عملت حينا من الدهر في السفارة البريطانية في الخرطوم، في وظيفة ضابط إعلام ـ مترجم، وكان من صميم المهام اليومية الموكلة إليّ، إصدار نشرة باللغة الإنجليزية تتضمن أهم الأخبار الواردة في الصحف السودانية، ثم ترجمة تقارير كانت تصل بانتظام من المكتب المركزي للمعلومات البريطاني Central Office of Information إلى العربية وتوزيعها على الصحف السودانية، وكانت هذه التقارير ثقيلة على نفسي لأنني كنت أجدها هزيلة المحتوى، لأنها في معظمها لم تكن تتعلق بأمور السياسة والاقتصاد والقضايا الحيوية الأخرى، بل كان ما يصلني منها على الأقل يتعلق بأخبار كنت أرى أنها "هايفة": الأميرة آن تتعرض لكسر في الذراع اليمنى بعد سقوطها من حصان.. الأميرة مارغريت تمارس التزلج في جبال الألب.. الأمير تشارلز يثبت أن النباتات تتفاعل معه عندما يخاطبها؛ وكنت أتميز غيظا وصحفنا تنشر كل ما أبعث به إليها من تلك الشاكلة من الأخبار، بينما كان الطاقم الدبلوماسي سعيدا بعدم إغفال تلك الصحف لأي مادة تصلها من السفارة.
ثم دارت الأيام وتسنى لي العيش في بريطانيا كطالب علم ثم كصحفي، وزيارتها عديد المرات، وكنت دائما في حيرة من أمر الشعب البريطاني: لماذا يحبون الملكة اليزابيث الثانية وذريتها لدرجة التقديس أحيانا، بينما واقع الحال يشي بأنها عائلة تعيش حياة مترفة، عالة على دافع الضرائب البريطاني؟ لماذا يرفض نحو 80% من البريطانيين إلغاء الملكية والانتقال إلى النظام الجمهوري؟ بل لماذا يرضى الكنديون والأستراليون والنيوزيلنديون بالبقاء تحت التاج البريطاني؟
في اليوبيل البلاتيني، أي بمناسبة مرور سبعين سنة على جلوس الملكة اليزابيث على العرش، تكبدت الخزينة العامة في بريطانيا نحو ستين مليون جنيه إسترليني، لتمويل نحو مائتي فعالية في مختلف المدن في الجزر البريطانية، وشهدت تلك الفعاليات نحو 16 مليون شخص منهم أكثر من مليونين من خارج بريطانيا، بل وحتى في غير مثل تلك المناسبات تجذب المؤسسة الملكية البريطانية ملايين السياح الذين يضخون المليارات في الخزينة العامة سنويا، فأي سحر يشد الناس إلى ملكة لم تكن تهش أو تنش، ولا يسمع الناس لها صوتا إلا نحو مرتين في السنة تهنئ فيهم الشعب بهذه المناسبة أو تلك؟
تتفاوت الأجوبة على هذا السؤال، ولكن معظمها يقول بأن حب البريطانيين للملكة ينبع من حبهم لـ "المؤسسية"، واحترامهم للتقاليد والأعراف، وليس أدل على ذلك من أنه ليس لبريطانيا دستور مدون، ومع هذا فجميع الأحزاب ملتزمة بأصول مرعية ومتوارثة للحكم وتداول السلطة، وعمر النظام الملكي في بريطانيا يناهز الألف سنة، وفي القرن السابع عشر نجح القائد العسكري أوليفر كرومويل في الإطاحة بالملك وأسس نظاما جمهوريا دام أحد عشرة سنة، ومنذ وقتها ومعظم البريطانيين يعتبرون كرومويل خائنا وديكتاتورا، وفيما يتعلق بالملكة إليزابيث التي ووريت الثرى في 19 أيلول/ سبتمبر الجاري، فإن سحرها يكمن في أنها لا تهش ولا تنش، ولم يحدث أن نطقت بكلمة يمكن أن تحسب تحاملا على طرف او انحيازا لجهة، وبما أنها نأت بنفسها عن العمل التنفيذي، فلم يكن هناك من يحملها مسؤولية تدني الخدمات العامة أو حدوث ضوائق اقتصادية، وما عطَّر سيرتها أكثر، اقتران عهدها بالفترة التي برزت فيها بريطانيا كقوة عسكرية مهابة، بعد أن قادت التحالف الذي انتصر في الحرب العالمية الثانية، وكونها تطوعت خلال تلك الحرب بأن تعلمت قيادة السيارات وأصول ميكانيكا السيارات في سياق دعم المجهود الحربي.
في أوروبا وحدها هناك 32 جمهورية تأخذ بالنظام البرلماني، مما يعني أن حامل لقب "رئيس جمهورية" فيها لا يملك أي سلطات تنفيذية، أي أن منصبه "تشريفي" مثل ملك / ملكة بريطانيا، وتفيد استطلاعات متواترة بأن غالبية الناس في كل الأقطار لا تعرف أن في ألمانيا رئيس للجمهورية، لأن من يشغل منصب المستشار فيها، وهو ما يعادل رئيس الوزراء في الدول الأخرى، هو الكل في الكل.
ملكة بريطانيا لم تشتر حب الناس واحترامهم بالمال أو بالغصب بقوة السلاح، بل باحترام تقاليد بلدها، والعمل في صمت (ولو أدبيا) في كل مجال يسهم في رفعة بلدها، وبلغ من حب شعبها لها، وهو حب للتاريخ والأصول المتوارثة المرعية، إن من يتحدث بلغة إنجليزية رفيعة يقال عنه إنه يتكلم "إنجليزية الملكة"، باعتبار أن الملكة لا تنطق بكلام فيه خطأ.
ثم أنظر الجمهوريات العربية التي توحي أسماؤها بأن شاغلي المناصب الدستورية والسيادية فيها منتخبون من قبل الشعب، وتذكر الرؤساء المزمنين من شاكلة عمر البشير (سجين اليوم) وصدام حسين وعلي عبد الله صالح ومعمر القذافي (رحلوا من مناصبهم قتلا)، وحسني مبارك طار من منصبه طريدا إلى السجن لبعض الوقت، وتسلم الراية عبد الفتاح السيسي الذي أعطى نفسه صلاحية الحكم لـ 17 سنة قابلة للتمديد إذا مد الله في أيامه، بينما حافظ الأسد مات على سريره بعد أن أدخل سوريا سرير العناية الفائقة، تحت إشراف الطبيب بشار الأسد، الذي يقوم حاليا بتقطيع أوصالها.
وتماثل جامعة الدول العربية المؤسسة الملكية البريطانية فقط من حيث أنها تعيش عالة على خزائن الشعوب العربية، ولأنها تعاني، أو يراد لها أن تعاني من إعاقات مُركَّبة، فلم يصدر عنها قط قول أو فعل يجعل الجماهير العربية تكنّ لها أي قدر من الود، ورغم أن ميثاق الجامعة يعطيها حقوقا وصلاحيات تفوق تلك التي كانت تتمتع بها ملكة بريطانيا الراحلة، إلا أنها غير معنية سوى بامتيازات ومخصصات الكوادر العاملة فيها، والتي لا يعرف أحد لها عملا مجديا.
وما يؤكد أن النظام الملكي البريطاني يعرف الأصول أن عبد الفتاح البرهان سافر إلى لندن للمشاركة في تشييع إليزابيث إلى قبرها، فجاء توصيفه في قائمة الزوار على أنه "قائد عسكري السودان"، ولم يخصصوا له مكانا في طابور رؤساء الدول الذين قدموا لتقديم العزاء، ويُحمد للبرهان أنه عرف قدر نفسه فحطت طائرته في مطار شبه مهجور في لندن، وكان في استقباله مندوب من هيئة المراسيم في وزارة الخارجية البريطانية، وربما حز ذلك في نفس البرهان، فكان الوحيد بين المعزين الذي لم يلتزم ببروتوكول العزاء فارتدى حُلّة زرقاء، كانت نشازا وسط بحر السواد المتلاطم.
ملكة بريطانيا لم تشتر حب الناس واحترامهم بالمال أو بالغصب بقوة السلاح، بل باحترام تقاليد بلدها، والعمل في صمت (ولو أدبيا) في كل مجال يسهم في رفعة بلدها، وبلغ من حب شعبها لها، وهو حب للتاريخ والأصول المتوارثة المرعية، إن من يتحدث بلغة إنجليزية رفيعة يقال عنه إنه يتكلم "إنجليزية الملكة"، باعتبار أن الملكة لا تنطق بكلام فيه خطأ.
فضيحة "ووترغيت" اليونانية والتصعيد ضد تركيا
ترِكة الديكتاتورية.. السودان نموذجا
الفكر القومي العربي وفاجعة النهايات