تطوّران شهدتهما الحرب في أوكرانيا، في النصف الثاني من
شهر أيلول/ سبتمبر 2022، شكلا تصعيدا نوعيا جديدا على المستويين العسكري
والجيوسياسي، وسيكون العالم ما بعدهما بالنسبة إلى الحرب، غير ما كان عليه من قبل.
الأول إعلان
روسيا ضمّ أربع مقاطعات أوكرانية، هي لوغانسك
ودونيتسك وزابوريجيا وخيرسون إلى روسيا، وبهذا
تصبح بعد الضمّ، قانونيا ودستوريا، جزءا لا يتجزأ من الدولة الروسية الاتحادية،
مما سيؤثر في طبيعة الحرب حولها، بالنسبة إلى روسيا، إذ يجعلها تعدّ محاولة
استردادها من جانب الجيش الأوكراني (من وجهة النظر الروسية) من الآن فصاعدا،
اعتداء على أرض روسية، فيما يصر فولوديمير زيلينسكي على أن حربه ضد روسيا
"تحرير لأرض أوكرانية"، الأمر الذي قلب معادلة الحرب في أوكرانيا
رأسا على عقب.
فالحرب الآن أصبحت بالنسبة لروسيا حربا مصيرية، كما
لو قامت أيّة دولة أجنبية بالعدوان على أرض روسيا المعترف بها دوليا، بحيث تطبّق
معادلة السقف النووي السائدة ما بين الدول النووية الكبرى، أي إمكان اللجوء إلى
حرب نووية، الأمر الذي يجعل قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هذا الضم،
انتقالا في الحرب إلى مستوى التحدي، غير ما كانت عليه الحرب حتى حينه.
الحرب الآن أصبحت بالنسبة لروسيا حربا مصيرية، كما لو قامت أيّة دولة أجنبية بالعدوان على أرض روسيا المعترف بها دوليا، بحيث تطبّق معادلة السقف النووي السائدة ما بين الدول النووية الكبرى، أي إمكان اللجوء إلى حرب نووية، الأمر الذي يجعل قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هذا الضم، انتقالا في الحرب إلى مستوى التحدي
أما التطوّر الثاني، فقد تمثل في تحقيق
إنجازات عسكرية في
الميدان، من قِبَل الجيش الأوكراني الذي تمكن من السيطرة على مناطق (مضمومة)، زاد
حجمها على عدة آلاف من الكيلومترات المربعة، وما زال التقدم مستمرا، بالرغم من
احتدام المعارك، مما سمح للتصريحات الرسمية الأوكرانية والأمريكية والغربية،
بالحديث عن هزيمة الجيش الروسي، والتمادي في الحديث عن قوّة الجيش الأوكراني
(المدعوم دعما عالميا هائلا عسكريا وماديا وسياسيا)، وعن نقاط ضعف أخذت
تظهر على قدرات الجيش الروسي والسلاح الروسي، مقابل تطوّر أفضل للسلاح الأمريكي-
الغربي الذي راح يدعم الجيش الأوكراني. وقد نجم عما تقدّم، ما أخذ يُنشر من حديث
عن نصر أوكراني من جانب الإعلام الغربي.
في المقابل، فقد وقع العديد من المنحازين للجيش
الروسي بنوع من المفاجأة والدهشة لهذه التطورّات في الميدان العسكري في حرب
أوكرانيا، في غير مصلحة الجيش الروسي. فقد كان اتجاه الحرب حتى هذه المرحلة في
مصلحة التقدّم العسكري الروسي، فضلا عن ميزان القوى العسكري، الذي يتّسم أصلا بتفوّق روسي لا يقارن مع الجيش الأوكراني. فالجيش الروسي جيش نووي عالمي، لدولة
كبرى تستطيع أن تتواجه في حرب عالمية نووية مع أمريكا وتتعادل معها، إن لم تتفوّق
عليها، مثلا في الصواريخ المتفوّقة على سرعة الصوت، بعشرة أضعاف وأكثر، أو في
التنافس معها على مستوى الطائرات والدبابات والغواصات.
هذا الميزان العسكري المتفوق على الجيش الأوكراني،
بالرغم مما يمكن أن يصل إليه من دعم بالسلاح الأمريكي- الأوروبي، ما زال قائما، ولا
مجال لتجاهله. وهو ما لا يمكن إلغاؤه، ولا يجوز إلغاؤه؛ بسبب ما شهده الميدان
العسكري في الأسابيع الماضية من تقدّم للجيش الأوكراني في مناطق تحت سيطرة الجيش
الروسي. ولهذا، فإن على الذين راحوا يبالغون بما ستنتهي إليه الحرب في أوكرانيا ضدّ
روسيا، أن يعيدوا حساباتهم، بل على الأقل، عليهم أن ينتظروا الردّ الروسي الذي هو
في اليد، بالنسبة إلى بوتين؛ لأن بعده الحسم بالحكم.
وقع العديد من المنحازين للجيش الروسي بنوع من المفاجأة والدهشة لهذه التطورّات في الميدان العسكري، في حرب أوكرانيا، في غير مصلحة الجيش الروسي. فقد كان اتجاه الحرب حتى هذه المرحلة في مصلحة التقدّم العسكري الروسي، فضلا عن ميزان القوى العسكري، الذي يتّسم أصلا بتفوّق روسي لا يقارن مع الجيش الأوكراني
طبعا هذا لا يعني أن الذي حدث في الميدان لا أهمية له،
أو لا يجب أن يحسب حسابه، بل بالعكس، فقد يحمل دلالة في منتهى الأهمية والخطورة.
ولكن ذلك سيتوقف على الردّ الروسي القادم ونوعيته، فروسيا إذا لم يكن عندها ما
تردّ به على هذه الضربة العسكرية المؤلمة والمستمرة، فسيكون لتقدير الموقف كلام
آخر. فروسيا بلا شك يجب أن يكون لديها من القوّة التقليدية أضعاف ما استخدمته حتى
الآن، هذا إذا لم تصل إلى الردّ النووي التكتيكي.
وبالمناسبة، يُذكر أن بريجنيف، أمين عام الحزب الشيوعي
السوفييتي الأسبق، كان لوّح بأن القوّة العسكرية التقليدية السوفييتية، تملك من
القوّة النارية ما يُعادل النيران النووية، فكيف وقد مرّ على ذلك الزمن لا أقل من
أربعة عقود؟ فبوتين بلا شك سيردّ، بل هو مضطر على الردّ الحازم. وروسيا لا تستطيع
أن تتحمّل هزيمة عسكرية كبرى في الحرب الأوكرانية التي هي حرب عالمية، بكل ما تحمل
الكلمة من معنى. فأمريكا والغرب تخوضان حربا ضد روسيا لإخراجها من المسرح الدولي،
بل حتى تمزيقها، كدولة موّحدة أو اتحادية.
إذا كان الردّ المتوقع سيظل في حدود الحرب التقليدية،
دون سقف
استخدام النووي التكتيكي، فإن الاتجاه العام الذي اتخذته الحرب في أوكرانيا
حتى الآن، سيظل ضمن حدوده السابقة، مع تغيير نوعي، بشكل أو بآخر.
أما إذا كان الجواب بالسلاح النووي التكتيكي، بسبب عدم
توفر ما يسدّ مكانه من سلاح تقليدي، فإن معادلة جديدة في الحرب العالمية الراهنة
سوف تنشأ، ولم يسبق لها من مثيل. هنا يصبح على أمريكا وأوروبا أن تردّا، ولكن كيف؟
صدرت إلى الآن تصريحات أمريكية تقول؛ إن أمريكا لن تردّ
بالنووي، ولكنها ستعظم دعمها للجيش الأوكراني بسلاح تقليدي متطوّر للغاية، كما
ستأخذ الإجراءات العقابية الأشدّ، مع إثارة العالم كله ضدّ روسيا، بسبب استخدامها
السلاح النووي، وذلك لوضعها في مأزق سياسي خانق، لا مخرج لها منه.
إلى هنا، يكون العالم قد دخل عصرا جديدا من الحرب النووية؛ لأن من غير المضمون ألّا يُردّ على النووي بالنووي التكتيكي مثله، كما تعلن
أمريكا. كما من غير المضمون ألّا يقع اضطراب عظيم في الوضع الدولي، يصعب تصورّه أو
رسم حدوده.
إن مجرد استخدام النووي، يُدخِل معادلة الصراع في ما بين
الدول الكبرى في مرحلة مختلفة نوعيا، تم تجنبها منذ ما بعد قنبلتيْ نغازاكي
وهيروشيما، بل على التحديد منذ 1949، أي بعد أن امتلك الاتحاد السوفييتي القنبلة
والقدرة على نقلها. وتعزّز مبدأ عدم استخدام النووي أكثر بعد أن تعمّم امتلاكها،
وإمكان استخدامها من قِبَل عدد من الدول الكبرى. وقد استمر هذا الحال بعد سقوط
الاتحاد السوفييتي، حتى اندلاع الحرب في أوكرانيا.
إن الردّ بالنووي على روسيا في حالة لجوئها إلى استخدام
النووي التكتيكي، سوف يضع الحرب في حالة تصعيد للنووي التكتيكي، بما قد يهدّد
بتعريض العالم للنووي الاستراتيجي، والعياذ بالله.
من الغريب العجيب عدم انطلاق تحركات شعبية عالمية، لوقف هذا التدهور في الصراع الدولي، إلى مستوى شديد الخطر على الإنسانية والكرة الأرضية، وذلك حين تدفع أمريكا بصراعها ضدّ روسيا والصين إلى حافة الهاوية النووية
هذا يعني أن العالم اليوم أصبح يعيش في خطر وجودي، ويقف
أمام حرب عالمية بين كتلتين جبارتين (أمريكا والغرب مقابل الصين وروسيا). وقد أخذت
أمريكا تدفع بهما إلى الهاوية، وذلك لسبب رئيسي واحد، وهو عدم سماحها بتفوّق الصين
عليها، بعد عقد أو عقدين أو ثلاثة عقود، لتحلّ مكانها في المرتبة الأولى بين
الدول. فأمريكا هي التي كانت وراء اندلاع الحرب في أوكرانيا، وهي التي وراء دعم
الجيش الأوكراني عسكريا وسياسيا وماليا، ليتمكن من إنزال الضربات العسكرية
الأخيرة. وقد وصل الأمر إلى التدخل المباشر بتزويد الإحداثيات التي سمحت للأسلحة
المتطورة أن تحدث هذا الانقلاب في ميدان المواجهة، وهي
أسلحة حديثة، تحتاج إلى أن
تستخدم من قِبَل خبراء من الدول التي أنتجتها، وزوّدت بها الجيش الأوكراني.
أما بعد، فإنه لمن الغريب العجيب عدم انطلاق تحركات
شعبية عالمية، لوقف هذا التدهور في الصراع الدولي، إلى مستوى شديد الخطر على
الإنسانية والكرة الأرضية، وذلك حين تدفع أمريكا بصراعها ضدّ روسيا والصين إلى
حافة الهاوية النووية، وهو ما تشير إليه تطورات الحرب في أوكرانيا، وتطورات
المواجهة الأمريكية مع الصين في تايوان.
فعلى العالم كله أن يتنبّه، ويتحرك، ويوقف هذا الجنون.