قبل
عام من ثورة يناير المجيدة، وتحديدا في شهر آذار/ مارس 2010، كنت في سجن
"الوادي الجديد" الذي يبعد عن القاهرة (مكان سكني) قرابة ألف كيلومتر،
وكنت أستعد لمناقشة رسالة الدكتوراة في الحقوق في جامعة القاهرة، وبعد مراسلات كثيرة
بين إدارة السجن ومصلحة
السجون وكلية الحقوق، تم الاتفاق على تحديد موعد المناقشة
في 15 آذار/ مارس. وقد اشترطت الجامعة حضور الطالب بنفسه للقاعة الخاصة بطلبة
الدراسات العليا بكلية الحقوق.
وجاءت
سيارة الترحيلات قبل الموعد بيوم وقطعنا مسافة السفر في أكثر من تسع ساعات،
وانتهينا في مجمع السجون بمنطقة طرة "سجن المحكوم".
وفي
الصباح الباكر جاءت سيارة الترحيلات، وتوجهنا قاصدين جامعة القاهرة، حيث فوجئت
بحشد كبير جدًا من أهلنا في كرداسة، وقد امتلأت بهم القاعة عن آخرها، وقد دوّت
أصوات التصفيق والتكبير والزغاريد في جنبات المكان، وأمي تردد: "زال الألم
وبقي الأجر إن شاء الله"، وأخذت ترددها مرات ومرات، ساعتها أحسست أن سنوات من
الصبر على الألم والمعاناة قد ذهبت دفعة واحدة، وغمرني شعور عظيم بنشوة المنتصر
الذي قهر الأغلال، وتغلب على السجن والسجان.
وبعد
مناقشة دامت أكثر من ثلاث ساعات أكرمني الله بالحصول على درجة الدكتوراة في الحقوق،
بدرجة جيد جدا.
وبعد
انتهاء هذا العرس المبهج عادت يداي إلى كلابش السجان، وقفلنا عائدين إلى الوادي
الجديد.
واستقبلنا
مأمور السجن بتهنئة صفراء ممزوجة بالأحقاد قائلا: "مبروك يا دكتور محمد".
-
"شكرًا يا باشا".
- "لكن
للأسف لن تستمتع بالدكتوارة؛ لأن القرار قُضي بأن تقضوا أعماركم كلها معنا هنا (في
السجن)".
-
"الله كريم يا سيادة المأمور".
واستقبلني
زملائي داخل العنبر بالتكبير والتبريكات والأناشيد في حفلة رائعة، لا أنساها ما
حييت، وعندما حكيت لهم حوار الأحقاد وكلمات المأمور المسمومة؛ قام صديقي أشرف عبد
الكريم (أبو صالح) -وكان من أهل القرآن والصلاح- وأقسم بالله أننا سنخرج قريبا في
عز ونصر مبين، وتعجبت من قوة يقينه المعضد بالقسم رغم أن الأسباب المادية
والمعطيات العقلية كانت بخلاف ذلك!
ثم
دعاني أن أبيت معه في زنزانته هذه الليلة، وبالغ في إكرامي -رحمه الله- وقمت في
الثلث الأخير من الليل على صوت صلاته وتسبيحه واستغفاره، وكان قوّاما صوّاما،
فتوضأت وصليت ركعتين، ثم جلست أسبح وأستغفر. وقد هالني كثرة الطيور التي تجيء وتقف
على نافذة الحجرة في هذا الوقت من الليل! وكأنها تستمع إلى ذكرنا لله! وتعجبت من
ألوانها وأحجامها ووقوفها ساكنة خاشعة!
وعندما
أنهى صلاته سارعت إلى سؤاله عن هذه الطيور، فقال: "إن وعدتني أن تكتم عني
أخبرتك"، فوعدته، فقال (وقد أشرق وجهه وعلته هالة من النور): "كل ليلة
عندما أبدأ في القيام تجيء هذه الطيور، وتظل هكذا حتى أذان الفجر"، ثم ابتسم،
وشد على يدي، وقال: "لو يعلم الملوك ما نحن فيه من لذة الطاعة لجالدونا
عليها، نحن نعيش اللذة الحقيقية، لذة القرب من الله، وهم -يقصد المأمور ومن على شاكلته- المسجونون داخل أنفسهم وأسرى لأهوائهم"!
ولم يمر
عام إلا وجاءت البشريات بموت المسؤول الذي كان يتوعدنا بالموت داخل السجون، ثم ما
لبثت البشريات أن اشتدت بثورة عارمة في أرجاء "المحروسة".
وأتذكر
يوم تنحي حسني مبارك، وقد كنا نصلي المغرب في سجن "الوادي الجديد"، وجاء
البيان، وكانت فرحتنا هستيرية بزوال الديكتاتور الذي حكم أكثر من ربع قرن، ورأينا
الذل والهوان في عيون السجانين، وقد تملكهم الرعب والخوف، وقد خرجنا جميعا من
السجن بحول الله وقوته إلى ميادين
الثورة مباشرة.
وكانت
آخر مكالمة مع صديقي أشرف عبد الكريم (أبو صالح) يوم فض
رابعة، فقال: "أنا
ذاهب لنصرة إخواننا في رابعة، ولو لم نجد في نصرتهم إلا أن نقتل معهم فليكن
ذلك". وقد قُتل -رحمه الله- مع مجموعة من إخواننا.
أجد
نفسي اليوم أقول ما قاله صديقي؛ فأنا أقسم بالله عن قناعة تامة ويقين راسخ بأن تلك
الدماء الزكية والنفوس الطاهرة التي أزهقها المجرمون ستكون لعنة عليهم، تقض
مضاجعهم، وتستأصل شأفتهم، وتنزع ملكهم، وتهوي بهم إلى سَقَر.
وإني
والله أرى الموجة الثانية للثورة
المصرية قد حان أوانها، واشتعل أوارها، وقريبا
جدا يشفي الله صدورنا من كل المجرمين.