمة "اليد الحمراء" الفرنسية أنطوان ميليرو، كتابا يحمل عنوان "اليد الحمراء: الجيش السري للجمهورية"، اعترف فيه بتنفيذ عملية الاغتيال بأوامر فرنسية.
وأظهر فيلم وثائقي بثته قناة الجزيرة الوثائقية عام 2009 الفرنسي ميليرو، وقد روى تفاصيل الإعداد لتلك العملية ووقائع تنفيذها، كما صرح في نفس الفيلم أنه لو طلب منه إعادة تنفيذ العملية لكررها، وهو ما اعتبره حقوقيون اعترافا بارتكاب جريمة حرب وتفاخرا بها.
وبادر "الاتحاد العام التونسي للشغل" وعائلة الشهيد ومنظمات فرنسية إلى تقديم شكاوى لدى القضاء الفرنسي ضد ميليرو استنادا إلى وثيقة اعترافه التي تم بثها، لكن صدر بعد ذلك حكم قضائي برفضها.
وعند زيارة الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند إلى تونس عام 2013 سلم وثائق من وزارة الخارجية والدفاع في فرنسا، يتبين منها أن عملية الاغتيال تمت بواسطة "مصلحة التوثيق الخارجي ومكافحة التجسس" التابعة للاستخبارات الفرنسية، وأن هناك فريق عمليات أرسل من باريس لمراقبة تحركات حشاد، وأن عملية الاغتيال قد تقررت قبل سبعة أشهر.
ولا تزال عائلة حشاد تطالب بالكشف عن حقيقة اغتياله. فعند وفاته، ترك زوجته آمنة (أم الخير) أرملة في الثانية والعشرين من عمرها وثلاثة أبناء هم نور الدين والناصر وجميلة.
جريمة اغتيال فرحات حشاد مفتوحة إلى اليوم دون حل ودون عقاب للقتلة، ولم يقدم أحد حتى اليوم للمحاكمة رغم وجود اعترافات لبعض المشاركين في الجريمة، فيما يستمر الناشطون الحقوقيون التونسيون بمطالبة فرنسا بكشف أسرار جريمة الاغتيال وتحمل الدولة الفرنسية المسؤولية كاملة.
نور الدين فرحات حشاد، هو اليوم في السبعينات من عمره، ولا يزال إلى الآن يبحث عن حل لغز اغتيال والده، وجمع لهذه الغاية صناديق من الوثائق يقول إنها "ذاكرة تونس وليست أبي فقط".
رحيل السنعوسي.. "الأب الروحي" للإعلام المرئي بالكويت