أما وقد دخلنا بقوة بل بقي يوم إلى 11 نوفمبر / تشرين الثاني منه، فإن أغلب الأحاديث التي تدور سرًا بداخل مصر، و"داخل الداخل" منها، أو السجون بحسب بعض المناضلين من الخارج، وبالتالي خارجها، تقارب تلك الأحاديث الانتهاء، بما فيها ترك الجميع الباب مواربًا؛ حينما يتناولون الثورة المنتظرة التي "قد" تطيح بالأخضر القليل للجنرال وبطانته الحاكمة، والأكثرية اليابسة، ومسافة من أمل كانوا يعبرون عنها بـ"قد يكون"، أو "ربما"، وأحيانًا "مَنْ يدري"! وإن شغل حديث سناء وعلاء أحمد سيف الإسلام عبد الفتاح (حسمًا لاختلاف ألقابهما وانتمائهما بالفعل لأب مناضل واحد) الأنظار والألباب.
(1)
يبدو أننا كمصريين بخاصة لم نتفهم حقيقة الثورة حتى اليوم؛ رغم عبورنا للعام الثاني عشر من ذكرى "25 يناير" العزيزة، فليست الثورة مجرد انتفاضة تحسن أحوال المعيشة والأمن، وتجلب استقرارا ديمقراطيًا مصطنعًا حتى حين، وإنما الثورة في حقيقتها تغيير جذري منفتح على الإطاحة بنظام الحكم الفاسد ورجاله، وبالتالي تحول تدريجي ذو وعي نحو تنمية شاملة للحرية والكرامة، ومن قبل الوعي، وبالتالي الاقتصاد وشامل الحياة، فإذا حدث والتهبت الآمال، وارتفع سقف الأحلام نظرًا لتخبط نظام حكم كنظام حسني مبارك، بعد أن مل بقاءه مناصروه في الداخل والخارج، ولم يفهم الشعب، ولم تتفهم من قبلهم النخب حقيقة ما حدث في 11 فبراير 2011م، وفرح كل فريق بما حاز وظن أنهم قادرون عليه أي البلد أو الوطن أو الحكم، فتنازعوا إلا قليلًا منهم، وأفرطوا في الأوهام وإمكانية إزاحة بعضهم بعضًا، وتيه الخطى بين الظلام المطبق لنظام ديكتاتوري مستبد كان يعصف بالناس ومقدراتهم بناء على أهوائه، وبين انفتاح الأفق على تحقق ظاهري للأمنيات وتوهم تجسيدها واقعًا، دون خبرة أو دراية بدرجات، فيما الأعداء متحالفون كانوا وقتها ينتظرون التهام الثمرة مجددًا وتضييع الأفق الديمقراطي عليهم!
آفة الجنرال اليوم ليست في كونه كذوبًا متبحجًا سحب جميع ما وعد وأرغى وأزبد به على مدار 9 سنوات، سواء حكم خلالها أو فعل لكن من وراء ستار، آفة الجنرال أنه بادر بطريقة "خدوهم بالصوت" أو اقطعوا عليهم الطرق؛ كف الجنرال إذن عن الظهور بشخصية المخادع ذي الوجهين.
عشنا كمصريين حلمًا وأفقًا ورديًا للثورة، فلما أفقنا منه على واقع أكثر مرارة من الذي حاولنا الثورة عليه، لم نستطع (في الأغلب الأعم) أن نتوازن أو نتماسك، فأعدنا للأسف البحث عن سيناريو 25 يناير رغم أنَّا أوتينا لاحقًا منه في 30 يونيو 2013م، وغلبنا الأعداء عن طريقه، أعدنا خطة 25 يناير بعد عام ونصف العام تقريبًا لكن في ميدان رابعة العدوية، نسينا أو تناسينا أننا لسنا أمام المخلوع حسني مبارك الثاوي أو القابض على عصا الحكم حتى مله السحرة المختلفون، وإننا نواجه جنرالًا يبدو بهيًا خلابًا وقتها أمام أمنيات شعب بعضه مسكين؛ ينتظر مناخًا أفضل في تعامل الشرطة ولقمة عيش أقل سهولة واستقرارًا، بعد تخبط ثوري ساهم فيه الجميع "بدرجات أيضًا"، وكان أن أوهم عبد الفتاح السيسي البعض، وظنت قوى خارجية أنه أكثر بهاء من حقيقته، وانخدع به مساكين الداخل.
(2)
آفة الجنرال اليوم ليست في كونه كذوبًا متبحجًا سحب جميع ما وعد وأرغى وأزبد به على مدار 9 سنوات، سواء حكم خلالها أو فعل لكن من وراء ستار، آفة الجنرال أنه بادر بطريقة "خدوهم بالصوت" أو اقطعوا عليهم الطرق؛ كف الجنرال إذن عن الظهور بشخصية المخادع ذي الوجهين.
أما المقاومون السلميون فهم في تيههم (للأسف) ما يزالون، أكبر أحلامهم أن يعيدوا سيناريو يناير بعد فشلهم فيه عشرات المرات منذ 3 يوليو 2013م، ولا حل وسط أو بديل لديهم، لم ينجحوا أو يفلحوا في إقامة دعوى خارجية تحاكم الجنرال وكبار أعوانه ممن سفكوا الدماء، أو مجرد الاتحاد أمام جرائمه، أو حتى مجرد فضحه كما فعلت بجدارة سناء سيف الثلاثاء الماضي بتفاصيل قد نتناولها بالتدقيق والتحليل قريبًا (بإذن الله).
(3)
يفترض أن يزور الرئيس الأمريكي جو بايدن غدًا الجمعة مصر للمشاركة بـ"قمة المناخ 27"، فهل سيخفف هذا من وطأة الأمن التي غلظت على المشاركين في 11/11/2016م التي سماها البعض بـ"ثورة الجياع"؟ أو التظاهرات التي دعا إليها المقاول والفنان محمد علي في 19 من سبتمبر/أيلول 2020م، ثم اعتزل السياسة بعدما استجابت له أبرز قوى المقاومة سلميًا، ويعاود ظهوره وكلماته الآن؟
وجود بايدن ربما يكون كالإشارة التي تعطي لونين معًا، أو تشكل بريقًا خاطفًا، فتتغير من الأحمر للأخضر، أو من الأحمر للأصفر معًا، أي من اعبر ولا تفعل، أو اعبر وانتظر معًا، فالرجل منهمك في مقاومة شيخوخة خاصة ودولية، يحاول البقاء وحزبه، لكن اليقيني أنه لا يمتلك عصًا سحرية لفرملة أو إزهاق أنفاس ديكتاتورية الجنرال، بل إنه على الأغلب مستبده الأفضل، كما كان يقول سابقه، وبالتالي فإن أكثر ما يعجبه فيه هو حذاؤه، لكن سابقه كان يقول ويفعل، وبايدن وحزبه يفعلان ولا يقولان؛ وربما يمنح الأخير فرصة حياة علاء عبد الفتاح (أو شيئًا مشابهًا) لينفس (مجرد تنفيس) عن المقهورين!
أفلتت عصا السرعة قيادة السيارة من يد الجميع إذن أو تكاد:
يمكننا أن نقول هذا بكل أسى، صارت مصر (كما لم نحب أو نتوقع)، تسير بقوة الضغط أو الاندفاع الذاتي.
فلا الجنرال يملك التراجع عن قراراته الجهمنية أو عجرفته أو يقينه بأنه على صلة مع الخالق (والعياذ بالله) تتيح له ما لا يتاح لغيره.
ولا المقاومة السلمية تعرف طريقة لتحقيق ما وعدت به من حلول سلمية تغير المعادلة جذريًا.
ولا بايدن أو بلده في حيوية وعافية، ولو كانت فليست مصر اليوم هي مصر الأمس، ولا حتى مصر المخلوع، فلا هي محورية أو على المحك لكي تضحي الولايات المتحدة الآن لمنحها ديمقراطية حقيقية، أو حتى أملًا مزيفًا بتولية وجه جديد "يلم الليلة"، ويغير المعادلة حتى حين.
وحتى متى تظل السيارة العربية البارزة الكبرى الأقرب للكيان الصهيوني حربًا ومن ثم سلمًا.. حتى متى تسير بالدفع الذاتي؟
(4)
هوامش:
ـ أي قمة مناخ، وأي إنفاق لعشرات المليارات من الدولارات في وطن ما يزال نحو 60 ألفًا من أبنائه ثلاجة السجون المميتة ويتوفى كل شهر عدد منهم؟
وهل أسوأ من وطن يبني سجونًا تزيد على ثلث ما بني في تاريخه كله، ورئيسه يعترف بأنه لا يمتلك كراسي أو مناضد أو فصولًا لتعليم صغاره، وأفضل شرفائه لا يجدون لقمة العيش إلا بصعوبة بالغة؟
ـ هل نحن في بعض مقالاتنا وتحليلاتنا وأمسياتنا الفضائية، وصفحات مواقع التواصل ومن قبل أخبارنا وتقاريرنا ومتابعاتنا ننقل ونناقش (بدرجات) الواقع أم الأماني؟
ـ كيف يعتقد بعضنا أن حكم الجنرال الحالي، أو سابقه، أو سابقهما، حتى الجنرال الأول الأبرز في أغلب الخمسينيات وكل الستينيات وخليفتيه من بعده اعتمدوا أو يعتمد صورة أخلاقية "ما"؟ أو ترتهن وترتكن على الأخلاق والفشل والنجاح؟
ـ هل شعوبنا العربية وخاصة المصري منها لديهم من الوعي ـ في الأساس ـ للحفاظ على مكتسبهم القادم من صناديق الانتخابات أو حريتهم التي انتزعوها بدمائهم؟
هامش أخير:
ـ هل لدينا مقاومة سلمية ترهن وجودها بتحقيق إنجاز، إن لم يكن حكامنا يفعلون ذلك؟!
لا مزيد من الهوامش، ولكن ربما نبدأ منذ 11/11 أو أي تاريخ مقبل ليس بالضرورة أن يكون متشابهًا يومه مع شهره، ربما نبدأ منذ تاريخ مقبل بناء تراكميًا صعبًا يعترف بماضي المجهودات ولكنه عسير يخفف .. مجرد يخفف .. من حكم العسكريين لمصر والطغاة لأوطاننا، حتى نستطيع أن نبني ثورات حقيقية مستقبلية.
إبراهيم منير.. البشوش اللين المتسامح
حينما يرى المستبد أنه الحاكم بأمر الله!
الجيش التّونسيّ بين المبادئ العامة وضرورة الفعل (4)