الكتاب: النصر المبين
الكاتب: إبراهيم صقر الزعيم
الناشر: إي ـ كتب، لندن، أيلول 2019م
عدد الصفحات: 160صفحة
مما لا شك فيه، أن الشعب الفلسطيني يرزح تحت احتلال إحلالي، في ظل واقع عربي وإسلامي مؤلم. أوضاع لم تشهدها الأمة العربية والإسلامية في أي من العقود الماضية من حالة التخبط والتيه؛ لذلك نجد البعض في حالة صدمة، وانتكاسة، وعدم اكتراث لما يدور حوله في واقعه المحلي والعربي والإسلامي، فهل وقع البعض في حالة صراع نفسي بين واقعه وثقافته التي جبل عليها؟ أم أن الآخرين تعرضوا إلى حالة من الانزواء الفكري، والسخط على الواقع الذي جعلهم لا يكترثون بما يجري خارج عالمهم، يقيمون دولتهم وحدهم، داخل محيطهم في بيوتهم ومكان عملهم، لا يعنيهم ما يتعرض له الآخرون من ضنك الحياة، وظلم ذوي القربى والسلطان.
حالة الصراع النفسي والانزواء الفكري ستفضي بأي حال من الأحوال إلى مرحلة الصدام المجتمعي، والوصول إلى حالة من التكفير للآخر، فيقول الكاتب في مقدمته؛ "إن التقوقع حول الذات، أو الخروج الفكري، والمسلح على المجتمع، لن يكون حلا للأزمة بل مضاعفة لها، وتقطيعا لجسد المجتمع، الذي يفترض أن يبقى متماسكا، في زمن الفتن والملاحم" (ص9). وأما عن هدفه من وضع هذا الكتاب، يشير "تجديد الأمل بعلو هذه الأمة، من خلال تقديم المفهوم الدقيق للنصر، والتفريق بين النصر والتحرير، فإذا حقق المسلم أركان النصر، كان منتصرا، وإن اعتقل أو استشهد، أو أخرج من أرضه بدأت أولى خطواته نحو التحرير، الذي يعد نتيجة لمسيرة طويلة مع هذه الأركان" (ص9).
فرق الكاتب في الفصل الأول بين المفهوم البشري للنصر، الذي اقتصر على كسر إرادة الخصم، وإزالة رغبته في القتال أو المقاومة، وهو مفهوم يختلف كليا عما جاء في القرآن الكريم "إنا لننصر رسلنا، والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد". ويقول الكاتب هنا؛ "إن الله سبحانه يتكفل بنصر رسله والمؤمنين في الحياة الدنيا والآخرة، وانتصارهم في الدنيا ـ وفق فهمنا ـ علو الرسل على أعدائهم، وذلك إما بانتقام الله من المشركين والمعاندين، أو التقاء الفريقين، فتكون الغلبة للرسل والمؤمنين، ولكن ما وقع غير ذلك، فنحن نعلم أن من الأنبياء من قتله قومه، مثل يحيى وزكريا عليهما السلام، ومنهم من هموا بقتله، فنجاه الله من بين أيديهم مثل محمد صلى الله وعليه وسلم وعيسى عليه السلام"(ص13). ومن ثم يتساءل الكاتب أين النصرة للرسل هنا، وبعضهم من أولي العزم، يصيبهم من القتل والإخراج من الأرض؟ أليس القتل والإبعاد هزيمة معنوية ومادية؟"
يجيب الزعيم بوجود ثلاث صور للنصر
الأولى: ظهور الأنبياء والمرسلين على المكذبين من أقوامهم.
الثانية: نجاة الرسل وهلاك المكذبين، كما في قصة نوح عليه السلام.
الثالثة: قتل الرسول وربما بعض أتباعه، ثم يأتي انتقام الله من المجرمين المكذبين بأيدي أقوام آخرين (ص15).
كما صنف الكاتب للنصر ثلاث صور في القتل، الأولى نيل الشهادة في سبيل الله، وعنها يقول: "هذه المكرمة العظيمة، هي غاية الأنبياء والأولياء في الدنيا؛ ليبلغوا بها الأمنية الأعلى، والغاية الأسمى "كما قال الله تعالى (ويتخذ منكم شهداء)؛ أي إنهم وصلوا مرحلة الاختيار الإلهي، والاصطفاء الرباني، لمن صفت نيته، وحسنت سريرته، وتوقدت فكرته، فحكم الشريعة، ونصر أمته.
أما الصور الثانية في القتل، فهي حياة للأمة، كيف ذلك؟ يجيب الكاتب؛ "إن قتل الرسول أو الداعية حياة للأمة من بعده، فلم تكن الشهادة أبدا موتا للفكرة، وانتهاء للقضية. إنها حياة جديدة تبعث في نفوس الحواريين، رغبة عظيمة أن يكونوا أنصار الله"، ودلل الكاتب على ذلك بالغلام في سورة الكهف؛ كيف كان قتله حياة للأمة، فنهض قومه للحق، وصبروا على الأذى، حتى قتلوا جميعا في سبيل الله.
والصورة الثالثة، انتشار المبدأ، (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون)، فأولئك العباد شرفوا بأن كانوا أحياء في الدنيا، وأحياء في الآخرة؛ لأن الجزاء من جنس العمل.
قسم الكاتب أنواع النصر في الفصل الثاني إلى ستة:
1 ـ الانتصار الروحي، وأعطى الكاتب بها مثالا على صمود بلال بن رباح في مواجهة أمية بن خلف حينما صلبه ليرجع عن دينه.
2 ـ انتصار المبدأ، وتحقق ذلك بأن أنصار الدعوة الإسلامية لم يكونوا من الفقراء والضعفاء فحسب، بل انضم إليهم الأغنياء والأقوياء بإسلام حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب.
3 ـ انتصار المعية، فقد أجمعت قريش في كيدها على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنصره الله تعالى بأن أبطل كيدهم، وبدد مؤامراتهم، فكان ذلك نصرا عظيما لقيادة الدعوة"؛ نصرا لشخصين اثنين في مواجهة دولة كاملة، اثنين مسالمين لا يحملان السلاح، أمام جيش عالي التدريب، رجلين كبيرين في العمر، مقابل شباب أشداء، اثنين يفلتان من مخابرات قريش وجيشها" (ص57).
4 ـ النصر الحضاري: تظهر أخلاق الأمم على حقيقتها في حالين؛ هما الحرب والنصر العسكري، اللذين سماهما الكاتب ميزان الحضاري، وكفتا الميزان أخلاقية أو مادية، "إذا نصبنا ميزان الحضارة لتحديد صاحب القدر الأعلى من الحضارة الأخلاقية، وجدنا – على مدار التاريخ- أن كفة الحضارة الأخلاقية، هي الكفة الراجحة لصالح المسلمين، وكفة الحضارة المادية هي الراجحة لصالح أعدائهم" (ص60).
5 ـ وضع الكاتب النصر السياسي في المرتبة الخامسة، واتخذ الكاتب من غزوة الأحزاب شاهدا عليه، التي كانت محطة فارقة في طبيعة العلاقة بين الطرفين، بل إنها كانت مفصلية أيضا في خطاب قريش السياسي، التي كان خطابها قبل غزوة بدر خطابا استئاصليا، بمعنى أنهم لم يكونوا يؤمنون بحق المسلمين في الوجود، ويعتبرونهم فئة خارجة عن القانون الجاهلي، ولذلك لم تعقد معهم مكة أي اتفاق سياسي، ويضيف هذا الخطاب المتعنت تغيرا كليّا بعد غزوة الأحزاب، التي قلبت المعايير، واستسلمت مكة للحقيقة، وهي أنها لن تفلح في استئصال القوم، لقد جربت معهم الحيل كافة، واستخدمت كل أشكال الحروب؛ التعذيب، والتجويع، والدعاية، والإخراج والاعتقال"(ًص67)، فقد أذعنت قريش في العام السادس للهجرة للغة الحوار مع المسلمين، وهذا عدّ بحد ذاته تغييرا في برنامجها السياسي.
6 ـ وصنف الكاتب النصر العسكري في الترتيب السادس بقوله: "لن تنصر عسكريا إلا إذا انتصرت لعقيدتك، فليست الغلبة لقوة البدن، ولا لكثرة العدة والعدد، وإنما لقوة العقيدة، وكثرة العبادة، وبهذا يستجلب المدد" (ص71).
للنصر أركان لا يتم إلا بها، شملها الكاتب في الفصل الثالث، ولكل ركن منها حقيقة وثمرة، وهي الإيمان بأن الله هو الذي فرض الجهاد كما فرض الصلاة، والإيمان بالفكرة، هي الخطوة الأولى نحو تحقيق الأهداف العظيمة، وبلوغ الغايات السامية، وركن الفهم، يعني الإدراك الجيد لمعنى الصراع مع العدو، والتخطيط، ومعرفة أبعاد الصراع السياسية والعقائدية، أي إن الفهم موصول بالإيمان، أما الإعداد والثبات فركن لا يمكن التغاضي عنه، فلا إعداد قبل إيمان وفهم، ولا نصر دون إعداد؛ لأن ثمرته إرهاب العدو والانتقال من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم (ص90).
احتلت الثقة المرتبة الخامسة؛ لأنه لا يمكن أداء تلك الأركان دون الثقة بأن النصر قادم" على الرغم من كون الثقة هي الركن الخامس، إلا أنها على درجة عالية من الأهمية، فالثقة هي التي تظهر الإيمان على حقيقته، ذلك أن هذا الركن يظل خاملا زمن الرخاء، وينشط في البأساء والضراء، وعندها يظهر فقط الإيمان على حقيقته، فإما أن يكون القلب لم يأخذ حظا وافرا منه، وهؤلاء هم ضعاف الإيمان، وإما يكون خاليا منه تماما، وهؤلاء هم المنافقون، وإما يمتلئ إيمانا، ثم يفيض على ما حوله، كأرض سقتها السماء ماء، فأخرجت للناس من كل الطيبات بأمر ربها، وأولئك هم أهل الإيمان لا يترددون، ولا يرتدون على أعقابهم" (ص124)، أما الركن السادس، فهو العمل الصالح، الذي يتجلى في الأركان السابقة كافة.
تبدأ مراحل النصر بمرحلة الصدمة التي بينها الكاتب الفصل الرابع، وهي مرحلة مهمة من مراحل الصراع بين الحق والباطل، ولا بد للجماعة المؤمنة أن تكتشف طبيعة المعركة التي تخوضها ضد الباطل، وأن الباطل لن يسلم لها دون تضحيات، كونها تنازعه ملكه، وتسلبه سلطانه، ولهذا فلن تكون المعركة عقلانية ولا حضارية، فالغاية القضاء على أصحاب الرسالة، تبرر كل وسيلة" (ص133)، ويضيف الكاتب بأن هذه المرحلة خطيرة، ومهمة في الوقت ذاته، فمن أعجب العجب أن تحمل للناس الخير، ويضمرون لك الشر، تتمنى لهم السعادة، ويريدون لك الشقاوة، تحسن لهم، ويسيئون إليك، تحنو عليهم، ويقسون عليك، تعطيهم ويمنعونك، تذكرهم وينسونك، تدعوهم، ويحاربونك.
إن تحرير فلسطين، سيكون تحولا عظيما في التاريخ، ينطلق بعدها المؤمنون لينقذوا البشرية من الظلم العظيم، الذي فرضته القوى العظمى، فتحولت به الأمم والشعوب، إلى خدم تلبي من حيث تعلم، أو لا تعلم، مصالح الإمبراطوريات، أسست وتعاظمت بأموال الشعوب المغلوب على أمرها وعذاباتها.
تأسيس الكيان المرحلة الثانية من مراحل النصر، وعنها يقول: "من كان يحسب أن الهجرة إلى المدينة ستحمل ذلك الخير كله، ليس للجيل الأول من المؤمنين، وإنما للبشرية جميعا، من كان يعلم أنها ستتحول من تجربة مريرة إلى فكرة ملهمة تقود المستضعفين إلى الخلاص على مدار التاريخ"، إنه الشر في ظاهرها، والخير في باطنها، إنها رحلة الصراع الأبدي، الذي يطارد الباطل همسات الحق (ص138)، ويتساءل الكاتب حول تشكيل قوة مناصرة للحق، ومدافعة عنه، فإذا كانت هي الحكمة الأعظم من الهجرة، فكيف يمكن لهذه القوة أن تتشكل لولا الهجرة؟ وكيف سيقبل الباطل بتأسيس عصائب الحق بين ظهراني الشرك؟ (ص39).
ووضع الكاتب المرحلة المناوشة في المرتبة الثانية، التي تبدأ بعد استيعاب الأطراف كافة، وعدم فتح عداوات مع أحد، فليس من الحكمة زيادة الخصوم، وفتح عديد من الجبهات في آن واحد، الأمر الذي يودي لتشتيت الجهود، وتفتيت القوة، والانصراف عن الهدف الرئيس، وهو العودة للوطن، وتطهيره من الشرك؛ تحقيقا للخلافة في الأرض، وتلك كانت السياسة الخارجية لرسول الله محمد صلى الله وعليه وسلم مع قريش (ص142). وصنف الكاتب العمل الفدائي في فترة الستينيات والسبعينيات، وفترة انتفاضة الحجارة الأولى، وانتفاضة الأقصى، ضمن مرحلة المناوشة، وفرق بين العمل الفدائي المسلح بأنه مناوشة فردية، أبطالها مجموعة من المقاومين، أما الانتفاضتان فهما مناوشة جماعية، أبطالها المجتمع الفلسطيني كله ( ص145) .
مرحلة المقارعة، فلم يكن الهدف من المرحلة السابقة هو القتال والالتحام المباشر مع العدو، فقد يؤدي إلى القضاء على الدعوة قضاء تاما، وتكبدها خسائر فادحة، فتعود الدعوة إلى المربع الأول، وعن ذلك يقول الكاتب: "بعد عام واحد من الهجرة، تأهلت الجماعة المؤمنة تأهيلا عسكريا؛ شهدت تطور قدراتها القتالية في فترة قياسية، فتنتقل من تشكيلات تنفذ مهمات خاصة وخاطفة، إلى جيش يدخل في مواجهة مباشرة، فكانت معركة بدر في العام الثاني للهجرة" (ص146). ويؤكد الكاتب بأن أهداف هذه المرحلة لم تكن القضاء على قريش؛ فالتحرير والعودة والتمكين في الأرض، أمور عظيمة لا تأتي بجولة أو اثنتين، وإنما تحتاج إلى عديد الجولات، لكن هذه المرحلة، هي إسقاط خرافة الجيش الذي لا يقهر، وقد كان (ص147).
مرحلة الندية، وهي المرحلة الفارقة في تاريخ دولة التوحيد النبوية، ودولة الشرك الجاهلية، وأهميتها أنها كانت تملك من الحشد والقوة والتصميم ما يمكنها من استئصال الدولة الجديدة"، من اليوم فصاعدا لن تجرؤ قريش على السير إلى المدينة المنورة، بل تكون الأخيرة هي مصدر الفعل، فيسير إليهم جيش التوحيد يزلزل أفئدتهم، ويقتلع باطلهم، والجديد في سيرة بعد الأحزاب إليهم، عن سيره إلى ما قبلها"، ولذلك يضيف الكاتب أن فرض معادلة جديدة في المعركة مع الخصم، ليس أمرا هينا، فهذا يأتي نتاج محطات عديدة، يحاول فيها الباطل فرض معادلته بمنطق القوة، وبالعقلية التي يفهمها، وبالسياسة ذاتها، تدخل معه الجماعة المؤمنة في مرحلة خطيرة، فقوتها لا تباري قوته، ولكن ما يرجح كفتها هو قوة الإيمان، ثم قوة الحق، الذي تقاتله من أجله" (ص149)، فكان هدف هذه المرحلة تغيير موازين القوى، وفيها زادت قدرة المسلمين على الهجوم أكثر من قبل.
يمثل كسب أرض جديدة المرحلة السادسة، وتضمنت رصد تحركات العدو، وتأمين حدود الدولة المسلمة، والإغارة على قوافل قريش، فاستطاعت بذلك تأمين نفقتها، وسلب حالة الأمن من قريش؛ "كانت هذه المرحلة إيذانا صريحا بزوال الباطل، فهذه قريش بجبروتها، لا تستطيع حماية قوافلها، فيقع شبابها وقيادتها بين قتيل وجريح وتصادر أموالها، في حرب عصابات تنفذها قوة الردع الإسلامية" (ص151). لم يكن المغنم هو الغاية التي تسعى إليها الثلة المؤمنة، وإنما رفض الفتنة في الدين، فكان هدفها اسناد الدولة بأعمال تضعف اقتصاد مكة، وتزعزع إحساسها بالأمن وقت الصلح (ص152). وتأتي أخيرا مرحلة النصر المبين، الذي تكلل بفتح مكة في العام الثامن من الهجرة، فعاد المهجرون إلى ديارهم، وظهر الإسلام في بلد رزح دهرا تحت أغلال الشرك، وكان غاية هذه المرحلة الانتشار نحو العالمية، والتمهيد ليعم السلام بالإسلام أقطار الدنيا؛ إنه السلام القائم على حفظ الحقوق للناس جميعا، على اختلاف الدين والعرق واللغة. أما ما يزعمه الغرب سلاما، فهو استسلام يفرضه القوي على الضعيف (ص155).
وعليه ينهي الكاتب دراسته بخاتمة تبعث على الأمل والنصر المبين؛ "إن تحرير فلسطين، سيكون تحولا عظيما في التاريخ، ينطلق بعدها المؤمنون لينقذوا البشرية من الظلم العظيم، الذي فرضته القوى العظمى، فتحولت به الأمم والشعوب إلى خدم تلبي من حيث تعلم، أو لا تعلم، مصالح الإمبراطوريات، أسست وتعاظمت بأموال الشعوب المغلوب على أمرها وعذاباتها، ويوم يعلو الحق في القدس؛ فإن الطواغيت التي ألهت نفسها من دون الله، ستبوء بخزي الدنيا والآخرة، ولن تجد لها من دون الله وليا ولا نصيرا" (ص155).
الخطاب الإسلامي إلى أين؟ حوارات حول تحديات الألفية الثالثة
فاعلية المكون القبلي والجهوي في المجتمعين التونسي والليبي
المفكرون الشموليون لا يعول عليهم للخروج من الغيبوبة الثقافية