أمضى الرئيس التونسي نسخة "الدستور الجديد" في حفل لم يحضره سواه. فبعد أن ألغى بشكل انفرادي دستور 2014، كتب بمفرده دستورا على هواه وحدّد له قانونا انتخابيا واختار بنفسه هيئة تشرف عليه، وطوّع القضاء الذي يحكم في النزاعات الانتخابية.
وفي حالة من اللامبالاة التامة من عموم التونسيين، المنشغلين بمقاومة غلاء الأسعار ونُدرة المواد الأساسية الغذائية والأدوية والمحروقات، خطب الرئيس متجاهلا كل ذلك، بل متجاهلا موجة الحرائق الكبيرة التي تضرب مناطق واسعة من البلاد، وباتت تهدّد الدور والأرزاق في أكثر من مكان.
ولم يعد يخفى على المتابعين للشأن التونسي أن البلاد توغلُ أكثر فأكثر نحو أزمة مُركّبة عميقة، خاصة أن حالة الإنكار والقطيعة مع الواقع تزداد قوة عند الرئيس، والفجوة بينه وبين شرائح واسعة من التونسييين تزاد هوّة، وإمكانيات العودة لصوت العقل صارت شبه منعدمة.
1 ـ الرئيس.. المخلّص
تتلبّس شخصية الرئيس قيس سعيّد ذهنية "مسيحانية" تجعله يعتقد أنه "مُكلّف" بحمل أمانة السلطة، وأن الرياسة امتحان له. وقد كرّر في الحقيقة أكثر من مرّة، انه لم يرغب في أن يكون "سلطانا" بل إنه حمّلها وهي "كره له". وكرّر الرئيس نفس هذا التصور في "خطاب التوقيع" حيث ذهب إلى أنه جاء نتيجة "انتشار الظلام والفساد" وأن ما قام به حدث "تاريخي عظيم" سينقل الشعب من عالم البؤس والشقاء إلى عالم أفضل "فلا خوف ولا جوع".
وأضاف الرئيس أن الدستور الذي صار نافذا باذنه طابق بين "الشرعية الدستورية والمشروعية الشعبية".
وتوعّد الرئيس ـ كعادته ـ خصومه بالويل والثبور مكرّرا "الشعب يُريد تطهير البلاد" ثلاثا.
إن هذا التصور المسيحاني/ الشيعي الذي يعتقد صاحبُه، أنه فوق المساءلة والنقد، وأن الباطل لا يأتيه، وأن الأخطاء لا تتسلل إليه، وأن كلّ من يعارض سماحته متآمرٌ أو فاسدٌ أو جاهلٌ، يقود إلى إلغاء كل مرتكزات النظام الديمقراطي القائم أساسا على ثنائية التشاركية والمساءلة. لذلك تغيب على خطاب الرئيس كل إشارة إلى الديمقراطية أو إلى التشاركية أو حتى حقوق الإنسان، مقابل الحضور الطاغي للتقسيم القائم على مقابلة بين نحن والهم، نحن الصالحون الأخيار وهم الأشرار الذين وجب تطهير البلاد من شرورهم.
على أن هذا "السعيد المخلّص" لا يهتم بتاتا بتخليص التونسيين من مشاكل الحياة، بما فيها من ارتفاع لمعدلات الفقر، وغلاء وبطالة، وتفشي الأوساخ في البلاد وتدهور الخدمات العامة، فضلا عن عجز الموازين المالية والتجارية للدولة، دون مرور إلى المشاكل الدائمة المتعلقة بغياب السيادة الغذائية والطاقية والمائية.
2 ـ الرئيس.. التحدي السياسي
يواجه الرئيس ضغوطا خارجية وداخلية، لدفعه نحو المسارعة بإجراء انتخابات تشريعية ولم لا ورئاسية. ويتم التركيز هذه الأيام على "القانون الانتخابي" حجر الزاوية الأخير في المسار الديمقراطي. ويبدو حسب ما يرشح من "دعاة الرئيس" ومفسري "كلمته" أن هذا القانون سيقوم على مبادى ثلاث ستقود إلى تكريس ما يُسمّى ب"البناء القاعدي" وهو منظومة حكم شبيهة ب"النظام الجماهيري" الذي كان سائدا في ليبيا طيلة فترة حكم الراحل معمر القذافي.
حيث سيكون الاقتراع على الأفراد في أصغر الدوائر الانتخابية، ويخضع النواب المنتخبون إلى المساءلة الشعبية المباشرة بما فيها سحب الوكالة، ويُحاصر مجلس نواب الشعب بما يُسمّى مجلس الأقاليم ـ وهو مكون من ممثلي الجهات والاقاليم ـ في كل قراراته.
لا يبدو لنا أن الرئيس التونسي قيس سعيد "سيد قراراته" فسيضطر قريبا للبحث عن خلاص من كل هذه المعارك، ولن يكفيه تجاهلها وإنكارها، فالتونسيون شعبٌ صبورٌ ولكن لصبره دائما حدود.
على أن الانتظار الأهم يكمن في ما يُمكن أن يحتويه النظام الانتخابي من إقصاء للخصوم السياسيين ولمعارضي الرئيس. فلم يخف الرئيس قيس سعيد احتقاره للأحزاب واعتقاده أن دورها انتهى وأنها لم تكن غير "أجهزة / منظمات" غايتها التنكيل بالشعب ونهب ثرواته. وسيكون من الطبيعي بحسب هذا المنطق جعل الاقتراع على الأفراد في إلغاء لمشاركة الأحزاب تحت "اليافطات الحزبية"، بل إنه يُنتظر بحسب دعوات "اتباع الرئيس" أن يتم إقصاء "من ساهم في جرائم ضد الشعب في العشر سنوات الاخيرة" من المشاركة في الانتخابات، وهي تهمة واسعة غير قابلة للقيس والتحديد الموضوعي، ومن المحتمل أن تشمل كل من شارك في الحياة السياسية والبرلمانية في الفترة المذكورة.
وهناك حديث على إقصاء حركة النهضة الإسلامية والحزب الدستوري الحر وبعض الشخصيات والأحزاب المعارضة الأخرى. إقصاء إن تمّ سيزيد من تعميق الأزمة السياسية ولن تكون الانتخابات ـ إن حصلت ـ إلا إسفينا آخر يُدقّ في جسد الوحدة الوطنية وإنهاء للتجربة الديمقراطية.
3 ـ الرئيس.. التحدي الاقتصادي
لم يشارك أكثر من خمسمائة الف تونسي في ما سُمّي "الاستشارة الالكترونية" ولم يتجاوز المشاركون في الاستفتاء ربع التونسيين، ولم يهتم الكثير بتوقيع الدستور وإصداره. فالتونسيون منقسمون على أنفسهم، منصرفون إلى مشاغل الحياة. فالكثير منهم بواصل قضاء إجازته السنوية يستجمون على الشواطئ التونسية الساحرة، منهم مئات آلاف الطلبة وأعضاء النقابات، وعودة هؤلاء لحياتهم الطبيعية ستحمل معها ضرورة ـ بحسب دروس التاريخ ـ تحركات احتجاجية وإضرايات وقلاقل كبيرة، إذ عرفت هذه القطاعات بارتفاع أصواتها الاحتجاجية على تردي الظروف الاجتماعية والاقتصادية.
وينصرف آخرون إلى تدبّر أمورهم لتوفير مستلزمات العودة المدرسية، حيث تشهد أسعار المواد غلاء غير مسبوق في أسعار الكراسات والأدوات والمحافظ المدرسية وكذلك أسعار الملابس للأطفال، وقد حدّد رئيس منظمة الدفاع على المستهلك "تكلفة عودة تلميذ واحد بما قيمته 850 دينار تونسي" أي ما يعادل ضعف معدلات الأجور الشهرية في تونس.
عتقد العجز الغذائي والطاقي وانتشار الفقر وبوادر الانهيار الاقتصادي كلّها نُذر انفجار اجتماعي، والعزلة الخارجية التي صارت بائنة وتحول الملف التونسي إلى البنتاغون ينضاف إليه تململ القوات الأمنية في تونس مؤشرات على "خريف ساخن" يجعل التركيز على الانتخابات غير ذي جدوى، فبيننا وتاريخها أربعة أشهر قد يجري فيها الماء نحو مسارات أخرى.
وتشير تقارير أخرى إلى أن عجز الميزان الغذائي قد بلغ 1،7 مليار دينار وهو مبلغ ضخم، دفع حكومة الرئيس إلى الاستدانة لضمان شراء المواد الغذائية لتغطية الاحتياجات حتى موفى السنة، إذ اقترضت 130 مليون دولار منذ شهر. وذكر وزير الطاقة أن الزيادات في أسعار المحروقات أمر لا غنى عنه، مع تصريحات أخرى كثيرة تتعلق بالرفع الكلي لدعم المواد الأساسية وتحرير الأسعار، استجابة لطلبات صندوق النقد الدولي. ويبدو أن مثل هذه الإجراءات التي تجد معارضة شديدة من الاتحاد العام التونسي للشغل كبرى نقابات البلاد، ستكون إن حصلت سببا مباشرا في اندلاع احتجاحات كبيرة.
خاتمة
لا يبدو الرئيس مستعجلا أموره في الحقيقة. فهو يسير بحسب "خريطة طريق" فردية صاغها ويطبقها دون اهتمام باي شيء آخر. بل إن الرئيس في "سيره البطيء" يفتح جبهات للصراع مع الجميع. فبعد معركته مع كل النخب السياسية والقوى المدنية، فتح الرئيس جبهة للصراع مع القضاة لم تنغلق بعد ومازالت مفتوحة ولا نعتقد أنها ستنتهي قريبا خاصة بعد أن كسرت "المحكمة الادارية" قرارات الرئيس ونقضت أحكامه وأمرت بإرجاع القضاة المعزولين إلى وظائفهم.
وفتح الرئيس جبهة أخرى مع النقابات الأمنية القوية، وتصاعدت خطابات التهديد منها بعد قرار الرئيس حل بعضها وتوحيدها في نقابة واحدة تهتم بالجوانب الاجتماعية فقط، وهذا الصراع مع القضاة والأمنيين انضاف إليه إلغاء فجئي لجلسة تفاوض مع اتحاد الشغل. هذه المعارك الداخلية يُضيف إليها الرئيس معارك خارجية، إذ لم يعد صدرُه يحتمل الضغوط الخارجية، ويُكرّر كل مرة إن السيادة خط احمر.
في كل هذه الجبهات المفتوحة لا يبدو لنا أن الرئيس التونسي قيس سعيد "سيد قراراته" فسيضطر قريبا للبحث عن خلاص من كل هذه المعارك، ولن يكفيه تجاهلها وإنكارها، فالتونسيون شعبٌ صبورٌ ولكن لصبره دائما حدود.
ونحن نعتقد العجز الغذائي والطاقي وانتشار الفقر وبوادر الانهيار الاقتصادي كلّها نُذر انفجار اجتماعي، والعزلة الخارجية التي صارت بائنة وتحول الملف التونسي إلى البنتاغون ينضاف إليه تململ القوات الأمنية في تونس مؤشرات على "خريف ساخن" يجعل التركيز على الانتخابات غير ذي جدوى، فبيننا وتاريخها أربعة أشهر قد يجري فيها الماء نحو مسارات أخرى.
قيس سعيد بين "جزرة" ماكرون.. و"عصا" أمريكا
إلى أين تتجه تونس بعد الاستفتاء؟
غيبة الاتحاد العام التونسي للشغل أثناء الاستفتاء على دستور الرئيس