يتساءل الكثيرون باستغراب عن شعراء فلسطين في العصر الحديث، وعن تمسّكهم بالقضية الفلسطينية، وعن منهجيتهم وطريقة خدمتهم لهذه القضية وهويتها؟
ويسألون عن رواد "النهضة الثالثة": هل كانوا تياراً واحداً؟ هل كانوا من منطقة واحدة؟ هل كانوا من بيئة واحدة؟ هل كانوا مجموعة أدبية واحدة؟ هل كانوا من تيار ثقافي واحد؟ أو من تيار سياسي واحد؟
وقبل أن نجيب على الأسئلة، آمل من القارئ الكريم، أن ينزع النظرة القدسية إلى شعرائنا، كي نستطيع نقاش القضية بموضوعية ونصل إلى نتائج منطقية بعيدة عن التأثر بالرؤى المسبقة.
هل كان تياراً واحداً؟ هل كانوا تياراً سياسياً واحداً؟ حقيقة الأمر أن أعمدة "النهضة الثالثة" لم يكونوا من تيار سياسي واحد، أو من دين واحد، ولم تكن هذه التفاصيل تهمّهم في مسيرتهم الأدبية الفنية، ولكنهم بالعموم كانوا علمانيين ملحدين، فمنهم الشيوعيون (توفيق زياد، محمود درويش، سالم جبران)، والبعثيون الاشتراكيون (راشد حسين)، ومنهم القوميون (سميح القاسم)، لذلك لم تكن تربطهم بالدين أي صلة، بل إن كثيراً من الشعراء المسيحيين كتبوا في مناسبات إسلامية أكثر منهم (كمال ناصر واسكندر خوري والبيتجالي مثلاً).
هل كانوا من منطقة واحدة؟ إن أول ما ميّزهم هو وجودهم في منطقة واحدة تحت الاحتلال الإسرائيلي، فاكتسبوا كاريزما رومانسية وغموضاً عائداً إلى ندرة أخبارهم وصعوبة تحركهم، حتى صدر عنهم كتابا غسان كنفاني ويوسف الخطيب، فبرزوا من قلب الغموض والظلم والاحتلال. فأصبحوا أبرز شعراء فلسطين، وغطّت شهرتهم على شعراءالخارج.
هل كانوا من بيئة واحدة؟ هل كانوا مجموعة أدبية واحدة؟ هل كانوا من تيار ثقافي واحد؟
أسئلة كثيرة حول هذه المجموعة الفريدة من الأدباء، الذين كانوا يجتمعون دائماً (قابلهم جميعاً في منزل واحد عام 1968 الشاعر الأديب وليد سيف، كما ذكر في مذكراته)، وكانت تجمعهم صحيفة الاتحاد اليسارية وصحف الحزب الشيوعي الأدبية.
وفي الوقت الذي تفرّغ فيه هؤلاء لتطوير أساليبهم الشعرية وتجربة الأساليب الجديدة، وانغمسوا في الحداثة والرمزية والنثر، وكتبوا وأبدعوا في أشعارهم على الورق، كان هناك غيرهم من الشعراء ينتهج نهجاً آخر.
السؤال هنا، كيف سطع نجم هؤلاء الخمسة، رغم اختلاف أساليبهم ومستوى شعرهم، وغزارة إنتاجهم، والتزامهم في الشعر؟
باعتقادي، وهذا الكلام على مسؤوليتي، أنه بالإضافة إلى الكاريزما والتعاطف الذي اكتسبوه نتيجة وجودهم تحت الاحتلال إلا أن صمودهم وإصرارهم على هويتهم الفلسطينية، وترميزهم السياسي كمقاومين للاحتلال من الداخل، جعلهم يكسبون الدعم الكبير من دوائر القرار الفلسطينية (سياسياً وإعلامياً وأدبياً واقتصادياً)، وبالتالي لمعوا أكثر من شعراء الخارج.
وقد ركّز هؤلاء الشعراء على شعرهم، فطوّروا المضامين والأشكال والأساليب، وكان الشعر ساحة نضالهم وجهدهم، بخلاف شعراء الخارج الذين ركزوا نضالهم على الأرض، فلم يكتفوا بالنضال القلمي على الورق، بل اشتغلوا بالنضال الحركي في الساحات والميادين والمتاريس والمحاور.. فكانوا قادة للثورة، ومثلوا فعلاً "المثقف العضوي" الحقيقي المؤثر في الميدان والجماهير.
تياران كبيران من الشعراء خدما القضية الفلسطينية، وحرما من شهرة وكاريزما وأضواء مجموعة الداخل.
التيار الأول: الشعراء والأدباء المناضلون الذين عملوا على إنشاء اتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين، وشاركوا في معارك الثورة الفلسطينية والمعسكرات التدريبية والتثقيفية. منهم مَن كتبنا عنهم في مقالات سابقة مثل خالد أبو خالد وكمال ناصر ويوسف الخطيب وأبو سلمى وهارون هاشم رشيد، كمثقفين شاركوا في النضال السياسي والميداني، ومثلهم حسن البحيري وعلي هاشم رشيد وآخرين لم يكونوا ميدانيين.. وبقي عدد من شعراء فلسطين في الخارج الذين أثروا كثيراً في الحفاظ على الهوية الفلسطينية والزخم الثوري، مثل معين بسيسو ومريد البرغوثي ورسمي أبو علي ومحمد الأسعد ومحمد القيسي وإبراهيم نصر الله ووليد سيف وأحمد دحبور والمتوكل طه وعز الدين المناصرة وراسم المدهون ومي صايغ ومي علوش وليلى السايح، وغيرهم ممن نرى واجب الكتابة عنهم لاكتمال الصورة، لمعرفة الحراك الحيوي الثقافي الفلسطيني الذي شهدته بيروت في سبعينيات القرن الماضي.
لقد ظُلم هذا التيار وغُمط دورُه في "النهضة الثالثة"، بينما كان يوجّه كل همّه لدعم الداخل المحتل، وربما الترويج للتيار الأدبي هناك، على حساب الترويج لنفسه.
أما التيار الثاني: فهو التيار الإسلامي، والعدد الكبير من الشعراء الإسلاميين الذين لم يسلط أحد الضوء عليهم، فلا تجد أحداً منهم في إعلاميات الثورة الفلسطينية. فقد اتُّهموا بأنهم قدموا الدين على الوطن، لكن الحقيقة كانت أن الوطن المطروح يومها كان التيارات اليسارية الغالبة في مسيرة الثورة الفلسطينية. فالعنصر الثاني في التخيير لم يكن الوطن، بل الفصائل التي كانت تحمل الفكر اليساري أو العلماني والإلحادي. فبدا كأن الشعراء الإسلاميين يعتزلون النضال من أجل الوطن، وتصاعدت هذه التهمة، ولم تتبدَّد إلا مع الانتفاضة الأولى. كما اتُّهموا بأنهم يقدّمون القضايا الأخرى (أفغانستان وكشمير وبورما وغيرها) على فلسطين، من غير أن يعترف هؤلاء أنهم كانوا مع (الاتحاد السوفييتي ضد أفغانستان، ومع الهند ضد كشمير، ومع سوكارنو في أندونيسيا ضد شعبه، وهكذا..).
وقد تعرّض الشعراء الإسلاميون للتعتيم الإعلامي، لعدم توافقهم مع السياق العام للثورة الفلسطينية، رغم أن دورهم لا يقل أهمية عن غيرهم في الحفاظ على الهوية الفلسطينية، واستمرار جذوة النضال الفلسطيني بين الأجيال المتعاقبة في شرائح لم تصل إليها قصائد الشعراء الآخرين (أعني شرائح الإسلاميين، وخصوصاً في الخليج).
وقد كتبنا مقالات سابق عن عدد من الشعراء الإسلاميين الفلسطينيين في عصرنا، بدءاً من برهان الدين عبوشي، مروراً بيحيى برزق، وصولاً إلى أحمد فرح عقيلان وعبد الرحمن بارود، ومنهم مَن لم نكتب عنهم، مثل: أحمد محمد الصديق وعبد الرحمن العشماوي، ومحمد صيام، وعدنان رضا النحوي، ومحمد فؤاد أبو زيد، ومعروف الشيخ محمود، ومحمود مفلح، وخالد أبو العمرين.. وغيرهم.
من هنا، سنتابع سلسلة شعراء فلسطين ودورهم في الحفاظ على الهوية الفلسطينية، في الحلقات القادمة للشعراء الذين برزوا خارج فلسطين، والشعراء الإسلاميين في فلسطين.. والله الموفق.
*كاتب وشاعر فلسطيني
نموذجان في الإعلام لترسيخ هوية قضية فلسطين العادلة
باقة الغربية.. تاريخ من المقاومة ضد الانتداب
دعد عبد الحي الكيّالي.. من غربتها صاغت "أغاريد الحنين للوطن"