لا
شك في أن ما سيتبادر إلى ذهن القارئ هو أننا سنتحدث عن إجراءات 25 تموز/ يوليو باعتبارها الانقلابَ المقصود في
العنوان، ولكنّنا سننزاح بالضرورة عن أفق انتظاره بحكم اختلاف مقاربتنا عن أغلب
المقاربات المهيمنة على السجال العام في تونس. فأطروحاتنا التي دافعنا عنها في
أكثر من مقال وتدخّل إعلامي هي أن انقلاب "تصحيح المسار" لم يكن إلا
حلقة في سلسلة انقلابية، بدأت يوم 14 كانون الثاني/ يناير باعتماد منطق
"استمرارية الدولة"، ثم رسخت بمخرجات "الهيئة العليا لتحقيق أهداف
الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" وتمأسست بدستور "المجلس
التأسيسي"، ومن بعد ذلك صار الوعي الانقلابي هو المتحكم الأهم في الشأن
الوطني عبر "الحوار الوطني" الذي أسقط تجربة الترويكا وخلق توازنات
سياسية جديدة أساسها التوافق اللا متكافئ أو البراغماتي؛ بين ورثة المنظومة
القديمة وحركة النهضة.
قد
لا نحتاج إلى التذكير بأننا نعتبر ما حدث في تونس ثورة حقيقية، أو على الأقل هو
مسار ثوري مجهض. فنحن لا نؤمن بالمقاربة التي يروّج لها ورثة المخلوع وبعض حلفائهم
في اليسار الوظيفي، تلك المقاربة التي ترى في الثورة مجرد انقلاب مدعوم بقوى
خارجية في إطار ما يُسمّونه بـ"الربيع العبري". لقد كان الوضع التونسي
بعد رحيل المخلوع مفتوحا نظريا على مسارين مختلفين: مسار مأسسة الثورة مع ما يعنيه
ذلك من إعادة قراءة نقدية، بل حتى قطيعة جذرية مع سردية النظام السابق (السردية
الوطنية البورقيبية التي تحولت واقعيا إلى غطاء للنظام الريعي- الجهوي- الزبوني
التابع)، أو مسار احتواء الثورة والانقلاب على استحقاقاتها، بإدارتها بمنطق "استمرارية
الدولة" وما يعنيه ذلك من "تطبيع خفي" مع المنظومة القديمة
برساميلها البشرية وترسانتها التشريعية، بل بسرديتها التأسيسية في اللحظتين
الدستورية والتجمعية.
اختارت النخب القائمة على إدارة المرحلة التأسيسية منطق "استمرارية الدولة"، وأقرّت شخصيات محسوبة على النظام القديم في أهم المناصب التنفيذية، بدءا من رئيس الدولة (فؤاد المبزع) والوزير الأول (محمد الغنوشي ومن بعده المرحوم الباجي قائد السبسي). لقد بدأ الانقلاب على الثورة عندما رضيت النخب السياسية على اختلاف أيديولوجياتها أن تعهد بإدارة المرحلة الانتقالية أو المؤقتة للمنظومة القديمة
لأسباب
داخلية وخارجية ليس هذا موضع تفصيلها، اختارت النخب القائمة على إدارة المرحلة
التأسيسية منطق "استمرارية الدولة"، وأقرّت شخصيات محسوبة على النظام
القديم في أهم المناصب التنفيذية، بدءا من رئيس الدولة (فؤاد المبزع) والوزير
الأول (محمد الغنوشي ومن بعده المرحوم الباجي قائد السبسي). لقد بدأ الانقلاب على
الثورة عندما رضيت النخب السياسية على اختلاف أيديولوجياتها أن تعهد بإدارة
المرحلة الانتقالية أو المؤقتة للمنظومة القديمة. ولذلك عاشت تونس في تلك الفترة
في مسارين مختلفين: مسار التأسيس الذي كان يشرف عليه "الثوريون" في هيئة
ابن عاشور ومن بعدها المجلس التأسيسي (وهو مسار لا علاقة له بأجهزة الدولة
والخيارات الكبرى للمشرفين عليها)، ومسار الحكم الذي خضع نظريا لرقابة المجلس
التأسيسي ولكنه كان يتحرك واقعيا بمنطق انقلابي صرف عبر "تبييض"
المنظومة القديمة وحرف الصراع عن مداره الأصلي (التقابل بين الثورة والمنظومة
القديمة) إلى مدار الصراع الهوياتي (التقابل بين "القوى الحداثية" وبين
"الرجعية الدينية" الذي كان بمثابة الطريق الملكي لعودة التجمعيين
باعتبارهم جزءا من "العائلة الديمقراطية").
لقد
حرص المرحوم الباجي قائد السبسي (ومِن ورائه النواة الصلبة لمنظومة الحكم التي
جاءت به إلى القصبة) على السيطرة على مراكز القرار الإداري والأمني والمالي، بل القرار
الديبلوماسي عبر "المطبّع" خميس الجهيناوي؛ في رسالة طمأنة واضحة
لإسرائيل وأصدقائها في تونس والخارج.
ولا
شك في أن ما قاله المرحوم الباجي
قائد السبسي أمام هيئة ابن عاشور "نحكم وحدي وما يحكم معايا
حد" (أنا من يحكم ولا أحد غيري يحكم معي) يُعبّر بصورة مطابقة عن واقع
العلاقة اللا متكافئة بين السلطة التأسيسية والسلطة السياسية، ويُعبّر كذلك عن
الهوّة الفاصلة بين السلطتين بعيدا عن وهْم رقابة "المؤسسين" على أجهزة
الحكم.
لقد
كانت الدولة العميقة تدير المرحلة التأسيسية عبر تحكمها في جميع مراكز القرار،
وكانت تعي جيدا أن "التأسيس" هو مجرد لحظة "ثورية" لا يجب
معارضتها بصورة واضحة، بل يجب احتواؤها والحد من قدرتها على إحداث أي تغيير جذري
في "الاقتصاد السياسي" لتونس، أي في واقع النظام
"الكليبتوقراطي" (نظام اللصوص) الذي تسيطر عليه بعض العائلات والجهات
والفئات والمنظمات والإيديولوجيات المعروفة. أما "الآباء المؤسسون"
الذين كتبوا الدستور فكانوا يتمثلون المرحلة الانتقالية أو المؤقتة باعتبارها
مرحلة "محايدة" ويتعاملون مع الذين يديرونها وكأنهم أجسام عابرة وفي
خدمة "الثورة". وهو "وهْم تأسيسي" لن يستفيقوا منه -وإن بصورة
جزئية- إلا وهم يرون العودة الملحمية لورثة المنظومة القديمة في انتخابات 2014 وسيطرتهم بصورة "شرعية" على
الرئاسات الثلاث.
الدعوة للانقلاب المدني أو العسكري كانت -من باب المفارقة- ثابتا من ثوابت الخطاب "الديمقراطي" عند فشله في اختبار التمثيل الشعبي منذ المرحلة التأسيسية. كما يعلم الجميع أن أغلب مكونات "العائلة الديمقراطية" قد ساندت إجراءات 25 تموز/ يوليو لأنها قد نجحت في تحقيق ما عجز عنه كل الذين سبقوا الرئيس قيس سعيد إلى قصر قرطاج منذ رحيل المخلوع
يعلم
أي مهتم بالشأن التونسي أن الدعوة للانقلاب المدني أو العسكري كانت -من باب
المفارقة- ثابتا من ثوابت الخطاب "الديمقراطي" عند فشله في اختبار
التمثيل الشعبي منذ المرحلة التأسيسية. كما يعلم الجميع أن أغلب مكونات
"العائلة الديمقراطية" قد ساندت إجراءات 25 تموز/ يوليو لأنها قد نجحت في تحقيق ما عجز عنه كل الذين سبقوا الرئيس
قيس سعيد
إلى قصر قرطاج منذ رحيل المخلوع. فانقلاب 25 تموز/ يوليو هو في جوهره انقلاب النواة الصلبة للمنظومة القديمة، بعد أن وجدت في
"التأسيس الثوري الجديد" سرديةً تحقق أهدافها، بل أهداف القوى الدولية
الإقليمية الراعية لها. وقد ذكرنا في أكثر من موضع سابق أن تلك الأهداف هي أساسا فرض
إملاءات صندوق النقد الدولي (وتحميل كلفتها الأساسية لعموم الشعب، لا للرأسمالية
اللا وطنية والكيانات الوظيفية التابعة لها)، وفرض مسار التطبيع مع الكيان
الصهيوني باعتباره شرطا لا مهرب منه لضمان التمويل الخارجي.
كان
تحقيق الهدفين الاستراتيجيين للمنظومة القديمة يقتضي مركزة السلطة، وكانت عملية
المركزة تستدعي الالتقاء الموضوعي أو التكتيكي (لا التحالف الاستراتيجي) مع
"مشروع" الرئيس قيس سعيد، لضمان الانقلاب على الديمقراطية التمثيلية
والنظام البرلماني المعدّل وضرب مختلف الأجسام الوسيطة، تحت غطاء "تصحيح
المسار" وما يمتلكه من مصداقية لدى جزء مهم من
الشعب التونسي. إننا على يقين من أن الرئيس قيس سعيد ليس إلا خيارا مؤقتا للنواة
الصلبة لمنظومة الحكم، ولكننا على يقين أيضا بأن ساكن قرطاج صادق في مشروعه
السياسي وأنه يحاول تغيير موازين القوى بينه وبين تلك النواة التي حكمت تونس منذ
رحيل المخلوع.
لا
شك عندنا في استحالة أن ينجح الرئيس في مشروعه السياسي القائم إلى حد هذه اللحظة
على خطاب شعبوي لا محصول له واقعيا. فركائز الحكم كلها بعد 25 تموز/ يوليو لم تخرج من أيدي النواة الصلبة للمنظومة القديمة ورعاتها في الخارج، وسينتهي
التقاطع الموضوعي أو الالتقاء المؤقت بينه وبين المنظومة القديمة عند انتفاء
الحاجة إليه. ولكنّ انتفاء الحاجة إلى الرئيس ومشروعه لا يعني أننا سنغادر
بالضرورة دائرة الانقلاب، بل يعني فقط أننا سندخل مرحلة انقلابية أخرى بشرعية
جديدة، وهي شرعية ستحافظ على النظام الرئاسي ولكنها ستعيد بعض السلطة للأجسام
الوسيطة دون أن تعطيَها أية صلاحيات قد تهدد المصالح المادية الرمزية للنواة
الصلبة للنظام الكليبتوقراطي.
ركائز الحكم كلها بعد 25 تموز/ يوليو لم تخرج من أيدي النواة الصلبة للمنظومة القديمة ورعاتها في الخارج، وسينتهي التقاطع الموضوعي أو الالتقاء المؤقت بينه وبين المنظومة القديمة عند انتفاء الحاجة إليه. ولكنّ انتفاء الحاجة إلى الرئيس ومشروعه لا يعني أننا سنغادر بالضرورة دائرة الانقلاب، بل يعني فقط أننا سندخل مرحلة انقلابية
إن
السؤال الذي يطرح نهاية "الانقلاب" في تونس هو في الحقيقة سؤال المشروع/
المشترك الوطني أو الكلمة السواء التي فشلت النخب جميعا في بنائها وبناء انتظام
سياسي صلب تحت سقفها. فمسار الانتقال الديمقراطي لم يكن في الحقيقة إلا مسارا
انقلابيا منذ أن احتكم الفاعلون الجماعيون إلى منطق استمرارية الدولة، ومنذ أن
انتقل الصراع إلى دائرة الصراع الهوياتي ورضي جميع الفاعلين بإسناد أمور الحكم
لورثة المنظومة القديمة خلال المرحلة التأسيسية.
لقد
كانت تونس تحتاج فعلا إلى دستور جديد، ولكنها كانت أحوجَ إلى قوانين جديدة تُخرج
البلاد من اقتصاد "الرخص" إلى اقتصاد "الفرص"، كما قال السياسي
خالد شوكات.. قوانين تعيد بناء الحقل السياسي بعيدا عن هيمنة المال السياسي
المشبوه وعلى أساس التنافس بالمشاريع، لا على أساس التنافي بالضغائن الأيديولوجية.
كما كانت تونس محتاجة إلى مساءلة الأساطير المؤسسة للدولة- الأمة دون أن يعنيَ ذلك
بالضرورة شيطنتها بصورة نسقية، أي كانت تحتاج إلى بناء سردية جامعة جديدة تتجاوز
جدليا السردية القائمة على أساس التقابل بين الإسلام والديمقراطية أو الترابط
الآلي بين اللائكية الفرنسية والحداثة.
وإذا
ما استمرت النخب في رمي هذه القضايا ضمن دائرة اللا مفكر فيه أو المهمش والمقموع فإننا
لن نخرج من الزمن الانقلابي، وستبقى النواة الصلبة للمنظومة القديمة هي المتحكم
الأوحد في هندسة المشهد العام، بصرف النظر عن النخب التي تحتل ظاهريا مراكز القرار
منذ المرحلة التأسيسية إلى هذه اللحظة، وهو ما يعني أن العمر الافتراضي للسلسلة
الانقلابية -بما فيها الانقلاب الحالي- مشروط بالعمر الافتراضي للنواة الصلبة
للحكم. ونحن نعتقد أن عمر تلك النواة سيطول -ولن ينتهيَ إلا عبر أحداث كارثية- ما
لم يوجد "طريق ثالث" يقوم على تَونسة مفهوم "الكتلة
التاريخية"، وتجاوز منطق
الصراعات الهوياتية القاتلة وما يؤسسها أو يشرعنها
في الأساطير المؤسسة للدولة- الأمة.
twitter.com/adel_arabi21