بدأت الصحوة الإسلامية معتدلة وسطية سلمية علمية، وبعد أن صُبّ على الدعاة القمعُ في مصر في زمن الملك فاروق، وخصوصا في زمن جمال عبد الناصر، وكذا في بعض الدول العربية، خصوصا الاشتراكية الشيوعية، بدأت تظهر توجهاتٍ ردود الأفعال المتشددة المتطرفة في من قُبض عليهم وعُذبوا وأُعدِم رفقاؤهم، والعديد من الدعاة من أهل العلم والثقافة والشهادات العليا لجؤوا إلى المملكة العربية السعودية في زمن الملك فيصل رحمه الله فكانوا هم ركائز التطور في المؤسسات التعليمية والتربوية والمؤسسات المجتمعية في هذا البلد، وبسبب طول مكوثهم فيه تأثروا بالمذهب الوهابي المتحالف رجاله آنذاك مع العرش فظهرت في كل الحركات الإسلامية مسحة سلفية في الفقه والسلوك، ولم يكن التوجه السلفي آنذاك عنيفا ولا مخاصما للعلماء والدعاة، بل كان وسطيا مساهما مساهمة كبيرة في الدعوة الإسلامية، ومن دلائل ذلك ما نُشر عن أئمته، أمثال الشيخ ابن باز والشيخ الألباني من كلام طيب عن علماء الإخوان المسلمين، كالشيخ حسن البنا والشيخ محمد الغزالي والشيخ القرضاوي رغم الاختلافات الفقهية بينهم رحمهم الله جميعا.
وفي فترة الثمانينيات وجّه العديد من علماء الوسطية والاعتدال شباب الصحوة إلى مجالات التجديد والتطوير في الفكر، والحكمة في الدعوة والمشاركة الاجتماعية ومسارات النهوض الحضاري، ونبهوا إلى ضرورة الابتعاد عن كل أنواع التقوقع والتشدد في مسائل الفكر والفقه والزي والسلوك والعلاقات ودعوا إلى نبذ الخصومات وإلى احترام أعراف الناس وما استقرت عليه المجتمعات الإسلامية من المذاهب والعادات في الإطار العام للشريعة الإسلامية. وكان من أبرز وأشهر وأعلم هؤلاء الشيخ محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي رحمهما الله.
وبفعل تأثرنا بالمسحة السلفية كان الكثير منا، كشباب، ينقد هذين العالمين الجليلين ونعتبرهما متساهلين في الدين ثم بيّنت لنا الأيام وما استزدناه من علم وتجربة عظمة هذين الرجلين وسبقهما في تحليل مشكلات الأمة وما اقترحاه لها من حلول باجتهاداتهما العلمية. وكانت بيئتنا المغاربية الجزائرية الباديسية البَنّبية خيرَ معين على نضجنا وفهم آفاق الفكر الرحيب لذانك الجبلين، كما كان لصرخة الهضيبي في كتابه "دعاة لا قضاء" جليل الأثر.
لقد كان تأثير هؤلاء العلماء والمفكرين كبيرا في الجزائر من خلال كتبهم وأشرطتهم وزيارتهم الدورية للجزائر في ملتقى الفكر الإسلامي وغيره من المناسبات، وكان دور الشيخين الغزالي والقرضاوي بليغا في ترشيد الصحوة الإسلامية الجزائرية، وكان الفضل الأول للشيخ محمد الغزالي من خلال إشرافه العلمي في جامعة الأمير عبد القادر، وبرنامجه التلفزيوني كل اثنين الذي كان من أكثر البرامج متابعة وقد صار رحمه صديقا حبيبا لعوام الناس ومثقفيهم ومسؤوليهم، ولم يكن يخفى على أحد العلاقة المميزة بين هذا المجدد الجليل ورئيس الجمهورية الشاذلي بن جديد. وبعد رحيل الشيخ الغزالي خلفه الشيخ القرضاوي رحمهما الله في الجامعة، غير أنه لم يطل كثيرا كالشيخ الغزالي.
استقطبت الجامعة الإسلامية أعدادا كبيرة من إطارات الصحوة من مختلف الاختصاصات العلمية الذين سجلوا أنفسهم للدراسة فيها. كنت أريد أن أدرس العلوم الإسلامية بعد حصولي على شهادة البكالوريا في دورة 88 / 89، ضمن موجة ذلك الزمن، ولكن والدي رحمه الله أرادني أن أدرس الطب فأطعته ولم أندم على ذلك رحمه الله رحمة واسعة، ولكن بسبب شغفي بالعلوم الإسلامية درَستُها عصاميا في البداية، ثم درّستها عبر سنوات في المدرسة الشرعية بجامع أسامة بن زيد بمدينة المسيلة، ثم أسست مع إخواني مدرسة شرعية في مسجد جامعة سطيف ذاع صيتها وانتفع بها كثير من الأطباء والمهندسين وذوي الاختصاصات الأدبية، وفي كل تلك المسيرة كان علم الشيخ القرضاوي هو دليلنا الأول، فلا نطمئن لمسألة إلا إذا اطلعنا على رأيه فيها، ولا يَحسم الخلاف العلمي بيننا سوى قولِه في المسألة رحمه الله تعالى.
بعد أن تحصلت على الدكتوراه في الطب، وولجت غمار السياسة رجع لي الحنين القديم إلى الشريعة فأنفذت إرادتي وتحصلت على شهادة الماجستير في الشريعة والقانون وواصلت المسيرة مع الدكتوراه في نفس الكلية حول موضوع في الاقتصاد برؤية إسلامية، وبقي مرجعي الأول دائما في ذلك هو الشيخ القرضاوي رحمه الله تعالى.
لقد كان تعلقي بالعلماء كبيرا، وكبرت على احترامهم جميعا، فلا أخوض أبدا في الاختلافات بينهم وأرى في مواقفهم وسلوكاتهم الشخصية ما يسعه شرع الله تعالى، وإن اقتنعت بخطئهم في تصرف من تصرفاتهم، أعبر عن ذلك بأدب وأنظر إلى خلالهم الحميدة وأفضالهم الواسعة فلا يبقى لما أراه فيهم من خطأ بشري أثر، ومن منا لا يخطئ.
لقد تعلمت هذا السلوك من مخالطتي للعلماء، خصوصا أستاذي الأول في مدينة المسيلة وشيخي الدائم الدكتور أحمد بوساق، وصاحب الفضل علي المربي الأبدي الشيخ محمد مخلوفي. كما كان تأثري بأدب ورِقّة الشيخ الغزالي كبيرا، حين كنت أزوره وأستنصحه وهو في الجزائر، فتجذبني إليه أبعاده الإنسانية أكثر من علمه الغزير المتجدد، وقد كان له أثر كبير في خيارات أساسية وحاسمة في حياتي الدعوية.
أما الشيخ القرضاوي فقد نهلت من علمه وفكره وأدبه بواسطة كتبه ومحاضراته وندواته طيلة الثمانينيات، ثم كان أول لقاء مباشر به سنة 1989 في لقاء لمجلس الشورى الوطني للحركة قبل التأسيس الرسمي للحزب في إحدى الفيلات في الجزائر العاصمة، يملكها أحد رفاق الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله، وكنا نناقش في ذلك المجلس الرأيَ بشأن تأسيس الحزب، وكنت قدمت ورقة بهذا الخصوص في ذلك المجلس.
كانت مؤسسة القدس منظمة دولية غير حكومية اجتمعت فيها مختلف مكونات الأمة، من سنة وشيعة ومسيحيين، ومن الإسلاميين والقوميين، فكان الشيخ القرضاوي هو رئيس المؤسسة وينوبه عالم شيعي وشخصية مسيحية وأخرى قومية.
ثم تشرفت باستقباله مع زوجته المصرية إسعاد عبد الجواد أم أولاده في بيتنا في المسيلة سنة 1990، وكانت زوجته رحمها متعبة جدا أخبَرت والدتي وزوجتي بأنها منهكة وأنها لم تصبح قادرة على تحمل أعباء السفر مع زوجها الشيخ القرضاوي رحمهما الله، ولعل ذلك هو السبب الذي دفع الشيخ القرضاوي للزواج آنذاك بامرأة ثانية تتحمل معه المشاق التي كان يكابدها في أعماله وأسفاره التي لا تتوقف.
قدم الشيخ القرضاوي أثناء زيارته لمدينة المسيلة درسا في الجامعة ودرسا في مسجد الصحوة أسامة بن زيد فجمع في مقدمة درسه بالجامع التكامل في الإسلام بين الجامع والجامعة، والدين والعلم، ثم راح يفسر سورة العصر، وكان قد قرأ بها في إمامته للمصلين في صلاة المغرب، فأبدع في التفسير أيما إبداع.
بعد أن غادر الشيخ القرضاوي الجزائر بإلحاح من عائلته بسبب مرضه، حاول الدكتور عمار طالبني، وفق ما أخبرنا به، أن يقنعه بالتعاقد سنة أخرى لرئاسة المجلس العلمي في جامعة الأمير عبد القادر فذهب إليه إلى القاهرة برئاسة وزير التعليم العالي آنذاك، فلم يفلح إذ عارض أهله سفره، ولكنه بقي يزور الجزائر بين الحين والحين بدعوات رسمية أو شعبية، وذات يوم في شهر أب/أغسطس سنة 2007 أصابته وعكة صحية شديدة فقامت الدولة الجزائرية برعايته صحيا في المستشفى العسكري بالجزائر العاصمة، وزاره في مشفته رئيس الجمهورية وعدد من المسؤولين الكبار. لم يكن مسموحا لغير الرسميين بزيارته فطلبت من أحد وزرائنا آنذاك د. إسماعيل ميمون أن يزوره ويبلغه سلامي وسلام تلامذته في الجزائر فسعد بذلك رحمه.
غير أن المشروع الأكبر الذي شرفني الله بالعمل فيه بشكل مباشر مع الشيخ القرضاوي هو مؤسسة القدس العالمية. كانت مؤسسة القدس منظمة دولية غير حكومية اجتمعت فيها مختلف مكونات الأمة، من سنة وشيعة ومسيحيين، ومن الإسلاميين والقوميين، فكان الشيخ القرضاوي هو رئيس المؤسسة وينوبه عالم شيعي وشخصية مسيحية وأخرى قومية. وكان رئيس مجلس الإدارة الشيخ فيصل مولوي من لبنان رحمه الله، والأمين العام أكرم العدلوني ذكره الله بخير، وللمؤسسة مجلس أمناء يتشكل من العديد من الشخصيات من مختلف أنحاء العالم، منهم كثير من النشطاء الجزائريين، وافتتحت المؤسسة فروعا في العديد من الدول منها الجزائر.
كنت من أكثر الأعضاء الجزائريين في مجلس الأمناء نشاطا، من حيث جمع التبرعات والاتصالات، ولعله لهذا السبب اختارني الشيخ القرضاوي لأكون أمينا عاما لفرع الجزائر وكتب لي الشيخ فيصل مولوي بذلك تكليفا كتابيا لا زلت أحتفظ به، وقد وفقني الله أن أجمع لفرعنا كفاءات عديدة من مختلف التيارات، فكان أكثر الفروع في العالم نشاطا. فأسست، وفق مخطط المؤسسة عالميا، رابطة الشباب من أجل القدس، رابطة النساء من أجل القدس، ورابطة الأئمة والدعاة من أجل القدس، ورابطة رجال الأعمال من أجل القدس. أطلق الشيخ القرضاوي آنذاك مشروع "وقف الأمة" على أن يُؤسَّس في كل بلد وقفٌ لدعم المقدسيين وتثبيتهم في أرضهم، فوعد الكثير من النشطاء بذلك في بلدانهم، غير أن الوقف الوحيد الذي تم إنجازه فعليا هو وقف الجزائر بجهود شعبية بحمد الله تعالى، وسيبقى هذا الوقف حسنة جارية للشيخ القرضاوي ولكل من ساهم في إقامته بحول الله عز وجل.
ومن مشاريع مؤسسة القدس التي ثبتت مشروع شباب من أجل القدس وكان فرع الجزائر هو أنشط الفروع، ولا يزال إلى الآن قائما باسم آخر. ومن أكبر إنجازات فرع الجزائر التوصل، من خلال رجال فضلاء في الدولة الجزائرية، إلى استضافة مؤتمر القدس الخامس أيام 26-28 مارس 2007، حضره أكثر من 200 شخصية، على رأسها العلامة الشيخ يوسف القرضاوي، رئيس مجلس أمناء مؤسسة القدس، والقاضي الشيخ فيصل مولوي، والشيخ عكرمة صبري، والمطران عطا الله حنا، والسيد علي أكبر محتشمي، والأستاذ منير شفيق، والشيخ قاضي حسين أحمد، والشيخ حارث الضاري، والقيادات البارزة لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" كلها وعدد من الشخصيات السياسية والدينية وأصحاب الفكر والرأي في عدد من الدول العربية والإسلامية.
أصبحت علاقتي بالشيخ القرضاوي تتوطد أكثر فأكثر، من خلال مؤسسة القدس، كما صرت ألتقي به في مختلف المناسبات الدعوية والفكرية والعلمية العالمية حتى صار يعتبرني من تلاميذه المخلصين رحمه الله رحمة واسعة، وقد شرفني عليه الرضوان بأن اتصل بي شخصيا سنة 2016 ليطلب مني المشاركة في ذكرى بلوغه 90 بكتابة موضوع عنه فكتبت بحثا عن علمه وفضله على الصحوة تحت عنوان "الشيخ القرضاوي إمام الثورات العربية" نُشر ضمن المجلدين الكبيرين اللذين احتويا شهادات ومقالات وبحوث تلاميذه من العلماء والساسة والدعاة من كل أنحاء العالم.
أسأل الله تعالى أن يديم نفعنا بعلمه وأن ينفعه بما نعمل وأن يتغمده برحمته الواسعة. آمين.
مجتمعاتنا وصناعة التفاهة والتافهين واستبعاد النابهين
الشيخ القرضاوي مضى في سُننِ الأولين والآخرين إلى رب العالمين