الاستبداد
ملة واحدة؛ هو مدان في كل الأحوال وعلى كل المستويات، ليس هناك استبداد مقبول
واستبداد مرفوض، الاستبداد كله وجب رفضه ومقاومته، وعلينا أن نتعرف على كل مصادره
وقابلياته، فنصد ذلك ونقدم نموذجا ضمن هذه المعركة الأبدية بين المستبدين والشعوب.
إنها معركة الوعي والجهل بأساليب المستبد الذي يحاول من كل طريق أن يموه على
الكلمات ويغتصبها، ويقدمها في ثوب تفوح منه كل أخلاق المستبد والاستبداد. ويشكل
خطاب المستبد مؤخرا (مؤتمر الاقتصاد المصري- تشرين الأول/ أكتوبر 2022) أهم
المؤشرات على ذلك.
ومن
هنا فإن حديثنا عن الاستبداد الفاجر ليس إلا حديثا يختلف في الدرجة لوضوح أدواته
وافتضاح مسالكه، فهي أبين من أن تخفى، وأوضح من أن تنكر، ومن ثم يعيش الحاكم
الظالم والمستبد الظالم في كرب وخوف وارتياب على الدوام، فهو من جهة يخاف شعبه إذا
ثارت ثائرتهم وانتفضوا ضد حكمه وسطوته عليهم كما يؤكد "الكواكبي".. يخاف
من هؤلاء حتى لمجرد النية فقط، دون أن يعقب ذلك قول أو عمل، وهو كذلك يخاف من
أعوانه، وبطانته، إذا هم تبينوا عدم جدواه في الحكم ورأوا فيه غُرما لا غُنما،
وقرروا إزالته من منصبه.
يخاف شعبه إذا ثارت ثائرتهم وانتفضوا ضد حكمه وسطوته عليهم كما يؤكد "الكواكبي".. يخاف من هؤلاء حتى لمجرد النية فقط، دون أن يعقب ذلك قول أو عمل، وهو كذلك يخاف من أعوانه، وبطانته، إذا هم تبينوا عدم جدواه في الحكم
ومن
المهم في ذلك ألا ينخدع الناس لا في خطاب المستبد ولا في تفسيرات بعض أعوانه، ويجب
ألا ينجروا إلى شعارات كاذبة، تصدر عن زمرة انغمسوا في بحر الاستبداد، وتماهوا في
ظلمات الظلم وأكل حقوق الأمة، ومن ثم يبدو خطاب المستبد أهم مؤشر في هذا المقام.
نؤكد على ذلك حينما تتحكم في منظومة المستبد ثلاثية خطيرة؛ فاشية في السياسات،
وفساد وإفساد في جنبات المجتمع، وفشل ذريع لا يفتأ المستبد إلا ويسمي ما فعله
بالإنجازات غير المسبوقة. إنجازات زائفة وأحوال فاسدة، وظلم مقيم، إنها حال
الاستبداد الفاجر، حينما يمارس كل ذلك ثم يدّعي على النقيض أنه أصلح! وضحّى! وتحمّل!
وقام بما لم يقم به الأوائل!
والمستبد
يقلب الحقائق في خطابه وفي الأذهان، ليشوه كل ما يتعلق بمنجزاته أو بمحاولة النيل
منه ومواجهة ظلمه، فيسوق لدى الناس ذلك الاعتقاد الفاسد أن طالب الحق فاجر، وتارك
حقه مطيع، ويغلف كل ذلك بمقولات حول الدولة والمواطن. فالدولة في عرفه لا تنفصل عن
كيانه ووجدانه، يفعل ما يشاء ولا يُسأل عن أي فعل كان، فهو ذلك الرشيد الذي لا
يعقب عليه، وهو ذو الرأي السديد الذي لا يطوله خطأ، فشله نجاح، وقتله واعتقال
ومطاردة الناس استقرار وفلاح، إنه لا يعرف إلا لغة الأمن البوليسي، ولا يخطر على
باله أن الأمن في البداية والنهاية أمن إنساني، كما أشرنا في مقال سابق.
من المهم في ذلك ألا ينخدع الناس لا في خطاب المستبد ولا في تفسيرات بعض أعوانه، ويجب ألا ينجروا إلى شعارات كاذبة، تصدر عن زمرة انغمسوا في بحر الاستبداد، وتماهوا في ظلمات الظلم وأكل حقوق الأمة، ومن ثم يبدو خطاب المستبد أهم مؤشر في هذا المقام
وهو
في كل الأحوال لا يتهم نفسه ولا يعترف بفشله، إن من طبيعته الإنكار والاستنكار،
وهو المسدد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، فهو مبعوث المشيئة
الإلهية والمعبر عنها، وهو من جملة اغتصاباته يغتصب مفهوم رضا الله، فيجعله حكرا
له أو عليه "أنا ظهري ربنا واللي يقدر على ربنا يتفضل".
وهو
الحاكم المستبد الذي يظن في نفسه الذكاء الخارق، والحَبر العلامة، وطبيب الفلاسفة،
وأن حكام العالم يتعلمون منه وعليه ويقتاتون على خبراته وعلمه وتوقعاته وخططه
وتفكيره، وهو مع ذلك لا يحب دراسات الجدوى، بل هو يسيّر الأمور بالهوى تحت دعوى
الإنجاز، ولكنه في حقيقة الأمر ينجز الخواء والخراب، فإذا ما استحكمت الأزمة صرخ
في الجميع أنهم لم يكونوا على مستوى أفكاره أو سياساته، وأن الفشل لا يطوله من
قريب أو من بعيد، فهو الراشد السديد، ولكن الكل ملومون، والكل مقصرون، والكل
فاشلون.
ولنا في
كلامه الأخير في افتتاح المؤتمر الذي انعقد ليبحث الخروج من أزمة اقتصادية طاحنة
طالت البلاد والعباد مثال، وهو إذ لأول مرة يعترف بوجود الأزمة فإنه ينكر إنكارا تاما
مسؤوليته عنها، فهو تارة يعيد أسباب ذلك إلى أحداث في العام 2011، و2013، وتارة
يحاول أن يسوّغ كل ما يفعل بالضغط على هذا الشعب من خلال استراتيجيته الخطيرة
والحقيرة في الترويع والتفزيع، وفي الإفقار والتجويع، فيجعل من هذا وذاك أمرا
طبيعيا يجب على الجميع أن يتحمله، بلا شكوى وبلا اعتراض، فإذا قيل له إنك المسؤول
الأول عن الأزمة يمنّ على الناس أنه قد فعل كذا وكذا وأنه ضحى بكل غال ورخيص، وأنه
عرض حياته للخطر. فعلى الجميع أن يقبل هذه الأحوال لا يأكل ولا يشرب، ولا يعيش
حياته، ولا يقيم أوده "لازم الشعب لا يأكل ولا يشرب ولا يرتاح علشان نقدر
نخلي مصر كلها زي العاصمة الإدارية".. فقط عليهم أن يتقبلوا ذلك، وبرضا خاطر،
لأنهم ليس عليهم أن يتركوه في دعوى مسيرته للإصلاح الضال والمعكوس الذي لم يؤد في
حقيقة الأمر إلا إلى خراب ونكوص.
هو إذ لأول مرة يعترف بوجود الأزمة فإنه ينكر إنكارا تاما مسؤوليته عنها، فهو تارة يعيد أسباب ذلك إلى أحداث في العام 2011، و2013، وتارة يحاول أن يسوّغ كل ما يفعل بالضغط على هذا الشعب من خلال استراتيجيته الخطيرة والحقيرة في الترويع والتفزيع، وفي الإفقار والتجويع، فيجعل من هذا وذاك أمرا طبيعيا يجب على الجميع أن يتحمله
وهو
إذ يحاور ويناور بالكلمات محاولا أن يركّب من الكلام مهما كان متناقضا، والذي ينسخ
بعضه بعضا، محاولا أن يعبر عن أنه أساء فهم الناس ولم يقدر أمرهم، فإذا به يعود
سريعا في نهاية مؤتمره ليرمي الجميع بالقصور والتقصير، "الناس غير قادرة على
تقديم التضحيات"، ويرى أنهم السبب في الفشل والانهيار الذي حدث، والسبب في
توقف المساعدات، "حتى الأشقاء والأصدقاء أصبح لديهم قناعة بأن الدولة المصرية
غير قادرة على الوقوف مرة أخرى، وأن الدعم والمساندة عبر سنوات شكل ثقافة الاعتماد
عليهم لحل الأزمات والمشكلات".
وهنا
تمخض الاستبداد الفاجر في هذا المؤتمر في النهاية إلى أنه سيواصل الاقتراض من
جديد، وأن حل المشكلة هو في إنجاز
قرض الصندوق بأقصى سرعة وأقل وقت. هكذا يحاول
المستبد باستخدام كل أدواته ليصور الوطن كضيعة أو بقرة يحلبها، ويحاول أن يجعل من
الشعوب ضمن تشكيل عقلية القطيع، فيؤكد أنه لم يكذب عليهم أبدا، وهو الكذاب الأشر
الذي وعد الناس
بالوعود الزائفة ولكنه في النهاية ووجه بالفشل الذريع، وبالأزمة
التي لا يمكن تجنبها، فبات يخرج من جراب خطابه كل أنواع الخطاب.
ومن
جملة هذا الخطاب المهترئ يؤكد أنه لا يعتبر نفسه رئيسا لمصر، بل يعتبر نفسه إنسان
طُلب منه التدخل لحماية وطنه، وأن أدوات الرئيس حاجة، وأدوات البطل أشياء أخرى، "عندما
كنت وزيرا كانوا يقولون أنت البطل والأيقونة".. هكذا عين نفسه البطل المنقذ
الذي لا يحاسب كمسؤول ثم يقول كلاما أجوف لا تعرف له دلالة أو مدلول، "عايزين
تعرفوا مصر عاملة ازاي روحوا حديقة الحيوان وشوفوا حجم السلبيات".
يحاول المستبد باستخدام كل أدواته ليصور الوطن كضيعة أو بقرة يحلبها، ويحاول أن يجعل من الشعوب ضمن تشكيل عقلية القطيع، فيؤكد أنه لم يكذب عليهم أبدا، وهو الكذاب الأشر الذي وعد الناس بالوعود الزائفة ولكنه في النهاية ووجه بالفشل الذريع
ومن
المآسي حقا أن تجد وزير ثقافة أسبق خلال مشاركته في برنامج إعلامي يحاول أن يضفي
قيمة وعمقا على ذلك الخطاب "الفاجر" الذي أدلى به المستبد لتبرير فشله، فيؤكد
أن "خطاب
السيسي في المؤتمر الاقتصادي فلسفي بالدرجة الأولى، وطالب الجهات
المعنية بطباعته". تخيل أن ذلك هو وزير ثقافة أسبق لهذه المنظومة التي اختلت
في خطابها وساد الاستبداد والطغيان في سياساتها! ومن هنا نردد مع نعوم تشومسكي:
"حتى تتمكن من السيطرة على الشعب اجعله يعتقد بأنه هو سبب تخلفه".
مقام
التدليس والتلبيس في الاستبداد الفاجر إنما يعود إلى خطابه الذي يقلب، وينتقد
البديهيات، ويفرض كلمات ومفردات لا تتعلق من قريب أو بعيد بالمعقولية أو المقبولية،
وأفجر ما في هذا الاستبداد هو أن يسمي فساده إصلاحا، وفشله إنجازا، وسقوطه نجاحا،
ويحاول من كل طريق أن ينكر مسؤوليته ويستنكر أي فعل من منتقديه: "وَإِذَا
قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ"
(البقرة: 11).
twitter.com/Saif_abdelfatah